بسم الله الرحمن الرحيم
مقالةٌ في تلَبّس
السياسيِّ بالدّينيّ
من معاني التلبّس في اللغة التعلّقُ والتداخلُ والاختلاطُ
والتَمَثُّلُ والاشتباهُ.
مِنْ دروس الحياة
تُعلّمُنا التجاربُ السياسية، التي نقرأ عنها في التاريخ
القريب والبعيد، عند المسلمين وعند غير المسلمين، وكذلك التجاربُ التي عشناها أو
عاصرناها-إلا مَنْ ركب مركَبَ الجحود والعناد، وأعماه الغلوُّ والتطرفُ، فإنه لن
يتعلّمَ هذا الدرسَ أبدا- تعلمُنا هذه التجاربُ درسا واضحا وبليغا، ملخصُه أن
السياسة حينما تُمارس باسم الدين، أيِّ دين، وحينما يَلْبَس الاجتهادُ السياسي لَبُوس
المقدس، أيِّ مقدس، فإن حصاد ذلك لا يمكن أن يرجع على الإنسان بغير الوبال والفتنة
والخراب والظلم والفشل وذهابِ الريح.
وهنا وجب أن أوضح أن هذا الدرسَ البليغ الذي لخصتُه في
العبارات الأخيرة لا يعني أنه يَحْرُم على الإنسان أن يرجع إلى الدّين، في أصوله
وكلياته ومبادئه، ليتخذ منه مصدرا للاستلهام والاستنباط والاستئناس. الدرسُ الذي
تحدثت عنه لا يعْني، بأي وجه من الوجوه، ألاّ يكون للدين أيُّ نوع من الحضور فيما
يعالجه الإنسان من شؤون الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من شؤون الحياة
والعمران، كما يذهب الملحدون واللائكيون(العلمانيون) اللادينيون.
لا، إنما قصدت بالدرس أن الفتنةَ كلَّ الفتنة، والفشلَ
كلَّ الفشل، والخرابَ كلَّ الخراب، حينما يُفرضُ الاجتهادُ الإنساني النسبي، الذي
يحتمل الخطأ والصواب، والرأيُ الإنساني الظني، الذي قد يصح وقد لا يصح، على أنه من الدين، أي أنه مما يتوجب تقبلُه
بالتسليم والتصديق والتأمين.
أظن أن قصدي قد بان بهذا التوضيح.
ومن المفيد أن أُذكّر هنا بما قاله الإمام الشهرستاني(أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم(479هـ-548))، صاحبُ كتاب "المِلَل والنِّحَل"
في عبارات موجزة تُلخّص لنا السببَ الرئيس وراء معظم المآسي التي عرفها تاريخ
المسلمين؛ قال الشهرستاني، رحمه الله، في "الملل والنحل"،
ج1، ص22:
"ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل
ما سُلّ على الإمامة في كل زمان."
والمشهور
عند علماء السنة أن موضوع الإمامة إنما هو من الموضوعات السياسية الاجتهادية. أمّا
عندما أصبح هذا الموضوعُ عند بعض المسلمين مسلوكا في مباحث العقائد والأصول
الإيمانية، فإنه تحول إلى قوة عاطفية قاتلة ماحقة، ولدت الكراهية، وأجّجت الأحقاد والعداوات،
وتسببت في إزهاق ما لا يُحصى من نفوس المسلمين.
مصيبةُ تأبيد المؤقت
الاجتهادُ
السياسي هو بطبيعته مؤقت بزمان، ومظروف بظروف، ورجحانُ صلاحيته إلى حين معيّن،
وليس إلى الأبد.
ومن
المصائب التي جرّت على المسلمين في الماضي، وما تزال تجر عليهم في الحاضر،
الويلاتِ والمآسي والتخلف والظلم والاستبداد، مصيبةُ تخليد ما ليس بخالد، وتأبيد
ما طبيعتُه وأصلُه وفصلُه التوقيت والنسبية.
لقد
كان الملك الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا
وله، يقول في بعض أحاديثه، إن النظامَ الملكي في المغرب وُجِد ليدوم!
ولم يزلْ هذا النزوعُ نحو جعلِ الملكية في المغرب نظاما
خالدا يتملَّكُه حتى جعل النظام الملكيَّ والدينَ الإسلامي في مرتبة واحدة من
القداسة والنزاهة، بحيث لا يجوز تناولهما بالمراجعة، كما نصت دائما الدساتير
الممنوحة، ومنها دستور فاتح يوليوز 2012 في الفصل 175، وحتى رفعَ الملكَ إلى قداسة
اسم الجلالة في شعار المملكة: الله، الوطن، الملك.
ما معنى أن يَنظر بعضُ المسلمين اليوم إلى الملك/وليّ
الأمر على أنه "ظل الله في الأرض"، وإلى "البيعة" التي عُقدت
له على أنها من جنس "بيعة الرضوان" التي عُقدت للرسول، صلى الله عليه
وسلم؟
ما معنى أن يكون للملك سلطاتٌ وصلاحياتٌ واسعة على رأس
الدولة، من غير أن يكون هناك سبيل، ولو على الورق، إلى متابعته ومراجعته ومحاسبته؟
معنى هذا أن ما كان في أصله اجتهادا بشريا مؤقتا
ومشروطا، أصبح معدودا في الثوابت المقدسة، والحقائق المطلقة، التي يُراد لها
الدوامُ إلى الأبد!!
هذا هو التطرف الذي يولّد العضَّ والجبر والاستبداد في
كل زمان؛ اختيارٌ بشريٌّ تاريخيٌّ مشروطٌ ومظروف يستحيل مع الزمن، بفعل فلسفة
الاستبداد وسيف الجور والاستعباد، إلى نظام مُخَلَّد إلى الأبد!
أما عند النظر والتحقيق، فالنظامُ الملكي المغربي، كغيره
من أنظمة الحكم، هو اختيار سياسي تاريخي، كانت له ظروفه التي فرضته، وكان له
فقهاؤه الذين سوّغوا للناس قبولَه، وكان له دعاتُه ودعايتُه التي زيّنت للناس
سيرتَه، وأظهرت محاسنَه وأخفت عيوبه، إلى آخر ما هنالك من أسباب ومبررات ومرجحات
ومسوغاتٍ ودعايات ومِقْمَعَات، كانت وراء اختيار تأسيس هذا النظامَ، وجعله يستمر إلى
اليوم.
فالأمر إذن سياسةٌ، واختيارٌ، وظروف، ورجالٌ، وموازين
قوى، وفقهٌ، وترجيح، وغيرُ أولئك مما يرجع الأمرُ فيه إلى الإنسان عِلْماً وفهما
وفقها وسيفا ودهاء ومكرا، ولا علاقة له بالدين من حيث هو عقائد وأصول وإيمان
ومقدسات يجب في حقها التسليم والرضا والخضوع.
فلا علاقة للإسلام بهذا النظام السياسي أو ذاك حتى يُصبح
هذا النظامُ معدودا في الثوابت والمقدسات، هو والدينُ في مرتبة واحدة، وأيُّ خروج
عليه، أو مطالبة بتغييره أو زواله، هو خروج على الدين. وما زلنا نرى كيف أن كثيرا
من المواطنين يُتابعون أمام المحاكم، ويُحكم عليهم بأحكام قاسية، بتهمة المس
بالمقدسات، ولا يكون المقصودُ في الحقيقة من جمعِ "المقدسات" إلا مفرد
"النظام الملكي".
قد نَفهمُ ونقبلُ أن يتحدث الناسُ عن نظام سياسي ما بأنه
اختيارٌ فرضَ نفسه على الناس بالغلبة والجور والإرهاب، أو أنه اختيارٌ ارتضاه
الناسُ وتوافقوا عليه، أو أنه اختيار فرضته الضرورة، لأن الناس لم يكن أمامهم
اختيارٌ غيرُه، أو أنه غيرُ هذا من النعوت والمبررات والمُحسّنات والمرجِّحات.
قد نتفهّمُ ونتقبّلُ أن يتحدث الناسُ عن نظام سياسيٍّ مَا
بأيّ شيء، وأن يصفوه بما شاؤوا من الأوصاف، ما دام الأمر يرجع في النهاية إلى
إرادة الإنسان وفكره ورأيه واجتهاده.
أما الذي يصعبُ تفهّمُه وتقبّلُه هو أن يتكلم الناس على
أنظمة سياسية بأنها اختيارٌ "فوق إنساني"، فرضته على الناس قوة علوية
مقدسة، لا يملكون أمام إرادتها إلى التسليم والإذعان.
فحينما يرضى حاكمٌ في العصر الحديث لنفسه-والزمانُ زمانُ
الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة إرادة الشعوب- أن يكون فوق المؤسسات، وفوق
المراقبة والمحاسبة، بناء على أنه يستمد شرعيته من الدين/السماء، فهذا يعني بكل
بساطة أننا ما زلنا نرسف في أغلال الثيوقراطية الكريهة التي أذاقت الإنسان كل
أنواع المذلة والمهانة والاستغلال، وما زلنا مهددين أن يجتاحنا البوار والدمار
والفتن في أي وقت، ومن كل جانب.
تقاتلٌ مُؤجَّل
تأملْ معي، أيها القارئ الكريم، الصورةَ التالية:
هذا حزبُ العدالة والتنمية، ومن ورائه حركةُ التوحيد
والإصلاح، وكثيرٌ من التيارات والشخصيات والتنظيمات المحسوبة على
"السلفيين"، يقولُ بشرعية النظام الملكي، الدينية والتاريخية والدستورية
السياسية، وبشرعيةِ بيعةِ أمير المؤمنين الذي هو الملكُ رئيسُ الدولة، ويقولُ بأن
كل خروج على هذه الشرعية إنما هو خروجٌ على النظام، وخروجٌ على الدولة، وخروج على
القانون. وعلى هذا، فكل ساعٍ لزوال الملكية بالمغرب هو، بالضرورة، متعدٍّ على
الشرعية، وساعٍ لزوال النظام، وإشاعة الفتنة والاضطراب والفساد.
وفي مقابل هذا التوجه، هناك جماعةُ العدل والإحسان، التي
ترى أن كلَّ الشرور إنما مصدرُها النظام الجبْري، ومن ثَمَّ، فلا خلاص لنا إلا
بزوال هذا النظام، الذي يمثله النظامُ الملكي الوراثيُّ الاستبداديّ، الذي هو نظامٌ
مرفوضٌ ومُدانٌ في الإسلام، حسب مذهب الجماعة-والأصحُّ حسبَ اجتهادِ مرشدها، رحمه
الله- في فهم بعض النصوص القرآنية والحديثية، وتأويلِ معانيها وفقه مقاصدها
وأحكامها.
إذن، فنحن أمام توجُّهَين مُتقاتلين قتالا مؤجلا إلى
حين، لأن أحدَهما يرى أن شرعيةَ الملكية ودوامَها من الدين، وله نصوصُه وتأويلاتُه
وفقهُه وترجيحاتُه، والآخرُ يرى أن عدمَ شرعية الملكية وحتميةَ زوالها من الدين،
وله هو أيضا نصوصُه وتأويلاتُه وفقهُه.
والصراحةُ أن ما نراه من لقاءات وعناقات وتبادلٍ للابتسامات
والتحيّات بين الطرفين إنما هو من باب المجاملات وآداب العلاقات العامة، التي تطبع
سلوك السياسيين في كل زمان ومكان.
فهذا ملكيٌّ أكثر من الملك، والآخر على النقيض إلى أقصى
الحدود، وكلاهما يزعم أن موقفه مستمد من الدين؛ فأين حقيقةُ الدين من كل هذا؟ أليس
الأمرُ كلُّه، من أوله إلى آخره، سياسةً في سياسة؟
ولْنَنْظرِ الآنَ للصورة من زاوية مختلفة؛ هذا حزبُ
العدالة والتنمية يختار الدفاعَ عن النظام الملكي، ليس لأنه نظامٌ يفرضُه الدينُ،
لقيامه على بيعةٍ شرعية يرضى عنها اللهُ ورسولُه، كما يقول الفقهاءُ المُسَوّغون
المُوالون، وإنما لأنه نظامٌ تقبله وترضَاه الغالبية من الناس لما له من سلطان وشوكة،
ولأنه نظامٌ يحافظ على لحمة المغاربة أن تمزقها النعراتُ القبلية والاختلافاتُ الإديولوجية
والصراعات المذهبية، ولأنه نظامٌ يتمتع بشرعية سياسية يجسدُها دستور مكتوبٌ حاز
غالبيةَ أصوات الناخبين في استفتاء شعبي طبعَته الحرية والنزاهة.
وفي المقابل، جماعةُ العدل والإحسان تعارض النظامَ
الملكي، ليس لأنه نظام جبري فاقدٌ للشرعية الدينية، وإنما لأنه نظامٌ وراثيّ
استبدادي، يستحوذ فيه الملك على أهم السلطات والصلاحيات، والملكُ هو واضع السياسات
الاستراتيجية، وصاحب القرارات السيادية، وكلُّ مؤسسات الدولة، المنتخبةِ وغيرِ
المنتخَبةِ، هي في خدمة مشروعه، وتنفيذ تعليماته، وهو، مع كل هذا، فوق المراجعة
والمتابعة والمحاسبة، ليس في الدستور ولا في القوانين التي تحكم البلاد نصٌّ تُشتمّ
منه رائحة إمكانية متابعةِ الملك ومحاسبته إن هو أخلّ بواجباته، أو تجاوز
صلاحياته، أو ارتكب أخطاءً، أو اتخذ قرارا ظالما؛ وحتى في نصِّ البيعةِ، الذي يُفترض
فيه أنه عَقْدٌ بين الملك والشعب، لا نجد ولو إشارة واحدة، إلى ما يجب على الملك،
وإنما هناك فقط ما يجب على المبايِع/الرعية من السمع والطاعة والانقياد.
في خاتمة المقال
أعتقد أن النظرَ إلى النظامِ الملكي من الزاوية
التاريخية/السياسية، وليس من الزاوية الدينية، سيعيدُنا إلى السياق الطبيعي للنضال
والتدافع، مهما تكن الاختلافاتُ بين مرجعيّات المناضلين والمتدافعين، وسَيرجعُ
بالمعركة السياسية إلى الدائرة البشرية النسبية، حيث تتنافس المشاريعُ، وتتناظر
الرؤى، وتتواجه الأفكار، وتتغالب الحججُ، بعيدا عن المقدّسات الدينية والمتعاليات
الإديولوجية، وحيث يكون الناسُ في هذه المعركة أحرارا في أن يصدروا في رؤاهم ومشاريعهم
واختياراتهم واجتهاداتهم عن المرجعية التي يرتاحون إليها، والمبادئ التي يؤمنون
بها.
لا يستطيع أحدٌ أن يمنع حضورَ الدين في التدافع السياسي
بما هو مبادئ ومقاصد وكليات. وكذلك، لا يستطيع أحد أن يمنع "المقدس"
الشيوعي الماركسي أن يكون حاضرا في ساحة المنافسة، بما هو روحٌ ومصدرُ إلهام، لا
بما هو المشروعُ الكامل الذي يُفرض على الناس على أنه الرؤية المطلقةُ الخالدة،
وغيرُه الرجعيّةُ والضلالُ الذي حقُّه الإقصاءُ والاستئصال.
لقد كتبْتُ في أكثرَ من مناسبةٍ أن من خطايا السياسيّين الإسلاميين
المُوالِين المُشاركين أنهم اختاروا الدفاعَ عن النظام المخزني باسم الدين، حيث
تكلّفوا في التأويل وتمحّلوا وتعسّفوا حتى جاؤوا بشيء غريب وعجيب، تردّه واضحاتُ
الدين، وتنقُضه بديهيات السياسية، وتعارضه دروسُ التاريخ ومعطيات الواقع المعيش.
وفي رأيي أن التكفير عن مثلِ هذه الخطايا-إن اعترف
الإسلاميون الملكيون أنها خطايا- إنما يكون، ببساطة، بالرجوع إلى القواعد السليمة
للممارسة السياسية، والدفاع عن النظام بما هو اختيار بشري تاريخي لا علاقة له
بالدين ومقدساتِه. وبهذا الرجوع، تتساوى الأطروحاتُ المتنافسة، ويصبحُ الاختلاف في
النظر والاجتهاد والترجيح مطلبا محمودا لا تحكمه رغبةٌ في المنع والقمع والاستئصال،
وعملا بشريا يُقَوّم بغاياته وإنجازاته وعطاءاته، وليس بشعاراته ومقدساته
ومتعالياته.
أما المعارضون
للنظام المخزني، من الثوريين والإصلاحيين، الذين جمعتهم حركة 20 فبراير غداة
الربيع العربي المغربي، والذين كان بينهم تواصلٌ وتنسيق واحتكاك في تجربة لم تُعمّر
طويلا، فسيظلون، في رأيي، في تدابر وتنافر وتشتّت واختلافٍ ما لم يكن منهم، من
عقلائهم، مبادرةٌ جريئةٌ لمدّ حبالِ تواصلٍ حقيقيٍّ، يقطع مع الفكر الأناني،
والتعصبِ الإديولوجيّ، والتوجهِ العدائي، ويبني علاقاتِ تفاهم وتقارب وتعارف
وتعاون سليمة من شوائب الحزبية الضيقة، والإديولوجية المتطرفة، والنظرةِ المتعالمة
المتعالية، تكون أساسا لبناء متين ثابت راسخ في مواجهة الاستبداد والفساد. فمتى
ثبت الأساسُ وقويَ وترسّخ، فإن البناء سيصبح هينا، وسمِّه عندئذ "ميثاقا
جامعا"، مثلا، أو "جبهة" أو "تحالفا" أو غير أولئك من
الأوصاف والأسماء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
يناير2013