الاثنين، 30 نوفمبر 2015

تقديم "ذاكرة الحصار"

بسم الله الرحمن الرحيم

"ذاكرة الحصار" هو الاسم الذي اخترته لعملي الرقمي الجديد؛ وهو ديوان جمعت فيه قصائد منتقاة نظمتها في مناسبات مختلفة، على مدى حوالي خمس وعشرين سنة. والمضمون الأساس لهذه القصائد، كما يشي بذلك العنوان، هو الحصار المخزني الذي تضربه الدولة المخزنية على جماعة العدل والإحسان خاصة، وعلى كل المعارضين الحقيقيين لدولة الاستبداد والقمع والفساد عامة. وفيما يلي نص التقديم الذي كتبته لهذه الذاكرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله ربّ العالمين حمدا طيّبا مباركا فيه، يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، وأصلي وأسلم صلاة وسلاما تامين كاملين على خاتم النبيئين والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته المنتجبين الأخيار، وبعد؛
فهذا ديوان "ذاكرة الحصار"، جمعت فيه قصائد انتقيتها مما نظمته، في مناسبات متعددة، خلال فترة زمنية تمتد لحوالي خمس وعشرين سنة.
أما الذاكرة، فإنما هي للحفظ والتّذكار، والدراسة والاعتبار، ومعرفة الماضي وصيانة الآثار، وكذلك للتفكر والتدبّر ومدّ حبل التواصل بين الأجيال.
وأما الحصار، فإن المقصود به، بالتحديد، الحصارُ الذي تفرضه الدولة المخزنية المغربية على جماعة العدل والإحسان، وهي جماعة دعوية إسلامية، يقوم منهاجها على أساس تربوي سياسي، من أجل موعود الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
وقد بدأ الحصار المخزني على الجماعة منذ بيانها الأول، الذي ظهر قبل تأسيس "أسرة الجماعة" سنة1981، وهي نواة الجماعة، التي ستشتهر، فيما بعد، بجماعة العدل والإحسان. وهذا البيان هو رسالة "الإسلام أو الطوفان"، التي كتبها مرشد الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، في سنة 1974 للملك الحسن الثاني، ينصحه ويبشره وينذره، بأسلوب جمع بين القوة والرفق، وبلغة الرجل الداعية، الذي يقول الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقد كنت دائما أرى أن الحصار المخزني المضروب على جماعة العدل الإحسان حصاران، وليس حصارا واحدا؛ الأول، وهو الأصل الثابت في السياسة المخزنية، وهو الحصار الشامل الجذري، الذي أصفه بالأكبر، وهو الذي يستهدف الجماعة من أصلها، بما هي كيان ووجود وحياة، وبما هي دعوة في القلوب، وبما هي أفكار في العقول، وبما هي تنظيم ومقاصد، وبما هي منهاج، وبما هي بشر يتحركون في الأرض، وبما هي نقيض للنظام المخزني. فالحصار، بهذا المعنى، الغاية منه استئصال الجماعة من جذورها، حتى يصبح وجودها في حكم العدم. إن الحصار الأكبر هو معركة حياة أو موت: إما أنا، وإما هو.
والحصار الثاني، الذي أصفه بالأصغر، إنما هو تجليات عملية "تكتيكية" تنفيذية لمخطط الحصار الاستراتيجي الأكبر. وقد تجلى هذا الحصارُ، أكثر ما يكون التجلي، في محاصرة مرشد الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، في بيته، لأكثر من عشر سنوات(1989-2000). وقد تجلى أيضا، وما يزال، في عمليات المنع والقمع، والاعتقالات والمحاكمات، وسائر أشكال الاستفزازات والمضايقات والمتابعات، التي ما فتئت الدولة المخزنية تنفذها ضد جماعة العدل الإحسان، التي ما تزال تشكل المعارض (رقم1) على قائمة معارضي النظام المخزني، الذين يرفضون دولة الاستبداد والتعليمات من أساسها، ويناضلون من أجل بناء دولة المؤسسات والقانون والحريات.
***
أهدي هذا العمل إلى روح الشريف سيدي محمد العلوي السليماني، رحمه الله، وأسكنه في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والمحسنين، وحسن أولئك رفيقا.
إننا، في هذه الأيام، نعيش في أجواء الذكرى السابعة لوفاة سيدي العلوي، بالتقويم الميلادي (دجنبر2008-دجنبر2015)، وهي المناسبة التي اخترتها لنشر هذه الذاكرة، لتكون، لجميع إخواني وأحبائي، الذي عرفتهم وعاشرهم وخالطتهم وشاركتهم وشاركوني في كثير من الأفكار والأعمال والمشاعر، ذاكرةً للمحبة والوفاء والوداد والأخوة الصافية من الشوائب[1].
الذاكرة، مع الشريف سيدي العلوي، هي ذاكرةٌ للصبر والمصابرة، وذاكرةٌ للعطاء والغَناء واحتساب الأجر عند الله، وذاكرةٌ للوفاء والإخلاص والاجتهاد في المصاحبة والدعوة والإنفاق في سبيل أن تعلوَ كلمة الحق ويزهق الباطل، ومن أجل أن يفلح المؤمنون القائمون الصابرون المصابرون، ويخسأ الظالمون المجرمون.
لقد أحب الناس الشريفَ العلوي، مَنْ عرفه عن قرب ومن عرفه عن بعد، وكانت له في قلوب الإخوان والأخوات، من جماعة العدل والإحسان، مكانةٌ كبيرة وعالية وراسخة، ولم يكن منهم ومنهن إلا مَنْ يرفعه ويجله ويقدره محبة واعترافا ووفاء.
لقد شهد له مرشدُ الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله وأكرم مثواه، بالسابقة والغَناء حينما ذكر، في حوارات خاصة كانت معه في سنة1989، عن الظروف التي أحاطت بكتابة رسالة "الإسلام أو الطوفان"، في سنة 1974، أنه، عند كتابة الرسالة، لم يجد بجانبه إلا رجلين اثنين، هما الأستاذ محمد العلوي السليماني، والأستاذ أحمد الملاخ، الذي توفي، رحمه الله وجزاه أوفى الجزاء، في يناير من سنة 2011.
وقد شهد المرشدُ لصاحبه، في الكلمة التي سجلها للحفل التأبيني، الذي نُظّم ببيت سيدي العلوي يوم 3دجنبر2008، بأنه "كان سباقا إلى الجماعة، إلى نصرة الحق، يوم كان بعض الناس يخنسون ويترددون ويخشون مَن لا يخشى الله، عز وجل...".
وفي الكلمة نفسها وصف المرشدُ، رحمه الله، صاحبه سيدي العلوي بأنه "كان رجلا وأيَّ رجل"، وهي عبارة تفيد في العربية معانيَ الإكبار والمدح والتعجب والتقدير؛ كان رجلا وأيَّ رجل، أي كان رجلا كاملا، في كل صفاته وسلوكاته ومشاعره ومواقفه؛ كان راحلة في زمن العسرة، وكان مخلصا وفيا مضحيا في زمن عز فيه الأصحاب، وقل فيه الظهير، واستحكم فيه إرهاب الدولة المخزنية.
في وصفٍ جامع مانع، وأسلوبٍ شائق رائق فصيح: كان سيدي محمد العلوي السليماني رجلا وأيَّ رجل.
ولم يزل قلبه، رحمه الله، يتسع لكل الناس، منذ عرفته، أول مرة، في يوم من أيام سنة 1983 أو 1984، حتى وفاته، نوّر الله ضريحَه، في دجنبر2008.
***
شعب الإيمان، في الخطابات المتلوة والنصوص المحفوظة والشعارات المرفوعة والدروس المستَظهَرَة، هي غيرها في السلوك والمعاملات والأفعال المنجزة في الواقع.
قد تتحول شعب الإيمان، إن هي ظلت حبيسة الخطابات والمحاضرات والمحفوظات، إلى "إيديولوجيا" تخنق الإرادة، وتحبس الهمم أن تنطلق إلى فضاءات الإيمان الرحبة، وترتقيَ في درجات الإحسان العالية.
لقد كان الشريف سيدي محمد العلوي، رحمه الله وجزاه عما قدّم أكرم الجزاء وأوفاه، في سلوكه ومعاملاته ومشاعره وأعماله، في الواجبات والنوافل، وفي التطوع والتصدق وأعمال القربات وغيرها من أعمال البر والطاعة والإحسان والإكرام،  مثالا حيا على شعب الإيمان الراسخة في القلب المطمئن والمحبة الصادقة والذكر الدائم.
لقد كان، في خطابه، رحمه الله ورفع مقامه، بعيدا عن التقعر والتكلف والتعقيد. بل كان خطابه من السهل الممتنع، يفهمه الصغير والكبير، والمتعلم والأمي، والحرفي والإطار العالي، لا تشوبه شائبة من "الإيديولوجيا"، التي ابتلينا بها في كثير من خطابات دعاة هذا الزمان ووعاظه وخطبائه.
لقد كانت صحبتُه، رحمه الله، للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، أعلى الله مقامه، صحبةً راسخة الجذور في تربة المحبة المحمودة في الشرع وفي موازين الأخلاق والعواطف الإنسانية، السليمة من شوائب الصحبة الإيديولوجية، التي يغرق أصحابها في أفهام ومعتقدات وتأويلات، وخاصة فيما يخص المربي المصحوب، يصعب الدفاعُ عنها، عقديا وفقهيا، وتصعب استساغتُها واستساغة الأساس الفكري التي تنبني عليه.
رحم الله الشريف سيدي محمد العلوي؛ فقد كان صاحبا وفيا، ومحبا صادقا، ومؤمنا مجتهدا، في فرضه ونفله وسائر طاعاته وقرباته. وكان كلامه، مع إخوانه خاصة، ومع الناس عامة، في موضوعات، كالصحبة والذكر والإحسان والقومة والخلافة -على سبيل المثال- كلاما بسيطا بعيدا عن التفلسف والتعالم والتعقيد الفكري والتشدق اللفظي، بل كان الشريف يحرص دائما ألا يتيه بالناس، الذين يستمعون إليه، في مجاهل الأفكار والاعتقادات، وفي عويصات الاصطلاحات والمفاهيم والتصورات المجردة. وكان  مخاطَبُ سيدي العلوي لا يلاقي أي صعوبة في فهم كلامه واستيعاب مقصوده وإدراك مرماه، وذلك بسبب أن ما كان يعتمل في صدر الشريف وجنانه من أفكار ومعان ومقاصد، كان يجده المستمع جاريا على لسانه بسلاسة في التعبير، وبألفاظ غاية في البساطة والوضوح.
رحم الله الشريفَ سيدي العلوي؛ لقد كان رجلا وأَيَّ رجل.
***
وبعد، فقد ضمّت "ذاكرة الحصار" قصائدَ منظومة في مناسبات مختلفة، الجامعُ بينها أنها كانت من وحي أجواء القمع والمنع، التي كانت تفرضها الدولة المخزنية -وما تزال، وإن اختلفت الشعارات والأساليب والأدوات- على مختلف مناحي الحياة السياسية والفكرية والإعلامية والاجتماعية، وخاصة على المعارضين الثوريين للدولة المخزنية، أفرادا كانوا أم جماعات وتنظيمات.
وقد قصدت بنشر هذا الجزء من الذاكرة تحقيق ثلاثة أمور، على الأقل:
الأمر الأول إبقاء هذا التاريخ حيا في متناول يد كل من يريد الاطلاع عليه، وقراءته من خلال لغة النظم والوزن، وعبارة المشاعر والمجاز.
الأمر الثاني هو التعبير عن مشاعر الوفاء والإخاء والمودة، التي ما تزال جوانحي تفيض بها تجاه كل إخواني، الذين صاحبتهم وخالطتهم وعايشتهم، في هذه الفترة التي تستغرقها قصائد هذه الذاكرة، والذين كانت لي معهم، منفردين أو مجتمعين، ذكريات ومشاركات وسفريات ونضالات ورباطات، عمرت زمنا طويلا.
الأمر الثالث هو اعتقادي أن هذا الجزء من الذاكرة المنظومة هو، في حقيقته، مِلكٌ لكل من عاشه وشارك فيه بعضَ المشاركة، كثيرا أو قليلا، وكذلك هو ملك لمن لم يعشه، وإنما قرأ عنه، هنا وهناك، أخبارا وتحليلات، وسمع عنه حكايات، أو رُويت له من بعض القدماء السابقين بعضُ الروايات.
نَعم، إنها ذاكرةٌ مصبوغةٌ بلونِ عواطفي ومشاعري وانطباعاتي، ومتلبِّسةٌ بحقيقة تأملاتي وتقديراتي وتقويماتي، ومنغرسة في أرض قناعاتي وتصوراتي، وآمالي وتشوفاتي. إنها، بتعبير آخر، ذاكرةٌ جماعية بمذاق أو بمنظار فردي شخصي. وكونها على هذه الصفة يجعلها، في اعتقادي، أكثر مصداقية، وأصدق نقلا وتوثيقا، وأعمق تعبيرا عن واقع الأحداث والتاريخ، وأدق تصويرا في رصد المشاهد، ووصف الأحوال، وعرض المشاعر والأفكار. ومن هنا خاصّيةُ الذاكرة المنظومة وميزةُ شهادتها بمقارنتها بالتاريخ المكتوب وشهادة التعبير المنثور.
***
لقد أثبت القصائد في الصورة التي نظمت عليها في الأصل، لم أغير شيئا في مضامينها، ولا في عباراتها، إلا ما كان من ضبط لغوي لبعض المفردات، وتصحيح لبعض الأخطاء التي وقعت بسبب السهو أو إهمال المراجعة، فضلا عن إضافة بعض الهوامش للشرح والتوضيح والتوثيق.
وإني لأرى أن من الأمانة والوفاء لهذه الذاكرة إثباتَ النصوص في صياغتها الأصلية، بكل ما حملته من أفكار وآراء وقناعات ومشاعر، وبكل ما عبرت عنه من رؤى ومواقف، وإن كانت  آرائي اليومَ وأفكاري ومواقفي قد تغيرت في شأن بعض الاجتهادات والسياسات والاختيارات، التي عليها الجماعة، وخاصة فيما يتعلق بمنهاجها السياسي.
وقد رتبت معظم نصوص هذه الذاكرة حسب التسلسل التاريخي؛ الأول يتبعه الثاني ثم الثالث، وهكذا في تتابع زمني إلى آخر نص. واتباع هذا الترتيب الزمني التصاعدي، في نظري، يفيد في إعطاء القارئ فكرة واضحة عن الأحداث والوقائع وتواريخها وتطورها، وعن تطور أسلوب النظم والتعبير، كما يفيد في تيسير التقاط صورة عامة وشاملة عن "الذاكرة" التي تعرضها النصوص المختارة.
***
(رَبَّنَا، اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا، إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)
(رَبَّنَا، لَا تُواخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا، وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

فاس: 14 صفر 1437، الموافق لـ26 نونبر 2015.

تنبيه: يمكن تصفح هذا الديوان وتحميله(نسخة جديدة ومعدَّلة) على الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/0B1_swnxRNjyoUVF6NjlMUGJOOEE/view?usp=sharing


[1]  يجب الترحم ههنا على واحد من رجالات جماعة العدل والإحسان السابقين، وصاحب من أصحاب الأستاذ عبد السلام ياسين الأوفياء المخلصين، وهو الحاج علي سقراط بن منصور، الذي فاضت روحه إلى بارئها صباح يوم الأحد 18 محرم 1437، الموافق لفاتح نونبر 2015. رحم الله الحاج عليا، ورضي عنه ورفع مقامه في المحسنين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.