بسم الله الرحمن الرحيم
(فصولٌ في الشعر المُحدَث) هو عنوان
كتابي الأخير، الذي آثرت أن أنشره في صورة رقمية، ليتسنى له الوصولُ إلى
جمهور واسع ومتنوع من القراء.
إنه كتابٌ في النقد الأدبي، وهو ما يعني أنه موجه،
أساسا، إلى شريحة معينة من المهتمين من الباحثين والدارسين المتخصصين. لكن موضوعه،
وإن كان يدور حول ما عُرف بالشعر المُحدَث في تاريخنا الأدبي، فإنه وثيق الصلة
بموضوع أعم وأشمل وأعمق، هو موضوع الحداثيّة(الموديرنيزم)، التي تغزو اليوم،
بالحديد والنار، حقيقة ومجازا- وخاصة في مجالات الفكر والآداب والفنون- عقولنا وقلوبنا
وأذواقنا، وتجتاح ناشئتنا في المدارس، وشبابنا في المعاهد والجامعات، وتستنزف
طاقاتنا وأموالنا وأوقاتنا- وهي غالية لا تقدّر بثمن عند من يعرف قيمتها- في مراكز
الأبحاث والدراسات.
والمتتبع لكتاباتي ومقالاتي يعرف أن الحداثيّة التي
أقصدها إنما هي الحداثية في وجهها المتطرف الهدمي التخريبي العبثي، التي تنبع من
خلفية عقدية فلسفية إيديولوجية عمادُها ما أسميه بالإلحاد المناضل، الذي يسعى معتنقوه،
بالليل والنهار، لا يكلون ولا يملون، من أجل إطفاء نور الله، (والله متم نوره ولو
كره الكافرون).
وهذه مقتطفات من مقدمة الكتاب:
لقد زوّر الحداثيّون اللادينيّون-وما يزالون يفعلون-
الأخبارَ والحوادثَ والروايات التاريخية، واقتطعوا النصوصَ من سياقاتها الطبيعية،
لتوافق هواهم ومقاصدَهم، وانتقوا من الأسماء والأحداث والوقائع، بعد تأوليها حسب
ما يناسب مبتغاهم، والتصرف فيها بالزيادة والنقصان، والتلاعب ببعضها بالتحريف
والاختلاق، ما يخدمُ أهدافهم، ويُصدّقُ مسلّماتهم التي وضعوها بداية، وانطلقوا
يبحثون لها عن المثال، ويجلبون لها ما يسوّغها من النصوص والأخبار.
ومن معدن هذا التزوير المُنكر صاغ أدونيس(علي أحمد سعيد
إسبر) ما أسمّيه "مُسَلَّمَتَه الحدَاثيَّة"، التي ترى أن الإلحاد، في
تاريخنا العربي الإسلامي، كان "أول شكل للحداثة". وقد بنى على هذه
المسلمة أن جميع كبار شعراء العربية، كبشار بن برد، وأبي نواس، وأبي تمام،
والمتنبي، وأبي العلاء المعري، لم يكونوا مؤمنين بالوحي، بل-في زعمه- كان لهم وحيهم
الخاص، و"أن جميع
العباقرة العرب الذين نبغوا في الإسلام، من أبي نواس إلى المعري، وجميعَ كبار
الشعراء والفلاسفة، كانوا لادينيّين. ولم تَخرُجْ من الدّين مباشرةً ولا فكرةٌ
واحدةٌ، مثلما يخرج العطرُ من الوردة. فالمفكرون والشعراءُ خلقُوا ورودا جديدة
للحصول على عطر آخر"، وأن "الشعر، على طول تاريخه، كان معاديا
للدين".
والغالب على هذا التزوير الحداثيّ ركوبُ مركب التنَكّر
والتمويه والمغالطة أسلوبا في المجادلة والحجاج، من أجل الغلبة والإقناع، فضلا عن
الخلفية الإديولوجية اللادينية التي لا تغيب. بل إن هذا التزوير كان يظهر، في بعض
الأحيان، في صورة في غاية الوقاحة والدناءة والافتراء، وهو ما ينبهنا إلى هذا
الحضيض الذي بلغه الحداثيون اللادينيون المتطرفون المزوِّرون في الجراءة على
مقدسات الإسلام، وثوابت التاريخ، وحقائق العلوم، ونزاهة العلماء.
فالشعر المحدث بمنظار هذا التزوير الحداثي هو الرحم
الشرعي الذي فيه تخلّق الشعر الحديث. كيف؟ وبأي حجة أو مقياس أو مسوّغ يقرر
الحداثيون هذا؟
ليس هناك من حجة ولا مقياس ولا مسوغ علمي يقبله المنطق،
وتسلم به العقول إلا الهوى الجارف والإيديولوجية العمياء...
لقد بلغ البهتان الحداثي أوْجَه حينما تمّ وصفُ شعراء مُحدَثين مُسلمين، كأبي نواس
وأبي العلاء، مثلا، بأنهم كانوا مُلحدين. وهذا البهتانُ إنما يفضحه أن أشعار هؤلاء
الشعراء، وما وصلنا من أخبارهم الموثوق بها، وليس الأخبار الموضوعة المدسوسة، تشهد
بإيمانهم، رغم ما اشتهر عن بعضهم من خلاعة ومجانة وسخافة. أما مطويات ضمائرهم،
وسرائر قلوبهم، فأمرها إلى الله، سبحانه، الذي (يعلم خائنة الأعين وما تخفي
الصدور).
فليس بين الشعر المُحدَث، الذي تحدث عنه نقادنا القدماء،
وبين "الشعر" الحداثي الذي يجتاح حياتنا اليوم، في اعتقادي، أي علاقة
قرابة، وإنما هو التزوير الحداثي الذي فرض أن هناك علاقة "عائلية"
"فنية" "إبداعية" عريقة بين الاثنين. وقد لا نستغرب هذا
السلوك المنكر من "لقيط" ناتج عن حرام، يريد أن يثبت لنفسه نسبا شرعيا،
وهو يعلم حق العلم أنه مولود غير شرعي. إذن، سيجتهد في فعل كل شيء، بالحق والباطل،
من أجل أن يدفع عنه التهمة والنظرات المريبة التي لا تني تلاحقه.
وبعد، فإني أرى فصولَ هذا الكتاب خطوة جديدة في الطريق،
أتمنى أن تتبعها خطوات وخطوات، من أجل فضح هذا التزوير الحداثي الذي بات يخنق
حياتنا الأدبية، ومن أجل تحطيم أصنام النقد الحداثي اللاديني المتطرف، التي بات لها
سطوة على العقول والقلوب والأذواق، في المدارس والجامعات، وفي مراكز التأطير
والبحث، وفي غير أولئك من مناحي حياتنا، وبالخصوص في مضمار الفكر والثقافة والفنون
والآداب.
ومن الله، تعالى، العون والتيسير والتوفيق.