الخميس، 27 يونيو 2013

"الحداثيّة" و"اللادينيّة" وجهان لعملة واحدة

بسم الله الرحمن الرحيم

"الحداثيّة" و"اللادينيّة" وجهان لعملة واحدة


(1)
أصبح المشروع "الحداثي"، في خطاب اللادينيين، بكل فصائلهم وتوجهاتهم، يُقدَّم على أنه نقيضُ المشروع الإسلامي. وقد كثُر في خطاب خصوم الإسلاميين ومنافسيهم، بعد أن ظهرت الحركةُ الإسلامية وفرضت نفسها في الساحة السياسة رقما لا يمكن تجاوزه، استعمالُ كلمة "حداثة" وما يتعلق بها من نعوت وتصورات، حتى باتت هذه الكلمةُ تُستعمل في كثير من السياقات حشوا لا يعني شيئا، إلا الدعايةَ الفارغة من أي مضمون سياسي معقول ومفهوم، وإلا الغمزَ، من طرف خفيّ، في الإسلاميين والتنقيص منهم.
وقبل متابعة الكلام، أوضح أني أقصد بـ"اللادينيين" كلَّ من يقول: "لا دين في السياسة"، و"لا دين في الاقتصاد"، و"لا دين في الفن"، و"لا دين في التعليم"، ولا دين في غير هذه من مجالات أنشطة الإنسان وشؤونه الاجتماعية، وإن لم يكن ملحدا.
"الحداثة"، كـ"الديمقراطية" و"اللائكية"، و"العقلانية"، وأمثالها من المصطلحات والتصورات والمفاهيم، التي وردت علينا من الغرب، لها تاريخٌ في منبتها الأصلي، لكن معتنقيها من "الحداثيين" عندنا، يتعمدون ألا يقرأوا ذلك التاريخ، وألا يعتبروه في النقل والترجمة والتقييم. بل نجد أن أكثرهم يجتهد أيما اجتهاد ليفرض علينا قبولَ تلك الوافدات، بعُجَرها وبُجَرها، وإن كان وفودُها قد تمّ، أصلا، تحت حراب الاستعمار، ثم ترسخ بفعل طاحون التغريب.
والتغريب مصدر غَرَّبَ، وصيغة فَعَّلَ في اللغة العربية تُستعمل لعدة معاني، منها معنى التوجه والنسبة والإلحاق. تقول، مثلا: عرّبت الكلمةَ الأعجمية بمعنى ألحقتها باللسان العربي. وعلى نفس القياس نقول: غَرّبته إذا ألحقته بالغرب. وقد تُستعمل الصيغة لازمةً بمعنى التوجّه: فغرّب فلانٌ يُغرِّب، تعني اتجه نحو الغرب، ومتعديةً فتقول مثلا: غرّب الاستعمارُ كثيرا من الشعوب الإسلامية، أي ألحقَها بالغرب، وربطَها بحضارته، وجعلَها دائرة في فلكه.
والغربُ هنا لا علاقة له بالجهة والمنطقة الجغرافية، وإنما المقصودُ بالكلمة هو الحضارة والفكر والفلسفة والعقائد.
لقد كان الروح العقلاني اللائكي الغربي، في حقبة الاستعمار وما بعد الاستعمار، وراء ظهور أجيال جديدة تحمل منظورا جديدا في شؤون الكون والإنسان والمجتمع. إنه منظور أساسُه التعليم الغربي التغريبي، والتربيةُ على النمط الأوربي، والسلوك على المنهاج الغربي، لكن مع اعتبار الفرق بين الأصل والفرع، بين التابع والمتبوع، بين الغالب والمغلوب، بين المنتصر والمهزوم.
ومع تمكن هذه المذهبية اللادينية في أرض الفكر والثقافة في البلاد العربية الإسلامية، وتبنيها من قبل فئات واسعة من المثقفين ومن المفكرين والكتاب والأدباء والسياسيين، توافرت الشروطُ والظروف المواتية لاندلاع المواجهات الأولى بين أنصار هذا التيار اللائكي اللاديني وبين أنصار التيار العربي الإسلامي، وهو ما عُرف، في  أدبيات القرن الماضي بالمعركة بين أنصار القديم وأنصار الجديد. ويمكن مراجعةُ  معالم هذه المعركة وفصولها، في بداياتها الأولى، في كتاب مصطفى صادق الرافعي "تحت راية القرآن"، وفي مراحلها المتأخرة، في كتاب محمود محمد شاكر "أباطيل وأسمار".

(2)
وأسأل سؤالا واضحا لا يعرف اللف والدوران الذي ألفه كثيرٌ ممن يتسمون مثقفين في زمننا العربي الإسلامي الحديث:
من منا يمكنه، اليوم، أن ينكر العلاقة الوثيقة بين مفهوم الحداثة السائد في الخطابات الفكرية والسياسية، وفي المواقف الاجتماعية والاختيارات الاقتصادية، وبين المذهبية اللادينية، أي "اللائكية  laïcisme " بالاصطلاح الأجنبي؟
هل يمكننا- مهما كانت قدرتُنا على صناعة الحيل، واختلاق المبررات، ومهما كانت براعتُنا في العناد والجدال وتشقيق الكلام- أن ننكر هذا التقابل الواضح، الذي بات يطبع فضاءنا الفكري والسياسي، بين الخطاب "الحداثي"(بين قوسين) في ضفة، والخطاب "الإسلامي"(بين قوسين أيضا) في الضفة الأخرى؟ والسؤال هنا، طبعا، دائر حول الشائع الغالب، ومن ثمَّ فلا شأن لنا بالاستثناءات.
إن الاعتراف بحقيقة ارتباط المفهوم السائد للحداثة بالمذهبية اللادينية يُسهِّل علينا بدءَ الخطوة الأولى، وهي أساسٌ، على طريق معرفة الأصل من الفرع، وتمييز الأصيل من الدخيل.
ولا بد أن أوضح  أن المسألة التي ينصب عليها كلامي هنا لا تتعلق بهذا الدخيل من حيث هو دخيل، وإنما تعلُّقُها بهذا الدخيل من حيث هو أصلٌ مجلوب من تربة لها خصائصها، يُراد استنباتُه، بالتعسف والإكراه، في تربة الثقافة العربية الإسلامية، ثم تسويغُه والترويج له على أنه أصل "إنساني" لا يعرف حدود الثقافات، والحضارات، والأديان، والأجناس، والأعراق، واللغات.
إن جعلَ مفهوم الحداثة مناقضا ومعارضا ومحاربا للدين- وفي أحسن الحالات مُجَرِّدا للدين من أية أهمية أو فاعلية في شؤون الإنسان الحياتية، وخاصة السياسية والاقتصادية والثقافية- يرتبط بأصل ثقافي لا يمكن، مهما كانت التفسيراتُ والتأويلات، أن يكون بينه وبين الأصل الثقافي الإسلامي إلا التنافر والتدابر، ومن ثمَّ يتوجب فهمُ هذا الأصل الدخيل في سياق بيئته التي نبت فيها وتطوّر، حتى نضج واكتمل في صور فلسفات ونظريات وسياسات وعقائد، لها نظرتُها المتميزة إلى الكون، والخلق، والمجتمع، والأفكار، وسائر الموجودات من المحسوسات والمعقولات والمفهومات.
إن اللادينية، بكل صورها، هي غريب دخيلٌ على ثقافتنا الإسلامية، رضي بذلك مثقفونا "الحداثيون" أم لم يرضوا، لأنها الحقيقةُ التي يتكلم بها التاريخُ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، والتي لم يُفلح المزوّرون، والمُغالطون، أن ينالوا منها، في الماضي، وفي الحاضر الذي أصبح يُسعفهم بإمكانيات هائلة ووسائل متطورة كـ"الأنترنيت" و"القنوات الفضائية" وغير ذلك من مظاهر الثورة الواسعة في مجالات الإعلاميات والاتصالات.
المذهبية اللادينية غريبةٌ عن ثقافتنا الإسلامية، ومن ثمَّ فهي أصلٌ عند أصحابها قبل أن ينقلها الناقلون، ويترجمها المترجمون، ويدافع عنها المدافعون، بالحق والباطل، لإثبات أنها نبتةٌ مألوفة في ثقافتنا، وأن لها، في تراثنا، امتداداتٍ تاريخيةً، وأعلاما من أسلافنا، إلى آخر ما زعموا، واختلقوا، وما يزالون يزعمون ويختلقون.
ومن إفرازات الثقافة التابعة، في البلاد العربية الإسلامية، الدفاعُ عن المذهبية اللادينية بأنها من "التراث الإنساني العالمي"، الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية، والخصوصيات العقدية والمميزات الحضارية، فضلا عن كونها- في زعم الدفاع دائما- لا تتعارض مع عقائد الإسلام وأصوله الإيمانية إذا ما اعتمدنا منهجا "عقلانيا" "تنويريا" في النظر والفهم والتفسير والتأويل.
هذه مبرراتٌ يجادل بها قوم عن ثقافة "غالبة" "غازية" "طاحِنة"، هم أولُ من يعرف أنها ثقافة جُلبت إلينا تحت حرّ حِراب الاستعمار، واستُنبتت بأرضنا استنباتا بواسطة طاحون تعليم تغريبي كان من طِحْنه، بعد سنوات من العمل الدؤوب، نخبٌ انتهى إلى أيديها، بعد رحيل جيوش الاستعمار، زمامُ شأننا العام، وخاصة، في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام.
إن المذهبية الحداثية(أي المودرنيزم) نبتة أصلها هنالك في الغرب، لها ملابساتها وخصائصها، في النشأة والتطور والنضج والاكتمال، وأن "حداثيَّتنا" إنما هي فرع تابع، لا تملك من الأصالة إلا الشعارات، والمراوغات، والمغالطات، والتأويلات المعتسفة.
وليس كلُّ أصل نشأ في الغرب مرفوضا، مبدئيا وآليا، من حيث هو أصل أجنبي، كما تسعى أن توهمنا بعضُ الخطابات الحداثية التابعة، وإنما المرفوضُ هو هذا التلبيس الذي قد يخفي وراءه نيات مبيتة تفرض علينا، في كثير من الأحيان، أن نؤخر حسنَ الظن، وأن نتشبث بحقنا في الشك والتحري والتحقق.

(3)
ما يزال هناك من النقاد والباحثين في مجالات الفكر والآداب والفنون من يعتقد وجودَ تصوراتٍ إنسانية مطلقة تتجاوز الحدودَ البشرية الجغرافية العرقية، والحواجز الفكرية الحضارية، والمميزات العقدية الدينية.
ويذهب أصحاب هذا الاعتقاد إلى أن الأمر ليس مقصورا على ميادين العلوم والصناعات والتطبيقات التكنولوجية وحسب، بل يتعداها إلى ميادين الإنسانيات والأخلاقيات والفلسفيات.
وقد نجدهم يجادلون في كون التصورات والمفاهيم المستوردة لا بد أن تحمل معها إلى البيئة الجديدة خصائصَ البيئة الأم التي أنتجتها، ويزعمون، استنادا إلى إيمانهم بِـ"كونيّة" تلك القيم والمفاهيم، أن الأمر يتعلق بنتاج ذي بعد إنساني تذوب معه الخصائصُ العرقية والمميزات العقدية والحضارية.
وهناك من الباحثين، وهم قلائل، من يُقر بوجود فوارق واختلافات في الأفكار والنظريات بين موطن النشأة والموطن الجديد.
ومهما تكن النقاشات والجدالات التي دارت، وما تزال تدور، حول هذا الموضوع، موضوعِ تأثر المفاهيم والتصورات أو عدم تأثرها حينما تُنقل من بيئتها الأم وتُزرع في بيئة أخرى مختلفة، ومهما اختلفت وجهاتُ النظر وآراءُ الباحثين والمفكرين، فإن الحقيقة التي يشهد لها تاريخُ تواصل الحضارات وتنافسها وتدافعها وتغالبها، وكذلك الواقع الاجتماعي الفكري والسلوكي، هي أن المفاهيمَ والنظريات والتصورات التي لها علاقة بالعقائد والأخلاق والفلسفات والتاريخ، لا يمكن أن تتجرد عن جرثومتها حينما يتمّ استنباتُها في أرض جديدة. في العربية، جرثومةُ الشيء أصلُه.
إنه لا "أممية" إذاً، في العقائد والفلسفات والأخلاق، وإنما هو التمايز والتباين والزِّيَال.
وأفتح هنا قوسا صغيراً لأوضح أن الشعوب غير الإسلامية، مثلا، لا تؤمن بالصفة العالمية لرسالة الدين الإسلامي، فضلا عن عدم إيمانها، أصلا، بالإسلام دينا قيّما، ورسالةً خاتمةً بعث بها الله، عز وجل، خاتمَ النبيئين والمرسلين محمدا، صلى الله عليه وسلم. هذا مع إيماننا، نحن المسلمين، بأن (الدين عند الله الإسلام)(آل عمران/19)، وأن الله، تعالى، أرسل سيدنا محمدا رسولا ورحمة للعالمين: (وأرسلناك للناس رسولا)(النساء/78)، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء/106)، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السماوات والأرض. لا إله إلا هو، يحيي ويميت. فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يومن بالله وكلمته، واتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف/158).
إن مغزى هذا التوضيح أن عالميةَ رسالة الإسلام، في اعتقادنا نحن المسلمين، لا يمكن أن نُلزم بها غيرَنا من غير المسلمين، ولا أن نفرضَها عليهم قهرا وسطوة وغلبة، إلاَّ دعوةً بالحكمة والموعظة، وجدالا بالتي هي أحسن.
فإذا كانت هذه الحقيقةُ تنطبق على دين الإسلام خاتم الرسالات السماوية، فأحرى أن تنطبق على النظريات والفلسفات الوضعية التي منشؤها تفكيرُ الإنسان، وذوقُ الإنسان، وتأملُ الإنسان، وقصورُ الإنسان، وضعفُ الإنسان. في جملة، نظرياتٌ وفلسفاتٌ وضعيةٌ منشؤها الإنسانُ في نسبيّة قدراته ومحدودية طاقاته.
إنني، بالطبع، لا أناقش هنا حقيقةَ كون الأفكار، كلِّ الأفكار، حينما تنتقل من تربتها الأصلية، لا بد أن تتأثر، قليلا أو كثيرا، في السطح أو في العمق، في الزمن القصير أو الطويل، بخصائص الأرض الجديدة، في العاداتِ والأعراف، والموروثات والأذواق، والسلوكات والأفكار، إلى آخر ما يميز هذه الأرضَ المُسْتَقْبِلَة تاريخا وحضارة وتقاليد.
إذن، فالحديثُ عن المفاهيم والتصورات ذاتِ البعد الإنساني، التي  تزول معها حدودُ الحضارات وخصائصُ الشعوب والمجتمعات، ولا تتميز فيها المعتقداتُ والمشارب والأهواء، هو، في اعتقادي، من الأحاديث التي لا يكون لها معنى إلا في دائرة الموضوعات التي يستوعبها العقل الإنساني "العلومي"، أو العقل "المعاشي" المشترك.

(3)

بين "الحداثية" و"الحداثة"


الفرق بين كلمة Modernisme وكلمة Modernité في الصياغة اللفظية، وتبعا لها، في الدلالة المعنوية، هو أوضح من أن يُبيَّن أو يناقش. واللاحقة "إيزمISME" في الصياغة اللغوية الأجنبية، تفيد الدلالة على المذهبية العقدية، أو السياسية، أو الفلسفية، أو الاقتصادية، أو غيرها من المذهبيات،كالماركسيةMarxisme، والوجوديةExistentialisme،واليهوديةJudaïsme،والليبراليةLibéralisme…إلخ
ويقابل هذه الصياغةَ الأجنبية في اللغة العربية بناءُ ما يُسمى في علم الصرف بالمصدر الصناعي، ويُصاغُ بزيادة ياء مشددّة بعدها هاء في آخر الاسم، كالوطنيّة من الوطن، والإنسانيّة من الإنسان، والقيصرية من القيصر.
وتطبيقا لهذه القاعدة، فإن نقل كلمةModernisme إلى العربية ينبغي أن يكون على مثال المصدر الصناعي من اسم الحداثة، وهو "الحَدَاثِّـيَّة".
أما الشائع في العربية اليوم، فهو استعمالُ كلمة "حداثة" ترجمةً مطلقةً للفظتين الأجنبيتين Modernismeو Modernité، بلا تدقيق ولا تمييز، وهو استعمال لا يخلو من خلط ومغالطة والتباس.
إن الخلط الواقع في ترجمة كثير من المصطلحات الأجنبية، وخاصة في الميادين الإنسانية الفلسفية والأدبية، يمكن، في رأيي، إرجاعُ سببه الأصلي إلى تأثر المثقفين العرب بالغرب، والانبهار بنظرياته إلى حد اعتبارها تمثل أعلى ما بلغته الإنسانية في باب التفكير والإبداع. وعند الترجمة، فإنه تتم مراعاةُ روح الثقافة الغربية: العقلانيةِ اللائكية اللادينية. فكل ما هو حديث لا بد أن يكون متجاوزا للتفكير الديني، غيرَ معتدّ بالغيب ولا بالأصول الإيمانية، ولا بالقطعيات "المتعالية".
وفي هذا الصدد لا نستغرب أن يربط كثيرٌ من المثقفين عندنا بين الاختراعات الغربية المادية وبين الفكر الغربي اللائكي. فلا يُعقل، عندهم، ولا يصح الإقبالُ على المنتوجات الغربية العلمية المادية، والحرصُ على الانتفاع بمخترعاته الصناعية من غير الأخذ بما كان وراء هذه العلوم والمخترعات والصناعات، في زعمهم، من فكر وثقافة وفلسفة روحُها العقلانيةُ اللادينية.
فمن التناقضِ عندهم-عندَ (أدونيس) الملحدِ مثلا- قبولُ منجزات الحداثة الغربية العلمية والتقنية، "وكل ما يحسّن الحياة وطرقها المعيشية"، وفي الوقت نفسه، رفضُ "الموقف العقلي" الذي أدى إلى نشوء هذه الحداثة، و"النظرة التي أبدعتها".
وهذا يذكرنا بسعي بعض اللادينيين عندنا، وهم قلة على هامش المجتمع المغربي المسلم، ليفرضوا علينا ديمقراطية "كونية"، في زعمهم، أي بكل لوازمها، من غير فصل ولا تمييز بين إجراءاتها التقنية وترتيباتها التطبيقية وبين أصلها الفلسفي وخلفياتها اللادينية، وهدفُهم الأساس، وهو معلنٌ عند بعضهم، هو إبعاد الإسلام من أن يكون له حضور وتأثير في النظر إلى شؤون الناس وما يتعلق بهذه الشؤون من قضايا ومشكلات ونوازل في مختلف الميادين والقطاعات.
وهكذا كانت كثيرٌ من الترجمات، في سياق استعمالات مبيَّتَة الأغراض، تسعى إلى تثبيت الفكر الفلسفي الغربي في مواجهة الفكر الإسلامي، مما أدى إلى أن تصبح "المصطلحات" صناعةً تُستغل في دعايات سياسية سافرة، في كثير من الأحيان، لا علاقةَ لها بشؤون الفكر والحضارة.
فاليوم، ولمواجهة التيّار الإسلامي القويّ المتصاعد، والطعن على أفكاره وأطروحاته، يُكثر المثقفُون اللائكيّون، من الكتّاب والمفكرين والسياسيين، من استعمال لفظة "حداثة" لوصف مشروعهم اللاديني الفكري والسياسي، الذي يقابلون به المشروع الإسلامي "الغيبي"، "اللاعقلاني"، "الخرافي"، كما يصفون، وكما يزعمون.
فالحداثة عندهم نقيضٌ "أبدي" للمشروع الإسلامي في مختلف مناحيه وأفكاره واجتهاداته، ولهذا أصبح وصفُ مشروعهم السياسي بأنه حداثي، وأيضا نعتُ نموذجِ المجتمع الذي يطمحون إليه بأنه حداثي، لازمةً في خطاباتهم وكتاباتهم إلى حدّ الابتذال واللغو الذي ليس تحت طائل.

(4)
هل للفظة "حداثة" مدلول اصطلاحي إنساني كوني تختفي معه خصائص الأمم والحضارات، وتسود بدلَها قيم عالمية واحدة؟ أم أن هذا المدلول، كغيره من الأفكار والنظريات الوضعية البشرية، إنما هو مدلول نسبي يُقرأ ويُقوَّم ويُنتقدُ حسب الظروف التي تلابسه، ويتغير ويتعدد بتغير النظريات وتعدد الثقافات والمعتقدات؟ أم أن الأمر اختلاطٌ وفوضى يتعذر معها الانتهاءُ إلى مدلول اصطلاحي واضح المعالم، أو تبَيُّنُ ملامح مرجعيةٍ معينة من المرجعيات الفكرية والحضارية؟
إذا نحن استثنينا بعض الآراء القليلة، كمًّا ونوعا، فإن غالبية الباحثين، وخاصة منهم الذين عُنوا بالبحث في الجانب الاصطلاحي للفظة "حداثة"، تتفق في المضمون، وإن اختلفت أشكال التحليل والتعبير، على أن السياق الحضاري/ العقدي/ الفكري/ الفلسفي/ الاجتماعي، الذي أنتج "الحداثة" بمفهومها الاصطلاحي إنما هو في الأصل سياق أوربي مائة في المائة. ويعضُدُ هذا الرأي الغالبَ في أوساط النقاد والباحثين، على اختلاف مناهجهم ومرجعياتهم، الشهاداتُ والنصوص التي تمُدنا بها مدونات تاريخ الحضارة الغربية، ومعاجمُ الأديان واللغة والفلسفة والأدب.
إن نقلَ مفهوم الحداثة الغربية إلى الثقافة العربية الإسلامية يعني، في الجوهر والأساس، وليس في اللغة والعبارة والشكل، نقلَ المذهبية اللائكية اللادينية إلى واقع ثقافي قائم، في روحه، في تراثه، في تاريخه، في أصوله، في شريعته، في أخلاقه وعاداته، على عقائد الإسلام، على الرغم من آثار الغزو الاستعماري التغريبي في أفكار المسلمين وسلوكاتهم وأساليب تفكيرهم ونظرهم.
وهذا، في رأيي، هو أصل الإشكال، وعليه مدارُ أزمة الفكر العربي الحديث في كثير من مسائله وقضاياه.
فهذه الإشكاليةُ في موضوع تحديد المفاهيم والتصورات، وكذلك الاختلاف في ترجمة الاصطلاحات الأجنبية، ما هي، في منظوري وتحليلي، إلا غصنٌ من تلك الشجرة الباسقة الممتدة الجذور في ثقافتنا الحديثة، شجرةِ التربية الاستعمارية والتعليم الغربي التغريبي، شجرةِ التغرّب عن الذات وفقدان الهوية بتبني حضارة الآخر على الإطلاق من غير تمييز.
وقد يبدو، من الظاهر، أن موضوع نقلِ المفاهيم وتحديدِ التصورات وترجمةِ الاصطلاحات لا يفتأ يطرح إشكالية فكرية في جميع العصور والثقافات، وأن حالتَنا في الأمة العربية الإسلامية ليست استثناء من هذا الحكم، ولا علاقة لها بالاستعمار والتبعية.
قد يكون في هذا الرأي، الذي عليه غالبيةُ مثقفينا اللائكيين دعاة "الحداثة الحداثية"، شيءٌ من الصحة لولا هذه الأزمةُ العامةُ الشاملة لكل مجالاتنا الفكرية والثقافية والسياسية والفنية والأدبية.
إنه "قانون التقليد شيطان عصر النهضة"، كما عبّر منير العكش.
وهذا ما عبّر عنه، بلغة أخرى أكثر وضوحا، الدكتور كمال خير بك، وهو من المثقفين الأدباء الحداثيين، بقوله في حق "الانتلجنسيا العربية المتغرّبة"، في كتابه عن(حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر)، ص102: "وبمواجهة الأزمة المتعاظمة للحضارة الأوربية-الأمريكية، المزعومة حضارة شاملة، تلك الأزمة التي يعبر عنها مفكرونا وفنانونا ذاتهم، وجدت الانتلجنسيا العربية "المتغربة" نفسَها حائرة، بعد أن أضاعت محورَها الطبيعي، تراثَها وإمكانيةَ الرجوع إلى الله".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الثلاثاء، 11 يونيو 2013

انعدامُ الحياء

بسم الله الرحمن الرحيم

انعدامُ الحياء



تذكير: لقد كتبتُ هذه المقالةَ ونشرتُها منذ أكثر من سنتين(ماي2011) بعنوان "وقاحةٌ متقنِّعَة"، تعليقا على مشهد التعرّي القبيح الذي ظهرت به المرأةُ (لطيفةُ أحرار) في عمل محسوبٍ على الفن المسرحي بعنوان "كفر ناعوم-أوطو سراط". واليوم، وبمناسبة ظهور هذه المرأة على القناة الأولى، يوم الأحد9 يونيو2013، في برنامج  "ضيف الأحد"، وهي تدافع عن العري، كما كانت تفعل دائما، باسم الفن والإبداع والجمال، فإني ارتأيت إعادةَ نشر هذه المقالة بعنوان جديد، لأؤكد ما قلتُه قبل سنتين ردّا على جرأة هذه المرأة في الدفاع عن الرداءة والقبح والرذالة باسم الفن والإبداع، والفنُّ والإبداعُ، عند أهلهما الأصلاء وليس الأدعياء، براءٌ من "فن" المرأة أحرار وسلوكاتها ومنطقِها المتهافت الضحل في الدفاع والاحتجاج والاستدلال.
لقد عِشْنا حتى رأينا كيف أصبحتْ زُبالَةُ بعضِ النفوس والأذواق والأهواء تُفْرَض على الناس على أنها شيء بديع ومفيد!!
باختصار، إنها مقالة قديمة جديدة للردّ على دعاوى قديمة حديثة لا تفتأ تدافع عن الحضيض الذي تردّت فيه بعضُ الأعمال باسم الفن والإبداع.
فإلى نص المقالة.
+++++++

تعرّي المرأة أمام عموم الناس، في مجتمع دينُه الإسلام، هو دعارةٌ لا غبار عليها، مهما كانت الأعذار والتأويلات والتسويغات، ومهما طبّل الأنصارُ المدافعون وزمّروا، وطاروا ونزلوا.
هل يكون هذا السلوكُ الداعرُ فنّا؟
للنصارى دينُهم وأعرافُهم، وللمسلمين دينُهم وأخلاقُهم، وللملحدين دينُهم وطقوسُهم وممارساتُهم، وللحيوان غرائزُه وعاداته. وليس هناك ما يُقنع المسلم العاديَ البيسط، بلهَ العالمَ المتخصصَ، بأن تعرّيَ المرأة "المسلمة" أمام الجمهور، على خشبة المسرح، أو في شريط سينمائي، أو في الشارع، هو فنٌّ مقبول وفعلٌ محمود، إلا أن يتعلق الأمرُ بفرضِ أمرٍ بالحديد والنار، وبالدعاية الصاخبة ليل نهار، كما تفعل دولتُنا المخزنية، في هذه الأيام، مع مهرجانها "موازين"، حيث تُصر على تنظيمه رغم الاحتجاجات الشعبية الواسعة، ورغم الظروف الحساسة التي تمر بها البلاد. إصرارٌ مخزني مرضيٌّ يكشف طبيعةَ الاستبداد الجاثم على قلوبنا وحجمَه وخطرَه.
أقول هذا الكلام بمناسبة رجوع الممثلة (لطيفة أحرار) إلى التعرّي "المسرحي"، وإصرارها على أن الأمر يتعلق بفنّ جميل لا يفهمه ولا يتذوقه الذين يعارضونه ويرفضونه.
فعند هذه المرأة التي يُعجبها أن تتعرّى أمام الناس، وقد مات فيها الحياء، أن التعرّيَ، في عَرْضها، ليس إلا جزءا من كلٍّ، وعلى نقادها الرافضين أن يحكُموا على العمل كاملا، لا على مشهد مقطوع عن سياقه. ثُم تقول، إن على نقادها، أولا، أن يشاهدوا العرض قبل أن يحكموا عليه.
دفاعٌ واحتجاج أوْهَى من بيت العنكبوت.
وعندي أن هذا الدفاع من الممثلة المتعرِّية هو إمعانٌ في الجرأة، وإصرار على أنها على حقٍّ، وإن رفضَ عملَها المسلمون جميعا.
يكفيني، يا امرأة، تلك الصورة/اللقطةُ التي نشرتها وسائلُ الإعلام من تعرّيك "المسرحي"، حيث تظهرين ملقاة على الخشبة بملابسك الداخلية فقط، لأحكمَ بأن عملك ذاك لا علاقة له بالفن، وأن الأمرَ يتعلق بسلوك داعرٍ فاحشٍ مُخلٍّ بالحياء، حقُّه الرفضُ والإدانةُ.
هذا ما يقوله المسلمُ العادي، والفقيه المتضلّع، والعرفُ والتقاليد والأخلاقُ والآداب العامة في مجتمعنا.
إنك تتحدثين بلغة الفن، لأنك لُقِّنْت ذلك تلقينا، وهو تلقين قائم، في أصله، على انحرافات ومغالطات، فضلا عن جهل فظيع بالدين الإسلامي، ونظرةٍ إلى الذات تمتاز بنرجسية مَرضية وثقةٍ تجاوزت حدودَ التواضع والاعتدال. ثم هناك الإعلامُ المؤيد المصاحب، الذي لا يني يسلطُ الأضواءَ، ويسوق الأمثلة والمبررات، حتى يقرّرَ في نفوسنا أن الأمر يتعلق بفن جادٍّ "حداثي"، ما زلنا، نحن المسلمين، متخلفين أن نصل إلى استيعابه وامتلاك ناصية أدواته، وأن امرأة، كلطيفة أحرار، التي تجرأت وتعرّت أمام الناس، هي نموذج فريد وثمين، لا يعرف أصالةَ معدنه، وعُلوَّ قدره إلا آحاد النقاد النبغاء من أهل المعرفة والاختصاص!!
لم يكن التعرّي، ولن يكون أبدا، فنّا محترما ومقبولا في المجتمع الإسلامي، الذي يحافظ على ذوقه وأخلاق نشئه، إلا عند الفاسقين (البورنوجرافيين)، الذي يتحركون، بالليل والنهار، لا يفترون، من أجل فرض أخلاق اللادينية الدوابيّة المُنحطة.
إن ممّا جرّأك، يا امرأة، على جمهورك المسلم، الذي لا يتعدّى العشرات من الغافلين التائهين المستَلَبين، وأيضا، مِنَ المُغرَّبين المطحونين، تربيتُك وتكوينُك والأيدي التي صنعتْكِ، والتي جفَّفَت منابعَك الأخلاقية الإسلامية، وفي مقدمتها خلُقُ الحياءُ، وهو، في ديننا، شعبةٌ من شُعَب الإيمان، كما ورد في الحديث الصحيح.
أنا هنا لست واعظا على طريقة الوعاظ، الذين تعرفين أو تسمعين بهم، وإنما أنا هنا متحدث وناقد من زاوية الفن، الذي تزعمين السلوكَ على هديه، والإبداعَ في محرابه.
تعرّي المرأة، أو تعرِيَتُها في الرواية المقروءة مثلا، هو استفزاز مباشر لغريزة بهيمية في الإنسان، إلا أن يكون هذا الإنسانُ ممسوخا، أو مخدَّرا، أو معتوها، أو خارجا عن أصله الطبيعي.
والعُرْي بهذا المعنى لا ينفك يوحي بالفِراش أو ما في معنى الفراش؛ فهو إذن "فن" فراشي، إن كان لا بد من وصفِ مثلِ هذا العملِ بأنه فن.
فأيُّ إبداع تبدعه المرأةُ الجارية في هذا السبيل غير سلوك الطريق السهل نحو "الشهرة"، التي تُعمي النساء اللواتي على شاكلة لطيفة أحرار.
ما أسهلَ أن تتعرّى المرأةُ، يا لطيفة، ولكن ما أصعب أن تستر جسدَها وتتحلى بالأخلاق الفاضلة، في عالم لم يزل يُحرّضها ويستغلّها ويستضعفها حتى أحالَها سلعةً رخيصة مبتذلة، يتاجر بها التجارُ، ويحلبها المستغلون الفجار.
نعم، للجسد لغةٌ وسحرٌ وجمالٌ، لكن في اتجاه آخر مناقضٍ تماما للاتجاه الذي تردّيت فيه. واعلمي أن الجسد، في ثقافتنا الإسلامية، له حرمةٌ وقيمة وحقوق وجلال، والمرأةُ التي تستخف بحرمة جسدِها، وتنتهك حقوقَه، وتدنس جلالَه، إنما هي امرأة فاقدةٌ لأهمّ الصفاتِ التي تكون بها المرأةُ امرأةً، ومن ثَمَّ فإن إطلاق اسمِ المرأة عليها لا يكون إلا من قبيل المجاز.
يا سيدتي المُتعرّية، الحقُّ والأصل في الفنون، ، كيفما كان نوعُها، أن تسموَ بالنفوس، لا أن تنحط بالغرائز إلى الحضيض الداوبيّ.
هناك في الغرب، اليوم-والغربُ مثالُ حداثيّينا ومُغَرَّبينا من كل الألوان والوظائف والاختيارات- فواحشُ ومنكراتٌ ودعارة، تشيع بين العموم باسم الفن، ومن هذه الفواحش أفلامُ الدعارة المكشوفة(البورنوجرافي)، التي لها نجومُها ومهرجاناتُها وعشّاقها وزبناؤها.
وماذا بين التعرّي على خشبة المسرح، ولو جزئيا، أو الظهور مع أجنبيٍّ في مشهدٍ سينمائيٍّ فاحشٍ، وبين البورنوجرافيا؟ ليس بينهما، في اعتقادي، إلا مسألة الوقت، ريثما يتم إعدادُنا، شيئا فشيئا، لتقبّل الأمر على أنه فنّ وحرية واختيار وحقٌّ وغيرُ ذلك من شعارات الحداثيّين المتطرفين، الذين لا يقبلون، في مجتمعنا المسلم، بأقلَّ من شيوع الفاحشة صراحا بَراحا، بوجهها الحقيقي، لا تتخفى وراء الأستار، ولا تتوسلُ بعنوانٍ من العناوين، ولا تتزيّى بزيٍّ غير زيّها الحقيقي الأصيل. وعندئذ، عاشت الحداثةُ، وعاش أنصارُها، وعاشت الفاحشةُ، وعاش مُواقِعوها وأبواقُها وسدنتُها من الإنس والجان.
لا يقبل الحداثيون اللادينيون المتطرفون بأن تظل الفواحشُ والمنكراتُ محبوسةً في الملاهي الليلية والنوادي الخاصة، بل همُّهم، بالليل والنهار، أن تصبح ممارسةً طبيعية ومقبولةً في المجتمع، بكل طبقاته ومستوياته ومكوناته. ولهذا، نرى هذا السعي الحثيث، في الزمن، للتطبيع مع السلوكات الداعرة تحت عدّة لافتات، ومنها لافتةُ المسرح؛ والويلُ كلُّ الويل لمن يحتج أو ينتقد أو يُدين، لأن التهمةَ جاهزة، والأحكام جاهزة، والإعلام الحداثيّ المتطرف جاهز.
أيتها المرأة المتعرِّية المتحدِّية المستهتِرة المتجرّئة، إن التعرّيَ واحدٌ في معناه، في كل زمان وفي كل مكان، ولا سبيل أمام هذه الحقيقة البشرية الكونية الأبدية إلى التفلسف وتشقيقِ الكلام واستظهارِ دروس السيّد الحداثيِّ المتنور المحفوظة عن ظهر قلب.
إن التعريَ من المرأة المسلمة أمام جمهور في مجتمع مسلم هو سلوكٌ داعر بكل المعاني، سواء تجلّى هذا التعري في مشهد واحد أو في عدة مشاهد.
إن كشفَ جسد المرأة واحدٌ في مبناه ومعناه- ولا ننسى أننا نتكلم في سياق ديننا الإسلامي وثقافتِنا الإسلامية وأخلاقِنا الإسلامية، حتى لا يقولَنَّ جاهلٌ إن للعري قيمةً فنية كونيةً يجب الاعتراف بها. وحينما يحصل هذا التعري في مكان عمومي، فإن الذوق المسلمَ يمجّه، والأخلاق الإسلامية العامة تُنكره، والعرف الاجتماعي يأباه، سواء أكان هذا التعري في أول العرض، أم في وسطه، أم في آخره.
والمسلم، بعقيدته وأخلاقه وحيائه، لا يحتاج أن يقرأَ مشهد التعري في علاقته بما يسبقه من المشاهد وما يتبعه، لأن التعريَ، أخلاقيا واجتماعيا ونفسيا، سلوكٌ مستقل بذاته، دالٌّ لوحده من غير حاجة إلى غيره من العناصر والمعطيات.
التعري، في جملة، سلوك داعر ممجوج، ومظهرٌ فاحش منكور.
يا هذه، وسيرا على منطقك، هل يمكنك أن تتصوري ذاتا منقسمةً إلى شطرين اثنين ليس بينهما اتصالٌ ولا تبادل مشاعر وانفعالات، شطر أول مخصوص للتذوق الفني، مستغْرِق في تأمل الجسد العاري، وتموّجاتِ حركاته، وجماليّةِ لغتِه، لا يهمّه غيرُ الجمالِ المحض، وإن كان المضمون فاسدا، وشطر ثان منشغِل بالدين وأخلاقه وآدابه، مهتم بفضائل الإحسان في الدنيا وهموم المصير في الآخرة؟
بتعبير آخر، هل يمكنُك أن تأتيني ببشرٍ من الناس الحقيقيّين، وليس الافتراضيّين، يمكن أن يكونوا على الشكل الذي وصفته، ذواتُهم منقسمة شطرَيْن لا تواصلَ بينهما مطلقا؟
فإن أمكنك أن تجيبي عن سؤالي بنعم، فأنا مُعترف لك بأن المرءَ المسلم يمكنه أن يستمتع بالجسد المتعرِّي أمام العموم من غير أن يُحس بأدنى حرج، لأن دينَه، في لحظة الاستمتاع، يكون غائبا، فلا يمكنه أن يتدخلَ، ولا أن ينصَحَ، ولا أن يعترض، ولا أن ينتقد ويرفض!!
الإنسانُ، كلُّ إنسان، ومنذ كان الإنسان، ذاتٌ واحدة لا تتجزأ، وكيانٌ نفسانيٌّ عاطفيٌّ متكاملٌ ومعقَّدٌ لا مكان فيه للانفصال والانقطاع والاستقلال، إلا في حالات المرض أو المسخ والاختلال الخارج عن الطبيعة.
فالأخلاقُ، عند من له أخلاقٌ، لا يمكن أن تتخلّفَ، مهما كان الموقف السلوكيُّ، ومِنْ ثَمَّ فهي حاضرة بأثرها، سلبا أم إيجابا، في تقويم المواقف والاختيارات، وتمحيص العواطف والانفعالات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الأحد، 9 يونيو 2013

عودةٌ إلى التعرّي أمام الجمهور باسم الفن!

بسم الله الرحمن الرحيم


عودةٌ إلى التعرّي أمام الجمهور باسم الفن!

سأظل أكرر، وإلى آخر نَفَس، أن تعريَ المرأة أمام العموم، في مجتمع مسلم، إنما هو مظهر من مظاهر الخلاعةِ والدعارة والسفالة، وسلوكٌ يخالف أخلاقَ الإسلام وآدابَه، وينتهك قانونَ المجتمع وأعرافه.
وهذا التكرار منّي هو تحدّ لأيٍّ كان، اليومَ أو غدا، أن يأتيَني ولو بشبه دليل، كيفما كان، على جواز "منكر" التعري في دين الإسلام وأخلاقه.
نحن في المغرب مسلمون، وثقافتُنا من الإسلام، وأخلاقُنا وآدابُنا وأعرافُنا وسائرُ شؤوننا إنما هي من الإسلام، أصلا وتأسيسا، أو إقرارا وتثبيتا.
ليس هناك دليل، ولا شبه دليل، ولا رائحةُ دليل على الجواز، لأن الأمر يتعلق بمُنكر لا غبار عليه. والذي يجادل في هذا إنما هو، أو هي، في اعتقادي، واحدٌ من ثلاثة: إما ملحدٌ لادينيّ متطرف، يحارب الإسلامَ وأخلاقَه وآدابه وأصولَه في التربية والسلوك العام، ويكره أن يرى العفةَ والطهارة والوضاءة والسمتَ الحسن تنتشر في حياتنا العامة، وتغلبُ في سلوكاتنا الفردية والجماعية، وفي مظاهرنا ومعاملاتنا وأنشطتنا، وإما مسلمٌ لا يميّز في أمور دينه كوعا مِنْ بُوعٍ، أيْ مسلمٌ جرفَته "أخلاقُ" الوقت الطاغية-إن جاز التعبير- وطحَنته آلةُ الحداثيّة اللادينية المتطرفة، التي باتت تصبّحُنا وتمسِّينا بكل أنواع الوقاحات والسفالات والرداءات والموبقات، وإما منافقٌ مندسّ بين المسلمين، له برنامجُه وأهدافُه وأصحابُه، يعمل على طريقة "الطابور الخامس"، الذي تقف وراءه وتموّله وتشدّ أزرَه جهاتٌ متعددة في العدد، موحدة في المقاصد والغايات.

التعيُّشُ مِنَ الجسد
هل هناك من فرْقٍ معقولٍ وموضوعيٍّ ومُقنع بين النساء اللواتي يستعملن جسدَهن ومفاتنَ أنوثتهِنّ للتعيّش والاسترزاق،  كامرأة تعمل راقصةً خليعة، في المناسبات والكباريهات والملاهي والفيديوكليبات، وثانيةٍ قَيْنَةً(مغنيّة محترفة) مائلةً مُميلة، وساهرةً مُسهِرةً، في الحفلات والمهرجانات والاستوديوهات، وثالثةٍ عارضةً تبيع محاسنَ جِسمِها بالجملة والتفصيل، حسب متطلبات السوق والزبائن والبضائع والإشهار، ورابعةٍ ممثلةً، في المسرح  والسينما، وأيضا في بعض المناسبات العامة، يُطلب إليها أداءُ أدوارٍ تتعلق بموضوعات الإغراء والعُرْي والفاحشة والعهارة، وخامسةٍ مومسا تحترف البغاء، صراحا براحا؟
لست أرى فرقا بين نساءِ هذه الأمثلةِ الخمسة إلا في كيفية استخدامِ الجسد ودرجةِ هذا الاستخدام، أما في العمق والجوهر، فلا أرى فرقا، لأنهن، في النهاية، يشتركن جميعا في التعيّش من استخدامِ جسدِهن الأنثوي وما يفرضُه هذا الجسم، مباشرة أو بالإيحاء، من معاني الإثارة والافتتان والاشتهاء.
الفرقُ الجوهريّ الحقيقيّ نجده بين عملِ نساءِ الأمثلة السابقة وبين عملِ امرأةٍ شغّالة في البيوت، أو المعامل، أو المقاهي والمطاعم والفنادق، أو غيرها من الأماكن، تكدح بعضلات جسدِها وعرق جبينها، تغسل وتنظّف وترتّب وترفع وتحرك، من أجل لقمة عيش حلال. هنا الفرقُ جليّ بين عمَلَيْن بالجسد مختلفين إلى حدّ التنافي والتناقض والتضاد.
السؤالُ الذي يفرض نفسَه هنا من غيرِ تَلَجْلُج ولا التواء هو: هل استعمالُ الصفات الجسدية الشهوانية الإغرائية الفاتنة للتكسّب والاغتناء والشهرة هو من الأعمال المباحة في الثقافة الإسلامية؟
هل استعمالُ الجسد الأنثوي، بغواياته وإيحاءاته وخلاعاته ومنكراته، في غير ضرورة ولا إكراه، من أجل الكسب، حلالٌ أم حرام؟
طبعا، الذي يجب عليه أن يجيب على هذا السؤال هم أهلُ العلم والفقه والفتيا من علماء الإسلام، المؤتمنين على أن يبينوا للناس وألا يسكتوا.
الواقع الغالبُ، مع الأسف، هو سكوت العلماء-وأخصّ هنا العلماء الرسميين الدائرين مع السلطان- وهذا ما أطلق ألسنَة الرُّوَيْبِضات من كل الألوان والأصناف والأشكال، الذين باتوا يتكلمون في الدين بالجهل والباطل والرأي التافه الذي يفضح معدن أصحابِه ونواياهم ومقاصدهم.

مشهدٌ يُبكي ويُضحك!
تأملْ معي، أيها القارئ الكريم، مشهَد امرأة مسلمة-أقول مسلمة لأنه لا شأن لنا بنيّاتِ الناس ولا بمطْويّات ضمائرهم، وإنما حديثُنا هنا عن الأعمال والسلوكات الظاهرة- متخصصةٍ في "الرقص الشرقي" الشهواني الفاجر، تتحدث عن استعدادها للمشاركة في مسابقة دولية خاصة بهذا النوع من الرقص، وعمّا يعتمل في نفسها من مشاعر، ويحدوها من آمال، ثُم تدعو اللهَ، في آخر حديثها، أن يوفقها للبلوغ إلى مرتبة مشرفة، كما تدعوه لكي يظل جمهورُها راضيا عنها وعن أدائها!!
امرأة متخصصةٌ في عمل لا يَرضَى عنه اللهُ، تعالى، قطعا، وهي تطمع أن تنال في هذا العمل من الله نجاحا وتوفيقا!
وقد مثّلت في هذا المشهد بامرأة راقصة. ويمكن أن نمثل، في مشاهد أخرى، بامرأة تقوم بأدوار فاحشةٍ داعرةٍ مُنكَرةٍ، شكلا ومضمونا، على خشبة المسرح أو أمام الكاميرات، وأخرى تُمثّلُ عاريةً وهي تُضاجع أجنبيا في فيلم سينمائي، وثالثة تبيع جسدَها، كاملا أو بالتقسيط، في معارضِ الملابس النسائية الداخليّة، أو في معارضِ ملابس الموضة، وهي تجيء وتذهب أمام الجمهور المتفرج بجسدٍ عارٍ كاسٍ إلا من بعض الخِرَق المصممة على أذواق شياطينِ موضةِ هذا الزمان وأهوائهم.
تأملوا معي مشاهدَ هؤلاء النساء وهنَّ يدعون الله-وقد يَكُنّ صادقات في دعائهن، حسب اعتقادهن- أن يوفقهن في عملهنّ، وكأن الله، تعالى، راض عن عملِهن أصلا، ولم يبق إلا طلبُ المزيد من الرضا والتوفيق!
إنها مشاهدُ مأساويةٌ بامتياز عند من ينظر بمنظار أصول الإسلام وأخلاقِه وآدابه في الحياة العامة، وعند من ينظرُ بمنظار ما يُضفيه الإسلام على جسدِ المرأة من كرامة وعفة وطهارة، وعند من يستحضر وعيدَ ربّ العالمين للذين (يسعون في الأرض فسادا)، و (الذين يحبّون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا).
مسكيناتٌ بئيساتٌ، بل معذوراتٌ هؤلاء النساء اللواتي يدعون الله أن يباركَ في عملهن، وهن جاهلاتٌ-هكذا نظنّ- أن الله، تعالى، (طيّب لا يقبل إلا طيّبا)، وأنه، عز وجل، لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وأنه (مَنْ يتّبعْ خُطْواتِ الشيطانِ، فإنه يأمرُ بالفحشاء والمنكر).
وقبّح الله الفقر الذي كاد أن يكون كفرا.
وقبّح الله، قبل ذلك، الاستبدادَ ولوازمَه وأدواته وشياطينَه، الذين يعملون بالليل والنهار لتشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا.
أما الشياطينُ الخُرْسُ، فأمرُهم إلى الله الذي أخذَ عليهم الميثاقَ ليبيّنُنَّ الحقَّ للناس ولا يكتمونه.
و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
مراكش: 9 يونيو 2013




الثلاثاء، 4 يونيو 2013

القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(5)

بسم الله الرحمن الرحيم


القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(5)
 


خلاصَات

(1)
مسخٌ وإرهاب
قردٌ حيوان يتحوّل إلى إنسان فنّان! هذا مسخٌ.
مَسْخٌ يُفْرَض على الناس، بكل وسائل القهر والدعاية والتلبيس والتزوير، على أنه خَلْقٌ طبيعيٌّ بديعٌ وجميل! هذا إرهاب.
"القردُ الفنان" يمكن أن نرى فيه اليوم رمزا لكل هذه الظواهر والسلوكات والخطاباتِ والأنشطة التي يُرَوَّج لها باسم "العلم"، أو  "الفن"، أو "الاقتصاد"، أو "السياحة"، أو "الحريات الفردية"، أو "الحقوق الكونية"، أو غيرِ أولئك من الشعارات واللافتات والأقنعة، وإن فتّشتَ عمّا وراء المظاهر الخادعة، والواجهات البرّاقة، فليس ثمّةَ إلا الأهواءُ والإديولوجيا والرغبةُ الجامحة في الهيمنة والاستبداد والإقصاء.
اٌنْظرْ، مثلا، إلى مهرجان "موازين"، الذي بات معدودا في مُقدَّسَات الدولة، التي لا ينبغي في حقّها إلا التصديق والتسليم؛ فالدولةُ المخزنية، بواسطة خدّامها، وهُمْ كثيرون عددا ونوعا وشكلا ونشاطا وتخصصا، تَفرض هذا المهرجانَ وتنظمه تحت رعاية الملك "أمير المؤمنين". وهذه "الرعاية السامية" تعني، من بين ما تعنيه، أن هذا المهرجانَ بجميع فقراته، ليس فيه ما يُعارض الإسلامَ، وأحكامَ الإسلام، وأخلاقَ الإسلام، وآدابَ الإسلام، ومقاصدَ الإسلام، لأن "أمير المؤمنين" رضيَ عنه وأعطى موافقتَه على رعايته. وما يرعاه "أمير المؤمنين" لا يمكن أن يكون فيه شيء يخالفُ الدينَ!
وإنه لمن البلادة والسذاجة والبلاهة أن يَظنَّ ظانٌّ أن الضوءَ الأخضر بتنظيم نشاطٍ ما تحت رعاية الملك يمكنُ أن يُعطَى من غير معرفةٍ مفصّلة بكل ما يتعلق بهذا النشاط، ومنظميه، ومُنشطيه، المُقيمين والزائرين، المغاربة والأجانب، وأهدافِه، وما إلى هذا مما يشمل الشاذةَ والفاذّة من متعلّقَاته، لأن الأمر يتعلق بضمانٍ ملكي يستوجب إحاطةً دقيقة ومعرفةً عميقة.
فالمهرجان، بهذا الامتياز الخاص، وبهذه الرعاية المولوية السامية، تفرضُه الدولةُ المخزنية على أنه جزءٌ من هُويتها الحضارية والثقافية والدينية، ومن ثمّ فإن أيَّ اعتراض أو انتقاد أو تشكيك، إنما هو اعتراض على الدولة، التي يرأسها "أمير المؤمنين".
ووجهُ الإرهاب هنا هو أن المخزنَ، من خلال منابره الدعائية، يريد أن يقول، بلغةِ الحال والواقع والنقلِ المباشر على الهواء، إن مظاهر المسْخ والخلاعةِ والرداءة والمَجَانة، التي تتخلل بعضَ فقرات مهرجان "موازين"، إنما هي من الأفعال والمشاهدِ التي يُقرّها "ديننا الحنيف" "المتسامح" "المتحرر" "المتنور" "المتطور" "المتكيف" مع ضرورات زمانه، ومتطلبات وقته، وأن المعترضين الرافضين والمحتجين، إنما هم من أعداء الفن والحرية والتسامح والانفتاح، لأن نشاطا يَرْضَى عنه "أمير المؤمنين" لا يمكن إلا أن يكون على هَدْي الإسلام، يجلبُ المصالحَ والمنافع، ويدفع المفاسدَ والمضارّ!!
وجهُ الإرهاب، هنا، هو أن يُفْرَض على المغاربة المسلمين أن يَقبلوا ويُسلِّموا، راضين أو مكرهين، مثلا، بأن المغنيةَ أو المغنيَ، الذي يظهر على الخشبة في وضع مُخل بالحياء، ومسيئا إلى الأخلاق والذوق العام، ومنتهكا للأعراف، هو "فنان" مبدعٌ مَرْضِيٌّ عنه في حكم الإسلام، لأنه فنّانٌ مشمول برعاية أمير المؤمنين، الذي إليه، وحده، ترجع الكلمةُ الأخيرة في شؤون إسلام المغاربة و"أمنهم" الروحي!!
وهكذا، وبفعل مَقامِع المخزن المقدّسة، وتحت سطوة إعلامِه وأبواقه، يتحول عبثُ القرود، على اللوحات، وفوق الخشبات، وعلى الشاشات، وفي المعارض، وفي المحاضرات والأمسيات، وعلى المنصّات، إلى "فنّ" بديعٍ يُطبِّلُ له "نقادُ آخر الزمان" ويزمّرُون، مُستَهْترِين بالتّقريظ والتمجيد.
بفعل هذا الإرهاب الثقافي، الذي يفرضه اللادينيّون المتطرفون بقوة ما يملكون من وسائل وإمكانيات، وبما تهيِّئُه لهم الدولةُ المخزنية من رعاية وحماية وتمويل، وبما يتلقون من الخارج من كل أشكال الدعم والتشجيع- بفعل هذا الإرهاب الثقافي، رأينا رجالا ونساءً من النخبة، يَحسبون أنفسَهم مسلمين، بل أكثر من المسلمين، عند اللجاجة والعناد والتكبّر-رأيناهم يقومون، منبهرين محترمين خاشعين، لملحدين مناضلين لا يفتأون يدنسُون مقدساتِ دينهم، بالطعن والتشكيك والجحد والباطل والتشويه والتلبيس!! رأيناهم، ونراهم، في مشاهد الخزي والمذلة والعار، يقومون، تعظيما وتشريفا للشيطان، وأيديهم لا تكفّ عن التصفيق، وملامحُ وجوههم تعلوها البهجةُ والانشراح، وكأنهم بحضرة "فاتح عظيم"، أو"وليّ حميم" أو"ملاك كريم"!!
"القرد الفنان" اليوم بات رمزا لهذا العبث والغثاء الذي هو آخذٌ في التمكن والتفاقم والانتشار بقوة الدعاية والإديولوجيا والإعلام، والذي أصبح له رواجٌ، وخاصة في الإعلام والمناسبات الأكاديمية، باسم الأدب والفن والإبداع، يسوّغُه ويبرّرُه ويشهَرُه خطابٌ نقديّ مُوالٍ، عن رأي واجتهاد واقتناع، أو عن هوى وانتهازيّة، أو عن تقليد وإمعيّة.
في جملة، "القرد الفنان" هو هذا اللاشيءُ الذي أصبح يُفرض علينا، بالحديد والنار-بالمعنى الحقيقي والمجازي- أن نقبلَه على أنه شيءٌ. إنه هذا الخواء والفراغ الذي يُقدّم ويُفسّرُ ويفَلْسَفُ على أنه عمرانٌ وقِوام وكِيان. إنه هذا القحط الذي صيّرهُ النّصْب والاحتيالُ والتزويرُ نماءً وفيرا وخيرا عَميما.

(2)
عبثُ القرود
في الأجزاء الأربعة السابقة من هذه المقالة، كان كلامي يدور على أمثلة تنتمي، سطوا وادعاءً وانتحالا، إلى مجال الأدب والإبداع الشعري، وما هي، في الحقيقة، من الإبداع الأدبي في شيء، وإن كان مُنشئوها لهم ذكرٌ صاخبٌ في عالم النجوم والأضواء والإشهار. وما أكثرَ الغثاثةَ والضلالةَ والسفاهَةَ في دُنيا النجوميّة، إلى درجة أن العَهارةَ باتت تُقدّم وتُفرض، في بعض الأحيان، على أنها من الفن الجميل(بعض الفقرات والعروض والمشاهد في منصات مهرجان (موازين)، مثلا).
لقد تناولتُ الأمثلةَ المختارةَ بالنقد والرفض والفضح، واجتهدتُ، حسب ما تسمح به طبيعةُ المقالة وحجمُها،  أن أبيّن أنها أمثلةٌ على العبثِ الخالص، الذي ليس فيه ولو صفة واحدة من صفات العمل الجادّ، بلْهَ العملَ الأدبيَّ البديع.
كيف يجرؤ من نعتّهم بـ"نقاد آخر الزمان" أن يصنفوا الكلامَ الفاحش، مثلا، في الأعمال الشعرية الجميلة؟ وكيف يصبحُ عندهم التطاولُ على مقدسات المسلمين، بكل أنواع الوقيعة والطعن والتشكيك والتجريح، من فنون القول، التي تُعجب وتُطرب وتَطير بالنفوس في سماوات الخيال الرقيق، وخفيّات العبارات الموحية، وبدائع الصور الشعرية اللطيفة؟
كيف يجرؤون على اعتبار الكلام المنثور التقريري المرذول شعرا، وهو كلام تَطَّرٍحُه كلُّ المعايير التي تعارف عليها نقادُ الكلام وأهل الصناعة، ولا يكون له قيمةٌ إلا في ميزان البذاءة والرذالة والسفالة؟
أنا أعرف أن علاقة الأدب بالدين والأخلاق كانت دائما علاقة يشوبها التوتر والشدّ والجذب، ولا تكاد تستقر حتى يعاودها الاختلالُ والتشنج. لكن حديثي عن (العبث)، في الأمثلة التي عرضتها في مقالاتي السابقة، كان بعيدا عن موضوع علاقة الأدب بالدين والأخلاق، لأني لم أكن أمام عملٍ أدبي حقيقي، أصلا، حتى يمكن معالجتُه وعرضُه على النقد والتحليل والتقويم.
حينما تُلغى القواعدُ والمقاييسُ والقوانين، وحينما تَعمُّ فوضى الأشكال والأساليب والتعابير، وحينما يصبح التمييزُ بين هذا العمل وذاك استنادا إلى معايير واضحة، وصفاتٍ وخصائص وعناصرَ ثابتةٍ، مُتعَذَّرا-حينئذ يصبح بابُ الفن والإبداع مُشْرعا لدخول المعارف والنكرات، وتسلُّلِ أهل الضحالة والادّعاء والانتحال، واختلاطِ الجدّ بالهزل، واختفاءِ الحدود والفروق بين المسؤولة واللامبالاة.
في هذه الأجواء من الاختلاط والادعاء والانتحال، لا غرابةَ أن تصبح "خَرْبَقَاتُ" القرد (شيتا) إبداعا خارقا، و"هلوسات" (رامبو) في جحيمه عملا ساحرا، و"هَرْطَقات" أدونيس في كلامه شعرا آسرا!! في اللغة: خرْبَقَ العملَ وخرْبَشَه، إذا عالجه بما يُفسده.
وبعد، فإني لا أرى كلمةً جامعةً مانعةً أحسنَ من كلمة "عبث" لتسمية  هذه الأعمال الخارجة على القواعد والمعايير التي أقرتها أجيالٌ عديدة عبر قرون طويلة من الإبداع والتجريب والتطوير والنقد والتهذيب، ولوصف هذه السلوكات التي سعت، وما تزال-وقد حققت بعض النجاحات- إلى إلغاء كل المقاييس والأصول والأسس التي بها يمتاز العملُ الإبداعي الحقيقي عن غيره، وتركِ الأمر فوضى، تعشّشُ في ظلها الرداءةُ وتَبِيض وتفرّخ.

(3)
شاهد الذئب
بشيوع قيّم اللاّدينية المتطرفة المنافقة المخادعة المخاتلة، وفي ظلِّ ما أحدثه العبثُ من الفوضى والاختلاط وتداخل الحدود والتباس المميزات والمحددات، أصبحت الظروف مواتية لتكوُّن "عصابات"، في مجال الفكر والأدب والنقد، أصحبتْ تعتبر نفسَها، ويعتبرها من هو تابع لها وواقعٌ تحت تأثيرها، ذاتَ سلطة مرجعيّةٍ "أكاديمية" في التنظير والنقد والتقويم، ليس لها من أدوات التفكير والتنظير والنقد والتقويم إلا الترجمة الحرفية عن الغرب، أساسا، وتقليدُ هذا الغرب تقليدا ببغاويا في كل ما ينتجه، وخاصة في العلوم الإنسانية والفنون والآداب، فضلا عن الأذواق الشخصية، والانطباعات الذاتية، والأهواء والظنون والتخمينات، ملفوفةً في لغةٍ إنشائيّة هي أقربُ إلى الهَذَر والثرثرة منها إلى الكلام المسؤول والنقد المعقول.
لقد غزَت هذه "العصابات"-عبر مسار تطوري طويل، ليس ههنا مجال التفصيل فيه-  معظمَ مؤسساتنا الأكاديمية، ومنابرنا الإعلامية بمختلف أشكالها، وصارت تحتكر الكلمةَ الفصل في شؤون الفنون والآداب والنقد، تعاضدُها المرجعيّةُ الغربية المهيمنة، والإديولوجيا الحداثيّة اللادينية، وتيسّر عملها وانتشارَها إمكانيات هائلة، ماديا وإعلاميا وسياسيا، تأتيها من جهات متعددة.
لقد غطّتْ ضوضاءُ الحداثية الببغاوية المتطرفة على الفكر الفكر الجاد، والنقد الموضوعي البنّاء، والفن البديع والجميل، والأدب الشائق الرائق الممتع والمفيد، فلا تكاد تسمع اليوم في فضاء الفن والأدب والنقد إلا "ضحكات" القرود و"مقالات" نقاد آخر الزمان، تكَرّسُ الغثاثة والرداءة والخواء والهباء.
أليس من الاستخفاف بالعقول إلى حدٍّ لا حدّ بعده أن يكتبَ أحدُهم، وهو من كبار نقادِ آخر الزمان، أن ما يمكنُ أن يكتبَه أو يقولَه إنسانٌ واقعٌ تحت تأثير المسكرات أو المخدرات إلى درجة لا يقدِر معها على التمييز، ومعرفةِ ما يجري حوله، ولا يستطيع أن يتذكر شيئا بعد أن يصحوَ وينقشع عنه السكر أو التخدير، هو معدود، لا محالة، في الأعمال الأدبية النفيسة التي تستحق أن يُعتَنى بها، إن وجدت ناقدا شاهدا كأدونيس، الذي زكّى ما كتبَه (هنري ميشو)(1899-1984) عن الكتابة "الطمس" و"المحو"، بل وزعمَ أن طريقَ المخدرات والمسكرات يمكن أن ينتهيَ بسالكه إلى حالة تشبه-لاحظوا هذه الجرأة في الاستخفاف بعقول الناس عند هذا الرجل- الحالةَ التي ينتهي إليها الصوفية بفعل ترويض الجسم. ويبالغ (شاهد الذئب)، بجرأته المعهودة، حينما لا يرى أيَّ مانع للمقارنة بين هذه الحالة-التي يكون عليها السكير الحشّاشُ من الطمس والغيبوبة واللاعقل والهذر والهذيان- وبين ما يسميه "بعض الظواهر الخاصة، كالنبوة، والانخطاف، والكتابة الآلية أو الإملاء"(الصوفية والسوريالية، ص58). ويمكن للقارئ المهتم أن يرجعَ إلى هذا الكتاب ليقرأ المزيد من هذه "الخزعبلات" و"التجديفات" و"الكفريات" و"الجهالات"، التي تسوِّقها لنا الحداثيةُ اللادينية العبثية في صور الفكر والإبداع والنقد،  وخاصة في الجزء المعنون بـ"المعرفة"، في القسم الأول، ص39 وما بعدها.
ومن سخافاتِ "شاهدِ الذئبِ" النظرُ إلى الشاعر الحداثيّ على أنه "نبيّ" له "وحيُه الخاص" و"حقيقتُه المطلقة"، وله رسالةٌ "كونية" تتمثل في تقويض العالم القديم، وبناء عالم جديد، وعليه مسؤوليةُ تفسيرٍ جديدٍ لموجودات العالم، وإعادة النظر في علاقات هذه الموجودات بعضها ببعض!!
أيُّ عبث هذا؟ وأي هذيان؟ وأيّ هباء وجُفَاء؟
ومن يستمعُ اليوم لهذا الكلام خارج أسوار البحثِ الأكاديميِّ المكبّلِ بسلاسل الحداثيّةِ اللادينيّة المتطرفة، والواقعِ في أسر مفكّري آخرِ الزمان وفنانيه وأدبائِه ونقاده؟ وهل لهذا العبثِ الغثائيِّ حضورٌ في جماهير المتلقين خارجَ المُناسبات المصنوعة، التي يتسنى فيها اجتماعُ أفرادِ عصابة العبثيّين وتواصلُهم وتواثُقُهم وتآزرُهم؟
لقد فرضوا بحديدِ (الإديولوجيا) ونارِها أن النثرَ، وإن كان باردا تقريريا، يمكن أن يصبح شعرا، وكرّروا، وأذاعوا، ونشروا، وكوّنوا، وأطّروا، فكانت النتيجةُ هذه (اللاشعريّةُ)، التي تطبع حياتنا الأدبية!
وقالوا إن الشعرَ لا يمكن أن يُحصر أو يُعرَّف أو يُقيَّد بقيود، أو حدود، أوصفات، أو تعريفات، أو مميزات، حتى يتسنى لنقاد آخر الزمان، ومعهم، ومِنْ ورائهم، القرودُ العابثون، أن يبقوا دائما المرجعَ الأول المسموع في الرفض والقبول، والتصنيف والتقويم والتحكيم.
وفرضوا، بالإديولوجيا وجعجعات الدعاية، وليس بالنقد الموضوعي، ونتائج البحث العلمي المقنعة، والرأي الأدبي الراجح- فرضوا أن "الكتابات الصوفية النثرية" هي من الشعر. رأيٌ رآه بعضُهم(مجرد رأي)، فصار اليوم مفروضا ومتداولا وكأنه حقيقة لا يرقى إليها شك؛ فقد عثروا على كتابات منسوبة إلى (النّفّري، محمد بن عبد الجبار) بعنوان "المواقف والخطابات"، فإذا بهذه الكتابات تصبح هي المرجعية المطلقة التي لا معْدى عنها في معرفة شعرية الكتابة الصوفية؛ مع أن البحث العلمي الموضوعي يؤكد أن (النّفّري) هو من الشخصيات المجهولة الغامضة التي لا نجد لها ذكرا في كتب طبقات الصوفية، ولا نكاد نعثر لها على ملامح واضحة في كتب التراجم والتواريخ والرجال، والراجح أن يكون هذا المجهولُ من المذهب "الباطني"، الذي أجمع علماء المسلمين على فساد معتقداته وضلال أصحابه. شخصيةٌ من النكرات تم تسليط الأضواء الحداثيّة عليها، لتصبحَ من الشخصيات البارزة، بل لتصبحَ مثالا للحداثيّين، لا يكادون يستغنون عنه، وليصبحَ الكلامُ المنسوب إليها معيارا أساسا لمعرفة خصائص بدعةِ ما بات يُعرف في الخطاب النقدي الحداثي بـ"قصيدة النثر".
هذه، باختصار شديد، خلاصاتُ قصةِ "القرد الفنان ونقاد آخر الزمان"؛
هذا يشهدُ لهذا بأنه "شاعرٌ حداثيّ"، وهذا يردّ الجميلَ بالشهادة لصاحبه بأنه هو أيضا "شاعر مبدع متمكن"، ويأتي "الناقد"، من العصابة نفسها، ليشهد للاثنين بأنهما من "الشعراء الكبار"، ثُم يأتي دورُ المدارس والمعاهد والجامعات، ثُم دور الدعاية والإعلام، ثُم دور الطبع والنشر، ثُم الأنشطة الثقافية والأمسيات الفنية والقراءات الشعرية، ثُم يخرجُ لنا في نهاية السلسلةِ هذا المسْخُ الذي غطّى قبحُه على كل جميل، وضاع في ضوضائه كلُّ عمل بديع.
اللهم اجعلنا من الصابرين (الذين إذا أصابتْهم مُصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنّا إليه راجعون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراكش: 04 يونيو2013