بسم الله الرحمن الرحيم
(ومَنْ لا يُكرِّمْ نفسَه لا يُكَرَّمِ)
(1)
عنوانُ هذه المقالة هو عَجُز بيت من معلقة الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن
أبي سُلْمَى، وصدرُه: (ومنْ يغتربْ يحسبْ عدوّا صديقَه).
ومغزى هذا العنوان أنَّ مَن لم يجتنب أسباب الهوان والمذلة والاستخذاء، فلا
ينتظرْ مِن الناس أن يُعزّوه ويرفعوه ويكرّموه؛ مَن رضي بالذّل منهاجا في عمله
السياسي، فلْينتظرْ، في دولة المخزن، المزيدَ من ألوان المهانة وأشكال الاحتقار.
فحزبُ العدالة والتنمية اليوم يجني ثمارَ طريق الذّلة والصَّغَار التي
اختار أن يسلكها في مشواره السياسي تُجاه النظام المخزني؛ فقد بدأ هذا المشوارَ
بالخضوع والانقياد والتسليم، ولم يكن عنده إزاء المخزن إلا السمعُ والطاعةُ، مهما
كانت الظروف والمناسبات.
لقد انبنت العقيدةُ السياسية لحزب العدالة والتنمية، وخاصة بعد التبرؤ من
الشبيبة الإسلامية وتأسيس جمعية "الجماعة الإسلامية" سنة 1983، التي تحوّلت
فيما بعد إلى "حركة الإصلاح والتجديد"-لأن أبرزَ قيادات الصفّ الأول في حزب العدالة والتنمية هم مِن خريجي هذه
المدرسة-على الانصياع المطلق لإرادة المخزن، مهما كانت مطالبُه وأهواؤه وأوامرُه.
أذكّر بهذه الحقيقة من التاريخ القريب، التي كثيرا ما ينساها الناس، وخاصة
من الشباب الحديث الذي فتح عينيه البارحة فلم ير إلا السيد بنكيران يصول ويجول
بخطاباته النارية ضد "التحكم" و"العفاريت"
و"التماسيح". وإني أدعو وأتحدّى كلَّ من يرفضُ أو يشكّك أو يعارضُ هذه
الحقيقة أن يأتيني ولو بشذْرة مِن جملةٍ أو موقف أو خطاب أو قرار من أدبيات إسلاميّي
حزب العدالة والتنمية منذ 1983 تُشتمّ منها رائحةُ الاعتراض على المخزن، أو السيرِ
في غيرِ اتجاه هواه، أو رفضِ شيء مما كان يفرضُه عليهم.
هذا ما يشهد به التاريخُ الحديث القريب على حزب العدالة والتنمية، الذي
نراه اليوم ينزل إلى حضيض العمل السياسي، حينما قبل أن يرميَ كلَّ المبادئ والقيم
والشعارات المعسولة والتصريحات العنترية وراء ظهره، وأن يخضع لإرادة المخزن،
ويهرول إلى حجز مقاعده في حكومة المخزن.
لقد كان بعضُ الناس يؤمّلون بعضَ الخير، وينتظرون من حزب العدالة والتنمية
أن يفيَ ببعض وعوده والتزاماته السياسية، وخاصة بعد مخاض الربيع العربي سنة2011،
لكن ظنَّ الجميع قد خاب، بعد إعلان السيد العثماني خضوعَه الكلي للمخزن، وقبولَه
بكل الشروط والإملاءات لتكوين الحكومة الجديدة.
إن إعلان 25 مارس بميلاد الأغلبية الحكومية كان، في اعتقادي، بمثابة الصعقة
التي أيقظتْ ونبّهتْ كلَّ مَن كان ما يزال لديه شكٌّ في مخزنيّة حزب العدالة
والتنمية، وفي عدم أهليّة قيادتِه مِن الصف الأول للارتقاء بالعمل السياسي إلى
المستوى الذي يليق بالقيم الديمقراطية الأصيلة، وبما يعلنه الحزبُ من مبادئ، وبما
يرفعه من شعارات، وبما يبثّه من خطابات، وبما ينشره من أدبيّات.
لقد سقط القناع بإعلان 25 مارس، ولم يعُدْ أحدٌ من العقلاء الفضلاء ينخدع
بخطابات "المظلومية"، التي طالما احتمَى بها حزبُ العدالة والتنمية في
مواجهة خصومه، وكذلك في مواجهة ما كان يُوجَّه له من طعون وانتقادات، وخاصة فيما
ينصَبُّ منها على اجتهاده السياسي وإيديولوجيته المخزنية.
وإني أذكّر دائما بأنه ليس عندي أيُّ مشكل مع الأشخاص، ولا مع ما يعتقدون وما
يضمرون؛ فكل امرئ رهينٌ بعمله، حسب نيته ومقاصده، والله هو الذي يتولى السرائر؛
فلا شأن لي بضمائر الناس، وإنما شأني بما يكون منهم مِن سلوكات ومواقف وقرارات
يمكن معاينتُها وقراءتُها وتفسيرُها وتقويمُها.
فأنا هنا أقرأُ وأقوّم وأحكمُ على مواقفَ واختيارات وقرارات باتت منشورة
ومعروفة، ولا أحكمُ على مغيَّبَاتِ الصدور، ومُعتقدَات القلوب. أذَكّر بهذا حتى
يترسَّخَ ويصبحَ واضحا عند جميع القراء.
أنا، حينما أصنّف حزب العدالة والتنمية في الأحزاب المخزنية، فبناءً على
معطيات مَعِيشَة، وأدلة واضحة، ومواقف صريحة، وخطابات قاطعة، وليس بناء على موقفي
من هذا الشخص أو ذاك، وإن كان لي رأيي في بعض أفراد قيادة الصف الأول في حزب
العدالة والتنمية، الذي كوّنته مِن معرفتي بهم في فترة ماضية، ومما خَبَرته،
بالتعامل المباشر، مِن بعض خصالهم ومبادئهم ومواقفهم وتصرفاتهم.
(2)
بعد هدوء عواصفِ الربيع العربي التي عرفها المغرب في سنة 2011، وبعد فوز
حزب العدالة والتنمية في انتخابات نونبر2011 بالمرتبة الأولى، سرى في الناس أثرُ مُخَدِّرٍ
قويٍّ، بمساعدة وجُهدٍ كبيرين من الدعاية المخزنية التي كانت ترمي إلى طمأنة الرأي
العام والرجوع بالشارع إلى الهدوء، فأسلمَهم لنوم عميق استغرق خمسَ سنوات، تخللته أحلام
عامرة بالأماني المعسولة. ولم يكد ظلامُ الليل ينقشع حتى انقلبت الأحلامُ اللذيذة
إلى كوابيس مرعبة منفّرة، قد جمّعت مِن البشاعَات والنتانات ما لا يطاق.
لا أشك أن كثيرا من الناس قد انخدعوا بالمرجعية الإسلامية لحزب العدالة
والتنمية، كما انخدعوا بالخطابات العاطفية المدغدِغة للمشاعر، والموَلِّدة للآمال
والأحلام، وخاصة خطابات السيد عبد الإله بنكيران.
في الأثر: (مَن خدَعنا بالله انخدعْنا له). وهذا لا يعني إطلاقا التشكيكَ
في نوايا الناس، والحكمَ على مطويات ضمائرهم ومعتقداتهم. فلست أقصدُ أن قيادة حزب
العدالة والتنمية كان تستغل، عن قصد مبيَّت، عواطفَ الناس الإسلامية، لتركبَها
لبلوغ أهداف حزبية أو ذاتية.
مقصودي بانخداع الناس بالخطاب الإسلامي، أو بالخلفية الإسلامية لحزب
العدالة والتنمية، أن الناس كانوا يتصورون أن وجود الحزب في الحكومة، أو وجودَه،
على الأقل، قريبا من المصادر العليا للقرار في البلاد، سيكون له انعكاسات إيجابية
في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن الحزب-كما يتصور عامة الناس الذي
تعاطفوا معه وصوتوا لصالحه-ذو مرجعية إسلامية، ويده نظيفة لم تتلبس بشبهة من شبهات
استغلال المناصب، ونهب المال العام، والحرص على المصلحة الخاصة على حساب المصلحة
العامة.
والحقيقةُ التي كان على الحزب أن يبيّنها للناس فلمْ يفعلْ، هي أن الذي
يقعُ بين أضراسِ النظام المخزنيِّ لا ينفعه إيمانٌ ولا إسلام، وإنما النافعُ
الصالح المُرْبح مع النظام المخزني هو الولاء والسمع والطاعة والانقياد المطلق.
هذا هو الأساسُ الذي انبنى عليه الاختيارُ السياسي لحزب العدالة والتنمية
منذ أكثر من ثلاثين سنة. وقد اجتهد بعضُ قادته، كالسيد سعد الدين العثماني، والسيد
محمد يتيم، في كثير من كتاباتهم، منذ وقت مبكر، أن يجدوا لمراجعاتهم السياسية
مسوّغاتٍ فقهيةً، فراحوا يبحثون في فتاوى القدماء، ويَنْظُرون في الأدلة التي بنى
عليها العلماء بعضَ اجتهاداتهم السياسية في شأن علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي
شأن الموقف الشرعي من الأنظمة الجائرة، فاجتمع بين أيديهم مِن ذلك متْنٌ لا بأس
به، اتخذوه تُكَأَةً اعتمدوا عليها في تبرير انصياعهم للمخزن، والتحوِّل مِن
اتجاههم الأول، الذي نبَت في أحضان (الشبيبة الإسلامية)، إلى اختيار المشاركة في
اللعبة المخزنية بلا قيد ولا شرط.
لقد بالغ هؤلاء المحلّلون-بمعنى المُحلِّلِ الذي يتزوّج المطلقَةَ ثلاثا
حتى يحلّ لها الرجوعُ إلى مُطلِّقِها الأول، أيْ الذي يجعل ما كان محرَّما بالطلاق
البائن حلالا-مِن حزب العدالة والتنمية وتعسّفوا بعضَ التعسف في إسقاط فتاوى القدماء
واجتهاداتهم الفقهية على واقعنا السياسي، فكان مِن سلوكهم هذا أنهم رأوا الانبطاحَ
السياسيَّ وما يكون معه مِن ذل وهوان اختيارا راجحا على البقاءِ في دائرة المعارضة
ومواجهة النظام المخزني، ورفضِ الفساد والاستبداد.
كان هذا في بدايات تحوّلهم. ومع الأيام، وبعد سنواتٍ من الترويض في الطاحون
المخزني، أصبحوا يرون أن الشرعية كلَّ الشرعية إنما هي للنظام، وأن المصلحةَ
الراجحة تقتضيهم أن يكونوا دائرين مع المخزن، حيثما اتجه، وكيفما فعَل.
وقد ترجمَ حزبُ العدالة والتنمية، ووراءه (حركة التوحيد والإصلاح)، ووراء
الجميع، مِن قبلُ، (حركة الإصلاح والتجديد) و(رابطةُ المستقبل الإسلامي)، هذه
الاستفاداتِ الفقهيةَ مِن اجتهادات القدامى إلى برنامج سياسي متكامل، يَدين في
روحه بالولاء التام للدولة المخزنية. ومِنْ رَحِم هذا البرنامج، خرج الجيلُ الثاني
والثالث من قيادات الحزب وأطره؛ أما مَنْ شذَّ، فهو من الاستثناءات التي تؤكد القاعدة.
إن الذين انخدعوا بالخلفية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، من عامة
الناس، لا يعرفون كثيرا في هذا "التحليلات" الفقهية، والتبريرات
المقاصدية، التي ما فتئ يستند إليها منظّرُو الحزب، كالسيدين العثماني ويتيم، في
إيجاب السمع والطاعة، في المنشط والمكره، للنظام المخزني الحاكم.
وهل مِن المقاصد الشرعية أن يكون مِن الحزب الخضوعُ التام، لا لعلَّةٍ إلا
لأن في عدم الخضوعِ توهمَّ احتمالِ التصادم مع النظام، أو توهُّمَ احتمالِ غضبه
وردّه القاسي الذي لم يعودوا مستعدِّين لتحمُّله، أو توهُّمَ احتمالِ الرجوع إلى
النسيان ومعاناة الوحشة بعد أن ذاقوا نعيم القرب والأنس؟
هل مِن المصلحة الراجحة القبولُ بالهوان والذل مِن أجل تثبيت المكتسبات
المحقَّقَة؟ وعن أيِّ مكتسبات يتحدثون؟
وأين هو وجهُ المفسدة اليوم في مقاومةِ الاستبداد والفساد؟
وأين هي المصلحةُ في التطبيع مع المفسدين، و"تحليل" سياساتِ
المستبدِّين؟
نعم، في هذا المستوى يظهرُ الاستغلالُ السيء للدّين، لأنه استغلالٌ يزيد من
تنويم العامّة وتخديرهم، ويجعلهم لُقَما سائغة في حلوق أهل الجور والتحكم والفساد.
(3)
لم يكد خبرُ الإعلان عن مكونات الحكومة المخزنية العثمانية-نسبة إلى
الدكتور سعد الدين العثماني-ينتشرُ حتى انطلقَ "المحلّلون"-مِن تحليل
الحرام، كما سبقت الإشارة-مِن الأنصار الموالين في تسويغِ ما وقع وتبريره، وتقديمِه
على أنه عمل سياسيٌّ طبيعيٌّ ومشروعٌ، وأنه ليس مِن الانبطاح والتخاذل والقبول
بالذِّلة في شيء.
فمِن قائل-من هؤلاء "المحللين" المسوِّغين الموالين، ومنهم أعضاء
في قيادة الأمانة العامة للحزب-إن السياسة لا بد فيها من التنازل، وأن قراراتِ
الحزب ليست مقدسة، وأن الأحكامَ تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وأن السيد العثماني
لم يكن له محيد أن يختار أحدَ الضَّرَرين فاختار أخفَّهما؛ أيْ أنَّ أثقلَ الضرريْن
المتروكَ هو الخروجُ إلى المعارضة، والدفاعُ عن المبادئ والقيم، ومواجهةُ دولة
الاستبداد!
ومنهم مَن استعان في دفاعه عن الأغلبيّة المعلنِ عنها-مِن مكوّنات هذه
الأغلبية، كما بات معلوما، حزبُ الاتحاد الاشتراكي الذي طالما أبدت قيادةُ الحزب
تشددا وصلابة في رفض وجوده داخل الحكومة، إلى درجة أن السيد بنكيران قال في بعض
تصريحاته-وهو ما يشبه القسَمَ-إنه لن يكون هو بنكيران إن أصبح الاتحاد الاشتراكي مِن
مكونات الحكومة؛ وها هو ذا قد أصبحَ من مكوناتها، وأنفكَ راغم، فماذا أنت فاعلٌ،
يا سيدي؟ هل ستفي بما قطَعْته على نفسك؟ -
قلتُ ومِن "المحللين" مَن ذهب في دفاعه عن الأغلبية الحكومية
الجديدة إلى استدعاء مبررات "مُحَلِّلاتٍ" من السيرة النبوية، فذكّر
بقصة "حلف الفضول" في الجاهلية، و"صلح الحديبية" في الإسلام؛ وكل
هذه الاستدعاءات من أجل بيان أن المصلحة الراجحةَ مُقدَّمة على المفسدة، وهذا
يعني، عندهم، على ضوء واقعنا السياسي، أن الخضوعَ والاستسلام لإرادة المخزن هو مِن
المصلحة الراجحة. طبعا، المصلحةُ المرجوحة هي النأيُ بالحزب عن المخزن وفلكِه،
والتشبّثُ بالدفاع عن إرادة الناخبين، والمبادئ الديمقراطية النظيفة.
ومن هؤلاء "المحللين" مَن زعم أن السيد بنكيران لم يفشل، وأن خلَفَه
لم يستسلم ولم يفرّط في المبادئ، وأن الحكمةَ السياسية فرضت على الحزب أن يرجعَ
خطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوات إلى الأمام. أيُّ وراء؟ وأيُّ أمام؟ وأي
حكمة؟ وأي تقدّم؟ وهل أشنعُ وأردأُ وأحطُّ وأسخفُ مِن هذا اللف والدوران لتسويغ
الذل والمهانة والانبطاح ولَعْق الأحذية؟!!
ومنهم مَنْ أرجع سببَ هذا الانبطاح العبثي إلى الشعب، الذي، في زعمهم،
اختار أن يُعطيَ لحزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى في الانتخابات، ليكون في
الحكومة، لا ليرجعَ إلى المعارضة!
ما أكثرَ الفظاعاتِ والبشاعاتِ التي تُرتكب باسم هذا الشعب المسكين!
وما أكثرَ المصائبَ والجرائمَ التي تُبرَّر باسم المصلحة الوطنية العليا
المفتَرى عليها!
وما أكثرَ السفالاتِ والحقاراتِ والدناءاتِ التي تُسَوّغُ وتُفرضُ باسم
العزة والشرف والكرامة!
المهمُ عند "المحلّلين" هو الاجتهاد والاحتيال من أجل إيجاد
المبررات، مهما كانت متهافتة، ومهما كان ضعيفة ومجرَّحة ومُهَلْهَلة، وإلا، فما
علاقة السيرة النبوية الشريفة الطاهرة بهذه "التحليلات" الحضيضيّة-من
الحضيض أي النزول إلى القاع-التي تصل في بعض عباراتها إلى الوقاحة الصريحة؟
ما علاقةُ القواعد الأصولية بالتفاهات السياسية التي تُقَرَّر وتُعتَمَد
باسم "الإجماع" و"الشورى" و"الديمقراطية الداخلية"؟
باختصار، ما علاقة معالي الأمور بسَفْسَافها؟ وما علاقة المعروفات بالمنكرات؟
وما علاقةُ الشريف العريق ذي الباع بِهَيِّ بْنِ بَيّ؟ يُقال لمَنْ لا يُعرف أصلُه
هو (هَيُّ بْنُ بَيٍّ).
وبعد، فهل أصدقُ، في سياق هذه المقالةِ، مِنْ قول الشاعر الجاهليِّ
الحكيمِ: (ومَنْ لا يتّقِ الشّتمَ يُشْتم)؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.