السبت، 27 أكتوبر 2018

(الأدب الإسلامي) بين القبول والرفض(2/2)


بسم الله الرحمن الرحيم

(الأدب الإسلامي) بين القبول والرفض(2/2)

في الجزء الأول من هذه المقالة تحدثت عن الصنف الأول من الرافضين لـ(الأدب الإسلامي)، جملة وتفصيلا، أي تسميةً ومضمونا، وذكرت أنه يستحيل التواصل مع هؤلاء بأي نوع من أنواع الحوار والنقاش، لأنهم، في آرائهم ومقالاتهم ومواقفهم، "عدميّون" متطرفون إلى أقصى الحدود في التعامل مع الإسلاميّين، إلا أن يكونوا "إسلاميّين" على دينهم الحداثيّ اللادينيّ. وهذه العدميّةُ من هؤلاء ليست مقصورة على مجال الأدب، بل هي عامة تشمل مختلف الفنون، وخاصة فيما له علاقة بالمعتقدات والأخلاق.

رفضٌ مُعَلَّل في حوار أدبي مثمر
أما الصنف الثاني من المعترضين على تسمية (الأدب الإسلامي)، فيشهدُ له خطابُه ولغتُه في النقاش والحِجاج بأن الحوار والتفاعل والتواصل معه ممكنٌ، لأنه لا يعترضُ ولا يرفض من منطلق إيديولوجي أعمى، ومن موقف لاديني جاحد، وإنما هو اعتراضٌ قائم على اعتباراتٍ، منها ما هو شرعي وتاريخي، ومنها ما هو فني ونقدي.
ويمكن أن أمثل لهذا الصنف بالأديب الباحث السعودي الدكتور (مرزوق بن صنيتان بن تنباك)، الذي حاور أنصارَ (الأدب الإسلامي) وناقشهم نقاشا واسعا وغنيا ومفيدا، عموما، وإن كان حادّا ومتحاملا، في بعض الأحيان، في بعض ما قال وكتَب في نقاشه، لكنه لم يجرح العواطفَ والمشاعر، أو يتطاول على المعتقدات والمقدسات، بل إنه ناقش واعترض ورفض من داخل الدائرة الإسلامية، اعتقادا وأحكاما وأخلاقا، وتاريخا وأدبا ونقدا.
وقد نتج عن حوار الدكتور بن تنباك مع الدكتور وليد قصاب، وهو عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وأحدُ أعلام الأدب الإسلامي الحديث، مادةٌ أدبية نقدية مهمة نُشرَت، باسم المتحاورَيْن، في كتاب بعنوان "إشكالية الأدب الإسلامي"، ظهر في طبعته الأولى سنة 2009، عن دار الفكر بدمشق.
أذْكر هنا أن تمثيلي بالدكتور مرزوق بن تنباك إنما هو للوقوف على نموذج من نماذج الحوارات الأدبية النقدية، التي اشتهرت، منذ تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، بين أنصار الأدب الإسلامي ومناوئيه. وليس من غاية هذه المقالة أن تتحدث بتقصّ واستفاضة عن شبهاتِ الرافضين المُعترضين وما ردَّ به المؤيدون المدافعون، لأن هذا الموضوعَ-أقصد شبهاتِ الرافضين وردَّ المؤيدين عليها-قد كُتب فيه الكثير، بين مختصَرٍ مُركَّز ومطَوَّل مُفصَّل، وهذه الكتابات منشورة وميسَّرة لكل طالب باحث ومتابِع مهتمّ. مثلا، يمكن مراجعةُ المئات من العناوين المتعلقة بموضوع الأدب الإسلامي، إبداعا ونقدا، في الجزء الأول من (دليل مكتبة الأدب الإسلامي في العصر الحديث)، الذي أعده الدكتور عبد الباسط بدر، والذي صدرت طبعته الأولى سنة 1426هـ/2005م، عن مكتبة العبيكان، بالرياض.
لكن الذي يجب تسجيلُه هنا هو أن أنصار الأدب الإسلامي قد كتبوا ما لا يُحصى من المقالات دفاعا عن اختيارهم، وشرحا وتوضيحا واحتجاجا وتبريرا لحقِّ وجود كائن اسمه (الأدب الإسلامي)، ونشروا، كذلك، خلال ثلاثة عقود، العديد من الكتب والدراسات الأدبية والنقدية في مجالي التنظير والتطبيق، فضلا عن الأبحاث والأطاريح الجامعية، في الاتجاه نفسه، مُنظّرين ومدافعين ومُحاجّين، حتى ملُّوا من كثرة الردّ؛ يقول الدكتور عبد القدوس أبو صالح، وهو اليوم رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في أحد حواراته الصحفية: "نحن مَلِلْنا من كثرة ما ردّدناه في وسائل الإعلام المختلفة حول التهم والشبهات التي أثارها معارضو الأدب الإسلامي..."[من حوار منشور في موقع (لها أون لاين)، بتاريخ 27 جمادى الآخرة 1429هـ//02 يوليو 2008].
أما خصومُهم، فلا نعثر لهم إلا على آراءٍ ومقالاتٍ مبعثرة هنا وهناك، لا تُسعف الباحثَ في الوقوف على حقيقة آرائهم وحقيقةِ الأسس الأدبية والنقدية التي بنَوْا عليها اعتراضَهم ورفضهم. وقد أشرت، في الجزء الأول من هذه المقالة، إلى أن أصحابَ الموقف الإيديولوجي المتطرف، ليس عندهم إزاء "فكرة" الأدب الإسلامي وأصحابها إلا الرفض القائم، في جوهره، على رفض الدين بما هو دعوةٌ تشمل الحياةَ والإنسان والمجتمع، وبما هو عقائد وشرائع وأخلاقٌ تخصُّ الإنسان، في خاصة نفسه ودخيلة عواطفه وقناعاته، كما تخصّه في علاقاته مع الناس، في مجتمعه، وفي العالم الذي يعيش فيه، كما تخصّه في إيمانه وعمله، في معتقده الباطني وسلوكه الخارجي، في حاجاته الروحية والمادية، في شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والفنية، أي في جميع مناحي وجوده الروحي والمادي، وجميعِ تجليّات هذا الوجود في الدنيا حياةً، وفي الآخرة بعد الممات.
قلت لقد نَشر أنصار الأدب الإسلامي، على الأقل منذ تأسيس الرابطة إلى اليوم، كمّا هائلا من الكتابات، في الردّ على دعاوى الخصوم وشبهاتِهم وتخوفاتهم وانتقاداتهم، وقد تراوحت ردودهم بين المقالات الإنشائية القصيرة والبحوث الأكاديمية المتعمقة المستقصية المعتمدة على لوائح طويلة من المصادر والمراجع والشهادات والمقالات، لتفنيد مزاعم الخصوم، وتثبيت رؤيتهم وتقوية حجتهم.
ولست أشك في أن الذين قرأوا هاتِه الكتابات وتابعوها، الواحدة تلو الأخرى، وتأملّوها ووقفوا عندها بما تفرضه الدراسةُ الجادة والبحث الموضوعي، قبل إصدار أيِّ حكم أو اتخاذ أي موقف، يمثلون قلة القلة، بل أكاد أزعم، بحكم ما وقفت عليه من كتاباتِهم المنشورة، على ندرتها، أنهم يُعدّون على رؤوس الأصابع.
وهذا هو المؤسف حقا؛ أحكامٌ ومواقف واتهامات بناء على ماذا، إن لم تكن بناء على تتبع وبحث واهتمام، وبناءً على قراءة علمية متأنية، وفحص علمي موضوعي؟ وأين الرافضون المعترضون من كل هذا؟ وأين هم من الدراسة العلمية والتتبع الموضوعي؟
وأوضّح لقارئ هذه السطور أني لا أقول هذا في حق رافضي الأدب الإسلامي ومناوئيه، لأني من أنصار هذا الأدب. كلاّ، أنا أقول ما أقوله في حق هؤلاء الرافضين الإيديولوجيّين المتطرفين، لأني أرى-ومقالاتُهم وتصريحاتُهم بين يدي- أن موقفهم لا علاقةَ له بالموضوعية والإنصاف، بل لا علاقة له أصلا بالعلم وقواعده وأخلاقه، والبحثِ وأدواته ومعاييره. إني أنتقدهم لهذا أساسا، أما موقفي أنا من الأدب الإسلامي ومقالات أنصارِه، فسيظهر، شيئا فشيئا، في أثناء مقالاتي القادمة إن شاء الله.
وأرجع، بعدَ هذا الاستطراد، إلى مثال الدكتور مرزوق بن تنباك. فهذا الباحث واحدٌ من القلائل، الذين كتبوا ما كتبوا عن الأدب الإسلامي عن معرفة وتتبع وقراءة واعية فاحصة ناقدة، لا عن هوى إيديولوجيّ، أو عَداء مُبيَّت، أو عصبيّة عمياء.
لقد ذكرت أنه اشترك مع الدكتور وليد قصاب، أحدِ أعلام رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في إصدار كتاب (إشكالية الأدب الإسلامي)، سنة 2009، الذي ضم دراسةً لابن تنباك عرضَ فيها رأيه بشيء من التفصيل تجاه "مصطلح" الأدب الإسلامي، وضمَّ أيضا عرضا للدكتور وليد قصاب، يردّ فيه على أبرز الانتقادات والشبهات والاعتراضات التي وردت في دراسة الدكتور بن تنباك.
ولا بد أن أذكر هنا أن مشاركة الدكتور بن تنباك في هذا الكتاب "الحواري" لم تكن المرة الأولى التي يكتب فيها بن تنباك في هذا الموضوع، لأن موقفه من "مصطلح" الأدب الإسلامي قديم، عبر عنه في مقالة مطولة نشرها في مجلة (الدارة) السعودية الفصلية قبل صدور الكتاب المشرك مع الدكتور قصاب بحوالي سبع عشرة سنة.[نُشرت هذه المقالة بعنوان "مصطلح الأدب الإسلامي"، في العدد الثالث، السنة الثامنة عشرة، ربيع الثاني/جمادى الأولى/جمادى الثانية، 1413هـ(1992م)، ص75-121.]
الدكتور بن تنباك، في كتاباته وحواراته، لا يرفض الأدب الإسلامي جملة وتفصيلا، كما يفعل أصحاب الإيديولوجيا اللادينية المتطرفة، وإنما اعتراضُه يتركز على التسمية/المصطلح؛ يقول في هذا المعنى: "الاعتراضُ كان على مبدأ تصنيف الأدب إلى إسلامي وغيره، وقد كان رأيي ينطلق من هذا المعنى(...)لم أنظر للمضمون، لأن المضمون في الأدب يعبر عنه في جملته وضمن المعنى العام. وقد وُجدت المعاني والمضامين الإسلامية وغير الإسلامية منذ القدم، ولم يعترض النقاد على الاتجاهات أيا كان موضوعها، وإنما التصنيف هو موضوع الاعتراض(...)إنني لا أصادر حق المبدعين في مضامين الأدب ورسالته الإنسانية إن كان محتواه يحمل رؤية إسلامية..."[جريدة (الشرق الأوسط)، الملحق الثقافي، الاثنين، 17 رجب 1437هــ//25 أبريل 2016م.]
يلخص لنا الدكتور بن تنباك، في الجزء الأول من كتاب (إشكالية الأدب الإسلامي)، أسباب رفضه لمصطلح الأدب الإسلامي في ثماني نُقط:
الأولى: المصطلح خروجٌ على كل ما أقرته الأمة الإسلامية وقبلته من فنون الآداب، ولم يكن للمصطلح مسوغ شرعي أو نقدي، ولم يُعرف مثله في تاريخ الآداب الإنسانية والعربية والإسلامية.
الثانية: المصطلح يعلن الأسسَ الطائفية والمذهبية في الأدب، الأمر الذي لم يسبق مثله في كل العصور وفي كل الأمصار، ولا يمكن إقرارُ مثل هذه الطائفية الأدبية.
الثالثة: قتلُ ملكات الإبداع لدى الشباب بما يسمّونه الالتزام، وتحديدُ أطر ضيقة للشعر والنثر لا يتجاوزها المبدع إلى غيرها من فنون الأدب كلها إلا ما يسمونه الاتجاه الإسلامي، وهو اتجاه يخصصُ شمول الإسلام برؤية ضيقة محدودة.
الرابعة: تضييق دائرة المباح أمام الناس، بينما القاعدة الشرعية تنص على أن الأصل في الأشياء كلها الإباحة.
الخامسة: حمل الناس على محامل الشك، وتلمس الأخطاء وتفسيرُها بسوء الظن، وتصنيفُ عامة المسلمين في الحاضر والماضي إلى أصناف لا يقبلون منهم إلا صنفهم وحده.
السادسة: التشويش على الماضي الذي لا يوافق منهجهم، والتوجه إليه بالتزييف والتجريح مهما كان معناه، ومهما كان حظ قائله من العلم والفقه والتقوى.
السابعة: حمل الناس في الأدب والدين على رأي محافظ ضيق الأفق أحادي النظرة، شديد التزمت والانغلاق، بعيد عن سماحة الإسلام وسعة رحمته بالناس، والهوس النفسي بتزكية الرؤية الخاصة وعدَّها الصواب وغيرها الخطأ.
الثامنة: أثبتت التجربة الإبداعية عند أدباء هذا المنهج فشلَها، وتحجّر معانيها، وضعف قدرتها على القيام بأدنى درجات القبول الفني فيما قدموا من صور الإبداع الفني في الشعر والنثر.
لقد كان اعتراض الدكتور مرزوق بن تنباك على "مصطلح" (الأدب الإسلامي) قائما، أساسا، على رفض تصنيف الأدب إلى أدب إسلامي وأدب غير إسلامي، حيث وصف هذا التصنيف بأنه بدعة، وأن أصحابه يبنون رأيهم على تقديم النظرية على التطبيق، أي أنهم ينظّرون لأدب لمّا يوجدْ، على أمل أن يوجد مستقبلا وفق الحدود المرسومة، والنظرية السابقة.
ومما له علاقة بتقدم النظرية على التطبيق موضوع "الالتزام" في الأدب؛ وهو موضوع، عند المعترضين على مصطلح (الأدب الإسلامي)، يحدّ للأديب حدودا، ويفرض عليه الالتزام بها وعدمَ تعدّيها، وهو ما يخنق الإبداع، بل قل يضيق عليه واسعا، ويحرم عليه مباحا.
ومن انتقادات المعترضين على التسمية/المصطلح أن خطاب أنصار المصطلح تغلب عليه العاطفة، وليس يستند إلى حجج قوية من الدين والتاريخ والسلف وقواعد الفن والإبداع.
ومن هذه الانتقادات أن أنصار المصطلح ينجرّون، في كثير من آرائهم، إلى الحكم على مَطويات ضمائر السالفين والخالفين، وتصنيفِهم، على ضوء المعايير التي وضعوها، وهي تصنيفاتٌ قد يكون فيها كثير من الرجم بالغيب، والتطاولُ والجرأة على الأعراض، والنبشُ في السرائر، والتشكيكُ في المقاصد والنيات المغيَّبة، فضلا عما يكون في هذا التصنيف من تحقير وانتقاص لأقدار الناس.
ومما يأخذه المعترضون على مُناصري مصطلح (الأدب الإسلامي) أنهم يردون الروايات التاريخية المتواترة، ويشككون في الأخبار التي تسير على غير هواهم، بل ومنهم من يرفض أو يشكك أو يتأول تأولا بعيدا، وبغير موجب قوي، ما أقره الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابتُه ومن سار على نهجهم من التابعين وأخبار سلف الأمة.
ويرى المعترضون أنه، في مجال التجريب والتطبيق والإنجاز الإبداعي، تبدو حصيلة الأدب الإسلامي، هزيلة في موازين الفن والإبداع، رغم مرور عقود على بداية التنظير، وبالتحديد منذ الإعلان عن تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمي سنة 1984.
في الجزء الثاني من الكتاب المشترك، ردٌّ للدكتور وليد قصاب على اعتراضات الدكتور بن تنباك، ومناقشةٌ لأهم ما أورده من شبهات.
 في المقالة القادمة، إن شاء الله، قضيةٌ أخرى من القضايا المتعلقة بموضوع (الدين والأدب).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.




السبت، 20 أكتوبر 2018

(الأدب الإسلامي) بين القبول والرفض(1/2)


بسم الله الرحمن الرحيم

(الأدب الإسلامي) بين القبول والرفض(1/2)

هناك اليوم، في الساحة الأدبية والنقدية، وكذلك في الساعة الفكرية، نقاش حول (الأدب الإسلامي)، حول التسمية والاصطلاح والمفهوم. وهذا النقاش ليس محصورا بين أنصار الأدب الإسلامي وبين خصومهم، بل نجده موجودا داخل معسكر المؤيدين أنفسهم.
الخوض في تفصيلات هذه النقاشات والصراعات والجدالات القائمة بين مؤيدي الأدب الإسلامي وخصومهم، أو بين المؤيدين أنفسهم، في تقديري، لا يفيدنا شيئا كثيرا، فضلا عن أنه لن ينتهي بنا إلى نتيجة ذات وزن، ما دام النقاش والجدال محصورا في الجوانب النظرية والإيديولوجية، وما دام لكل طرف من الأطراف المشاركة في هذا النقاش والجدال دوافعُه وقناعاتُه وأهدافه التي تفرض عليه أن يستمر في الحِجاج والتدافع، وفي بعض الأحيان، أن يشتدَّ في الخصام، لا يَلين ولا يُظهر ميلا لاعتدال أو موقفٍ وسط.
وما يمكن تسجيله في هذا الباب، وهو من المعطيات الثابتة التي لا سبيل إلى إنكارها أو التشكيك فيها، هو أنه لم يكن هناك أيُّ اختلاف بين النقاد، ولا أيُّ انقسام وسط الباحثين والدارسين، في شأن اصطلاح أو تسمية (الأدب الإسلامي)، حينما كان مفهومُ النعت الإسلاميّ مقصورا على المفهوم الزمني المنقطِع، الذي يحصر زمان الأدب الإسلامي بين زمان المخضرمين وزمان المحدَثين، كما هو مشهور في التقسيم الذي وصلنا عن القدماء بخصوص العصور الأدبية. وما تزال، إلى اليوم، كثيرٌ من جامعاتنا تدرّس مادة (الأدب الإسلامي) بتحديد الفترة الزمنيّة في عصر صدر الإسلام، أي في عصر النبوّة والخلافة الراشدة، وهناك من يجعل هذه الفترةَ تمتد لتشملَ العصرَ الأمويّ.
لم يبدأ الخلاف والانقسام بين الأدباء والنقاد والدارسين المحدثين حول تسمية (الأدب الإسلامي)، إلا بعد أن تجاوز مفهومُ العبارة/التسمية الدلالةَ الزمنيّة للعبارة، وأصبح يُحيل على الإسلام، بما هو قرآن وسُنّة، وبما هو إيمان وشرائعُ والتزامٌ ودعوة ونضال، وبما هو أحكام وواجبات وحقوق والتزامات وأخلاق وآداب.
قبل الإعلان عن تأسيس (رابطة الأدبي الإسلامي العالمية)، في سنة 1984، لم يكن هناك نقاشٌ ذو بال حول (الأدب الإسلامي)، وإن كان هناك صراعٌ إيديولوجيٌّ حادّ وخصامٌ فكري محتدم بين "الإسلاميّين"، من جهة، وبين "اللادينيّين"، بكل ألوانهم ومشاربهم وتوجهاتهم، من جهة أخرى.
نعم، كانت هناك كتاباتٌ تَظهر بين الحين والآخر، وخاصة في شكل مقالات ودراسات قصيرة، في بعض الجرائد والمجلات، تناقش موضوع إسلاميّة الأدب وموضوعَ الإسلام والفن بصفة عامة، في ظروف سياسية واجتماعية كان يطغى فيها الصوتُ "اللادينيّ" المناوئ للإسلاميّين، تتقدّمهم حركةُ (الإخوان المسلمون)، في مصر وخارجها.
لكن حدّة الاعتراض على (الأدب الإسلامي) ستزداد-بل سيصبح الرفضُ والاعتراضُ والاتهام هو الأصل والمَقصِد في مواقف الخصوم اللادينيّين- حينما ستتحول الأماني والرغبات المتعلقة بالأدب الإسلامي مِن مجرد مقالات في ثنايا بعض المنشورات ذاتِ الانتشار المحدود، ومِن مجرد خطابات وطموحات يعبَّرُ عنها في بعض المحافل واللقاءات، إلى رابطةٍ عالمية، لها أهدافها ومبادئها، وإلى منظمة إسلامية لها قانونها الأساسيّ، ولها هيئاتٌ ومجالس ومكاتب، محليةٌ ومركزية، للتشاور والتداول والتقرير، وإلى مِنبرٍ مسموع وآلياتٍ إدارية وإعلامية للدعوة وللتواصل والنشرِ على نطاق واسع.
يقول الدكتور حسن الأمراني-وكان يومها عضوا بمجلس الأمناء برابطة الأدب الإسلاميّ العالمية-في التقديم الذي كتبه، في شتنبر1991م//ربيع الأول 1412هـ، لـ(دليل الأدب الإسلامي في العصر الحديث)، الذي أعدّه الدكتور عبد الباسط بدر: "في أقل من عشرين سنة، صار للأدب الإسلامي مريدوه، كتّابا وجمهورا، ووجد طريقَه إلى القلوب، وصار، في نظر الخصوم، يمثل-على الأقل-ظاهرةً أدبية من الصعب تجاهلُها. وتوالت الكتابة في الأدب الإسلامي، إبداعا ودراسة، وظهرت-لأول مرة-مجلاتٌ متخصصة للأدب الإسلامي، فظهرت (المشكاة) بالمغرب، ثم تبعها (الأدبُ الإسلامي) بالهند، ثم مجلة (الأدب الإسلامي) في تركيا، وبدأت تتحقق عالميةُ هذا الأدب عموديا وأفقيا، ودخل الأدب الإسلامي الجامعاتِ، وأصبحت تُنجز بحوث ورسائل وأطروحات تتناول هذا الأدب، مما جعل وجودَ دليل لمكتبة الأدب الإسلامي ضرورةً ملحَّة".
مِن الكتابات التي ظهرت قبل تأسيس (رابطة الأدب الإسلامي العالمية) أذكر، على سبيل المثال، كتابَ السيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه)، وخاصة في طبعته المتأخرة، التي عرفتْ بعض الزيادات والتعديلات، مقارنة بالطبعة الأولى، وكتابَ الأستاذ محمد قطب (منهج الفن الإسلامي)، وكتاب الدكتور نجيب الكيلاني (الإسلامية والمذاهب الأدبية)، وكتاب الدكتور عماد الدين خليل (في النقد الإسلامي المعاصر).
إذن، الأدب الإسلامي، بعد تجربة سنوات من التنظير والإبداع والنقد والنشر، بات، في عين خصومه، في أضعف التقديرات، "ظاهرة أدبية يصعب تجاهلها"، بعد أن كان وجودُه في الستينيات والسبعينيات، وكذلك بعض سنوات الثمانينيات، من القرن الماضي، لا يتعدى حدود الأماني والكتابات الإنشائية الطامعة الطامحة.

فيمَ الخصامُ والجدالُ؟
يمكن تصنيفُ الرافضين للأدب الإسلامي، كليّا أو جزئيا، إلى فريقين: الرافضين من منطلَق إيديولوجيٍّ لادينيّ، يغلب عليه التطرفُ في كثير من الأحيان، والرافضين بدافع يغلب عليه الجانبُ الأدبي النقدي الفني، أي أنهم لا يرفضون من أجل الرفض، كما هو حال أصحاب الإيديولوجيا اللادينية، وإنما يُقدّمون بين يدي رفضِهم تعليلاتٍ وتفسيرات ومبررات لها أصلٌ، أو ما يُشبه الأصل، في الأدب ونقده.

رفضٌ إيديولوجيٌّ لادينيّ
الملاحَظ على هذا الصنف مِن الرافضين أن آراءهم في موضوع الأدب الإسلامي لا نجدها إلا كلمةً هنا وهناك، وتصريحاتٍ مقتضَبة مبعثرةً في هذا الحوار أو ذاك، وإشاراتٍ مختصرةً مبثوثةً في كلام على هامش لقاء، أو في مقالة مضمومة إلى مقالات أخرى في هذا المنشور أو ذاك المطبوع. وهذه الصورة التي تظهر بها آراءُ هؤلاء الرافضين إنما هي، في تقديري، دليلٌ على أنها آراءٌ لا تستند إلى أساس نقديٍّ علميٍّ قائمٍ على البحث والتحري والتتبع والاهتمام، وأن أصحابها لم يُكلِّفوا أنفسهم أن يعرفوا حقيقةَ الموضوع الذي يَحكمون فيه، ولا أن يقرأوا أدبياتِ هذا الخصم الذي ليس له عندهم إلا الرفضُ والاتهامُ والإنكار. وقد يتعذّر على الباحث أن يجد لهؤلاء دراسةً جادة منشورةً، تعتمد قواعدَ البحث الأكاديميّ، أو كتابا مطبوعا ينمّ على مجهودٍ معتَبر في البحث والنقاش والحِجاج، وإنما الأمر، باختصار، كلامٌ إنشائيّ مُلقىً على عواهنه، تحكُمه العداوة الإيديولوجية العمياءُ، وتستدعيه أهدافٌ لا علاقة لها بالأدب والنقد، ولا بالحوارات الفكرية الجادة، والنقاشات الفنية المعقولة المقبولة.
مِن الكتب القليلة المطبوعة التي وقفت عليها لهؤلاء الرافضين المتطرّفين كتابُ الدكتور سعيد علوش (نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي)، الصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، بالرباط، 2002. وهو كتاب قائم، من أوله إلى آخره، على الاختلاقِ والتلفيق والاتهامات الباطلة والأحكام الجائرة المنحطة في حق الأدب الإسلامي ومؤيّديه والمدافعين عنه، مِن الكتّاب والنقاد والأدباء. كتابٌ يجري على لغة هي أقربُ إلى السباب الدنيء وفجورِ السوقة والعوّام في الخصام منها إلى لغة العلم والنقد والأمانة والموضوعية. كتابٌ، في تقديري، لا علاقة له بموضوع النقد والأدب، ولهذا لم أرد أن أثقل على القارئ بالوقوف عنده.
هذا هو حال المعترضين على (الأدب الإسلامي)، لأسباب إيديولوجية؛ فهم، في غالبيتهم، ينتمون إلى التيار اللاديني-وهو تيار يجمع الملحدين الأقحاح إلى جانب المسلمين المتذبذبين المتشككين والغافلين اللاهين-ومن ثَمّ فهم يرفضون هذا الأدب، لأنه يحيل على الدين، الذي يعتقدون-طبعا بمنظارهم الإيديولوجي-أنه والفن ضدان متعاديان متنافران لا يلتقيان.
وأسوق فيما يلي مثالا على مقالات هؤلاء الرافضين اللادينيّين المتطرّفين الحاقدين، التي لا علاقة لها بالبحث البناء، والنقد الموضوعي، والكلام المسؤول.
فهذا محمد بنيس، أحد أعلام "الحداثة"، الذين رفعهم الإعلامُ اللادينيّ إلى مصاف المشهورين-وأيُّ شهرة؟ وأيُّ حداثة؟ وأيُّ إنتاج؟ وأيُّ شعر؟!!-يصف، في مقالة له بعنوان "أولياءُ بدون ولاية"، الدعوةَ إلى الأدب الإسلاميّ بأنها "حركة يؤلِّف أصحابُها كتبا يدعون فيها إلى أدب المؤمنين، تمييزا له عن أدب الكافرين، المفسدين، المغضوب عليهم"[لاحظ الطّنْزَ والكلامَ اللامسؤول](ص124)، ويُسمّي دعاةَ الأدب الإسلامي "أولياء بدون ولاية"(نفس الصفحة)، "وهمْ من مظاهر المرحلة الحالية، في الثقافة العربية، التي تتخلى عن القيم الكبرى للحداثة"(ص125) ، ويصف الدعوة إلى أدب إسلامي بأنها "ردّ فعل جاهل بالأدب، وبالأدب العربي، وبالثقافة العربية..."(ص126)، و"أن أهل الأدب الإسلامي خارجون عن الأدب. وبخروجهم أعفونا من النقد والنقاش والسجال. إنهم من أهل اللاأدب". وينتهي، في آخر المقالة، إلى أن دعاة الأدب الإسلامي "جاؤوا إلى الثقافة العربية والأدب العربي من خارجهما. والذي يجعل من نفسه الأديبَ الإسلاميَّ في العالم العربي ليس صديقَ الأدب، ولا صاحبَه، ولا قريبه، ولا حليفه، ولا ناصحه. إنه من خارج الأدب يتكلم، جاهلا بأسس ومعرفة، ونحن ساكتون."(ص128)
هذه المقالة منشورة في كتاب "الحداثة المعطوبة" لمحمد بنيس. وهذا الكتاب عبارةٌ عن مقالات وخواطر وكتابات إنشائية، جُمعت بالإكراه تحت عنوان "حداثي"، وطُبعت في صورة كتابٍ، في رأيي وتقديري وتقويمي، لا تُرجى منه فائدة، بميزان الفن والأدب والنقد؛ وهل من فائدة في الهذر؟ وهل الثرثرةُ شيءٌ غيرُ اللغو والهَباء؟
 لاحظْ، في هذه المقتطفات، أولا، هذه الجرأةَ في الحكم على الآخر، وهذا التعالمَ والأستاذيّةَ المزيّفةَ في النظر إلى مخالفيه ممّن اختاروا غيرَ اختياره، واجتهدوا في غير سبيله، واستندوا إلى غير مرجعيّته وهواه. ولاحظْ، ثانيا، مستوى هذه اللغة والتعابير التي يصوغ بها ضغائنه وسخائمَ صدره، التي تنزل، في أحيان كثيرة، إلى مستوى الكلام الركيك.
سئل مرة عن الأدب الإسلامي فأجاب بأنه "دعوةٌ إيديولوجية عمياء ومتعارِضة مع جوهر الأدب"[من حوار أجرته معه "طنجة الأدبية"، حاوره يونس إمغران، 12 أبريل2010].
"رمتني بدائها وانسلّتْ"، مثلٌ عربيٌّ يُضرب لمَنْ يسبق إلى تعْيير خصمِه بعيْب هو أولى بأن يُعَيَّر به.
هل يُعقل أن يصدرَ مثلُ هذا الجواب مِن رجل يزعم أنه "شاعر"، وأنه "منفتِح"، وأنه من أهل العاطفة والذوق والوجدان؟
"شاعر حداثيّ"، عند نفسه، وفي الأبواق الحداثيّة الصاخبة الهائجة المائجة، لسانُه حديدٌ ونارٌ على الإسلاميّين من أهل المسجد، وقلبُه حنانٌ ورقةٌ و"شاعريةٌ" ناعمةٌ فياضةٌ للخمر، أمِّ الخبائث، وبالطبع، لشرّابها من روّاد الحانات، بالليل والنهار؛ اقرأوا ما كتبه في مقالة بعنوان "الشعرُ والحبّ والنبيذ"[(القدس العربي)، 12 أبريل2013].
وهذا مثال آخرُ من مقالةِ كاتبٍ لادينيٍّ مغمور، لا يزال يسعى ويجتهد في السعي، ليصبح مشهورا، على طريقة مثالِه الأعلى، الذي لا يفتأ يدافع عنه، وهو أدونيس وأمثالُه من الملحدين المناضلين المحترِفين.
اسم هذا الكاتبِ محمد بودويك، ولا عجبَ أن يكون مُصنَّفا في "الشعراء"، لأن الشعر في هذا الزمان بات حِمىً مستباحا لكل مَن هبّ ودبّ، يدّعيه هيُّ بنُ بيّ، وطامرُ بنُ طامر، وصَلْمعة بنُ قلْمعة، وأمثالُهم مِن المجاهيل، ما دام الأمر فوضى، والباب مُشْرَعا يدخله كلُّ من شاء، بلا قواعد، ولا مقاييس، ولا مفاهيم، ولا أهداف.
فعند هذا الرجل، "إضافةُ الأدب إلى "الإسلامي"، معناه تديِينُه، وإلباسُه جبّة الداعية، ووضعُ سبحة "النظم" والوعظ في يده، وقسرُه على أن يكون "بوقا" زاعقا للدين، ومشروطا-حتما-بالمناسباتية، ومنسلكا-بإجمال-في العرض والطلب. من هنا، تفطّن الأصمعيُّ بنباهة الناقد الحصيف، إلى معاني هذه الحقائق، لمّا اعتبر أن "الشعر شر بابه النكد إذا دخل باب الخير لاَنَ"..."[مقال بعنوان (الأدب والدين) منشور بالجريدة الإلكترونية المغربية (هسبريس)، بتاريخ 9 ماي 2018]
وقد نقل السيد بودويك كلامَ الأصمعي محرَّفا؛ وأذّكِر هنا، باختصار شديد، أن هناك روايتين مشهورتين لكلام الأصمعيّ، الأولى هي التي اعتمد عليها الكاتبُ، ونصها الأصليُّ، بلا تحريف: (الشعر نكد بابه الشرُّ، فإذا دخل في الخير ضعف)، وهي رواية ابن قتيبة في (الشعر والشعراء)(ج1/ص305)، والثانية هي رواية المرزباني في (الموشَّح)، وهي مختلفة في صياغتها ومضمونها عن رواية ابن قتيبة. وقد حقق الدكتور صالح أزوكاي في الروايتين، وانتقدهما، سندا ومتنا، بطريقة علمية موضوعية، وانتهى إلى ترجيح رواية المرزباني، التي لا يُفهم منها قطعا ما نفهمه من رواية ابن قتيبة؛ وهذا نصُّ رواية المرزباني: (حدثني عبد الله بن يحيى العسكري، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الصمد، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثني العباس بن ميمون طابع، قال: حدثني الأصمعي، قال: طريقُ الشعر إذا أدخلته في باب الخير لاَنَ؛ ألا ترى أنّ حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلمّا دخل شعرُه في باب الخير، مِن مراثي النبي صلّى الله عليه وسلم وحمزةَ وجعفرٍ رضوان الله عليهما وغيرهم، لان شعرُه. وطريقُ الشعر هو طريق شعرِ الفحول، مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة، من صفات الديار والرّحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفةِ الحمر والخيل والحروب والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لاَن."(ص71).
هذا فيما يخصّ لفظَ رواية كلامِ الأصمعي وصحةِ نسبةِ هذا الكلام إليه. أما الاستشهادُ بالأصمعي، فهو استشهادٌ إيديولوجيٌّ لا علاقة له بالنقد الأدبي الفني، لأن الأصمعيَّ كان مشهورا بأنه من رواة اللغة وغرائبها ونوادرها، وكان هواه-مثلُه مثلُ غالبية الرواة من جيله-مع القديم؛ قال الجاحظ: "طلبتُ علمَ الشعر عند الأصمعيّ فألفيته لا يعرف إلا غريبه..."[الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، للصاحب بن عباد(إسماعيل بن عباد، ت 385هـ)، ص31].
وقال السيد بودويك في موضع آخر من مقاله: "تنبغي الإشارة إلى أن "فرية" الأدب الإسلامي، نادى بها السيد قطب، ومصطفى صادق الرافعي في ما كتبوا ونظموا، ودبجوا. وتبعهم نجيب الكيلاني وغيره كثير، إلى أن طرحت الفكرة على بساط الجد والدعوة، والإيديولوجية العارية في منتصف القرن العشرين، فالتأم جمع الدعاة إلى هكذا "أدب"، فيما سموه بـ "رابطة الأدب الإسلامي العالمية"...".
ويشهد هذا الكلامُ على صاحبِه بأنه لا يملك معلومات صحيحة عن الموضوع الذي يتكلم فيه، فكيف يمكن إصدارُ أحكام موضوعية ومُنصِفة استنادا إلى معلومات غيرِ صحيحة؟ وكيف يمكن بناءُ استنتاجات مُعتبرَة ومقبولة على مقدمات مختَلقَة أو محرَّفة أو متخيلة؟ فهو يذكر هنا، مثلا، أن تأسيس (رابطة الأدب الإسلامي العالمي) كان في منتصف القرن العشرين، وهو خطأ يؤكد أن صاحبه لا يعرف عن هذه الرابطة إلا التخرّصات الناجمةَ عن التخيّلات والأوهام والإشاعات، ولا علاقة لها بالبحث العلمي والتحري الموضوعي والقراءة الفاحصة الناقدة المتتبعة.
ويختم مقاله بقوله: "لا يوجد أدبٌ إسلاميّ، ولا أدبٌ مسيحي، ولا أدب يهودي، ولا بوذي، ولا زَرادُشْتي...كدت أقول: بدأ الأدبُ وثنيا وسيظل، أيْ "لا َدينيا"، وتلك ميزته وتفرده.".
وهذا بيتُ القصيد من كلامه: "بدأ الأدبُ وثنيا وسيظل، أيْ "لا َدينيا"، وتلك ميزتُه وتفرّدُه."!!
وأختم هذه الأمثلةَ من مقالات الرفض الإيديولوجيّ المتطرف للأدب الإسلامي بمقتطف ممّا أجاب به سعيد عيوش حينما سئل عن التحفظ الذي كان منه على تسمية الأدب الإسلامي في كتابه (نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي)؛ قال: "تصوّرْ أن مائة سنة التي قضاها العربُ في النهضة، وفي البحث عن وسائل النهوض بالأدب العربي، ولم يتوصلوا رغم ذلك إلى نظرية عربية محضة، نجد دعاة الإسلاموية[تأمل هذه الصياغةَ وما تختزنه مِن شحنات إيديولوجية] يتوصلون إلى نظرية في عَقدين، تحت تسميّة نظرية الأدب الإسلامي. هل هذا يسمى نظرية؟ هذه النظرية دون مرجعية، أتحدّى أصحابَ هذا التوجه أن يقدّموا مرجعية أكاديمية أو جامعية، بل كل ما قاموا به مجرد تجميعات عقائدية، وأظن أنها دون المستوى الأكاديمي، بل تخدم توجهات إيديولوجيا وظرفية محددة".[من حوار مع جريدة (الخبر) الجزائرية، في29 ماي 2014.]
"التحدي"، و"تبريق العينين"، و"الجبهة" في الدفاع عن الباطل، فضلا عن الفجور في الخصام، خصالٌ ثابتةٌ في سلوك معتنِقي الإيديولوجية اللادينية المتطرفة.
هذا الصنفُ من الرافضين للأدب الإسلامي، في اعتقادي، لا مجال معه للنقاش والحوار والتواصل، لأنه ينطلق من موقف إيديولوجي "عدمي" تجاه الإسلام وكلِّ ما يتعلق به من معتقدات وتصورات وأحكام وأخلاق وآداب. ويضم هذا الصنفُ أخلاطا من الناس-مِن الملحد المناضل عن اعتقاد واقتناع إلى المسلمِ الغافل اللاهي المتّبِع عن تقليد وإمّعيّة-تجمعهم رابطةُ اللادينية، حيث العداوة للدين، وحيث كل الوسائل مباحة في هذه العداوة، بما فيها الاختلاق والتزوير والافتراء والرجم بالغيب، للطعن على الدين، والتشكيك في نوايا المتديّنين، والطعن على معتقدهم، وتناول مقالاتهم وسلوكاتهم ومساعيهم بالتشويه والاتهام.
فموقف هذا الصنف من المعترضين المناوئين لـ(الأدب الإسلامي)، في اعتقادي، بعيدٌ أن يوصفَ بأنه رأيٌ واجتهاد ونظرٌ من زاوية مختلِفة، وإنما هو رفضٌ من أجل الرفض، وتشكيكٌ واتهامات وتلفيقات من هنا وهناك، فضلا عن لغة السخرية والتجريح البذيء.
تتمة الكلام في الجزء الثاني من هذه المقالة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


السبت، 13 أكتوبر 2018

أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟


بسم الله الرحمن الرحيم


أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟

أجدّد الاتصال بالقراء الأعزاء، بعد غيْبة طالت بعض الشيء، وأسأل الله، العليّ القدير، سبحانه، أن ييسّر لنا من الأسباب ما يجعل من تواصلنا هذا تواصلا مثمرا بناء، ونافعا ممتعا؛ فإن من اللقاءات بين الناس ما لا يكون منها إلا اللغو والقيل والقال، لتزجية الفراغ، وإشباع فضول نفساني ما يزال يكبر ويتسع بمقدار السرعة التي تسير بها التطورات التكنولوجية، وخاصة في مجال الإعلام، في وجهه الإلكتروني الجبار، الذي بات له من القوة ووسائل الجذب والإغراء والتخدير ما يجعل منه اليوم، وخاصة في أوساط الشباب الناشئ، السلطةَ الأولى في توجيه الأفكار والأذواق والسلوكات، وتشكيلِ الاقتناعات والمعتقدات، وتقييدِ الأفهام والإرادات، وزرعِ أسبابِ كثيرٍ من العلل والانحرافات والعاهات، التي لا تفتأ تنتشر في مجتمعاتنا العربية الإسلامية وتستفحل وتُزمِن.
نسأل الله، تعالى، أن يقيَنا شرورَ هذا العالم الافتراضي الرقمي، الآخذِ في التمدّد والتمكن والتغلغل، في النفوس والقلوب والعقول والعواطف والأفكار وسائر أشكال الوعي والشعور والفهم، مُولّدا عبر شبكاته العنكبوتية ومواقعه التواصلية ما لا يُحصى من صور الجهل والبؤس والانحطاط، وذلك عبر إخراج ونشر أسوأِ ما في الإنسان وأقبحِه وأخسّه وأحطّه.
لا شك أن للعالم الافتراضي، ولمواقع التواصل الاجتماعي إيجابياتٍ وفوائدَ، لكن أين نحن منها؟ ماذا حصّل شبابُنا من هذه الفوائد، وماذا نال من تلك الإيجابيات؟ أتركُ لكم أن تجيبوا بالجواب الذي ترتاحون إليه ويعكس اقتناعاتكم بناءً على معايشاتكم وملاحظاتكم وتسجيلاتكم الواقعية اليومية.
نسأل الله، تعالى، أن ييسّر لنا ما في هذه الثورة الإعلامية التكنولوجية الجائحة الكاسحة من خيور وحسنات وطيبات، وأن يجنّبنا ما فيها من شرور وسيئات وخبائث، آمين.
وبعد، فإنني، في هذه الأيام، بصدد الانتهاء من إخراج كتاب جديد بعنوانٍ استفهامي/إشكاليّ/جدليّ: (أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟).
وموضوع الأدب الإسلامي يقع في دائرة أوسع عنوانها (الدين والفن)، وما يزال أهل الفكر والفلسفة والأدب والفن، في كل العصور، ومن مختلف المعتقدات والمشارب والتوجهات، يتكلمون ويجتهدون ويدلون بآرائهم وما يؤديهم إليه نظرُهم في شأن علاقة الدين بالفن.
إذاً، سيظل هذا الموضوع مجالا للنقاش والجدال والاختلاف وتعدد الرأي وتباين المقالات والاجتهادات، ما دام هناك اختلاف في المعتقدات والتصورات والاقتناعات والمشارب والأذواق. أذكّر بهذه الحقيقة الوجودية التي تصبّحنا وتمسّينا، لا تفارقنا ولا نفارقها، في حياتنا، لأؤكد اليأسَ من وجود رأي أو موقف واحد، أو حقيقة متفق عليها في شأن صلة الدين بالإنسان والحياة عموما، في كل مجالاتها وما تمتاز به هذه المجالات ويتفاعل داخلها من اقتناعات ونظريات ومواقف ومناشط وسلوكات، وفي شأن صلة الدين بمجال الفنون والآداب بصفة خاصة.
لقد وصل التطرف بالحداثيّين اللادينيّين إلى حد إطلاق أحكامٍ فاضحة ظالمة لا تقوم على أي سند من علم أو نصوص أو رواية موثقة وأخبار صحيحة معتبرة، إلا الرجم بالغيب، والاتباع الإيديولوجي الأعمى، كالحكم بأن جميع كبار الشعراء في العربية كانوا ملحدين، وأن الدين لا يمكن أن يصدر منه فن بديع، وأن الشعر كان دائما معاديا للدين، وأن الإسلام والشعر ضدان لا يجتمعان، وغيرها مما أعتبره عدوانا حداثيا على الحقيقة والتاريخ والأدب والنقد، فضلا عن الجراءة على الحكم على مغيّبات القلوب، مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، سبحانه، ونسبةِ شعراء إلى الإلحاد، وشعرُهم يشهد، بالعبارة الصريحة، أنهم كانوا مسلمين، والله أعلم بما ماتوا عليه من نية واعتقاد، وبما سيكون مصيرهم يوم الحساب.
أذكّر بهذا، وأخصص الحداثيّين اللادينيّين المتطرفين بالكلام، لأن موضوع الفن والدين عموما، والأدب والإسلام خصوصا، سيظل، في اعتقادي، موضوعا للتشاكس والتضارب بين طرفين ليس بينهما إلا التناقض والتدابر والتنافر، طرف حداثي يستند إلى أطروحات حداثية متطرفة، ليس عندها إزاء الدين-والإسلام بالتحديد-إلا الرفض والاتهام والإدانة، وطرف ثان إسلامي متشدد "متزمت" يستند، في الغالب، إلى اجتهادات تغلب عليها السمة الفقهية، تحولت بفعل التوظيف (الدعوي) فأصبحت وكأنها من كليات الدين وأصوله وقطعياته، وما هي كذلك. وإذا كان "الأصل في الأشياء الإباحة"، كما تقول القاعدة الفقهية، فإن موضوع الأدب، وهو من الموضوعات المرتبطة بالتربية والتعليم والذوق والثقافة، فضلا عن الموهبة والعطاء الجبلّي، يفرض تعاطيا يمتاز بقدر كبير من المرونة وحسن الظن، ما لم يكن هناك من المخالفات والانحرافات والتجاوزات ما يستدعي الموقف الحازم الحاسم، والحكم الواضح الذي لا تشوبه شائبة من تردد أو تخاذل أو تعاطف.
فمثلا، من الحداثيّين اللادينيّين المتطرّفين ملحدون مناضلون، أي ملحدون لا يكتفون بإلحادهم لأنفسهم، بل يجتهدون ويسعون، ما وسعهم الاجتهاد والسعي، لا يَكِلّون ولا يَمَلّون، من أجل محاربة الإسلام بما يقولون ويفعلون، وبما يروّجون ويختلقون ويزوّرون، وبما يكتبون وينشرون؛ فهمّهم ألاّ يكون في الناس مسلمون إلا على مقاس "دينهم" الحداثي، وعلى هواهم، فيما يرون وفيما يعتقدون. همّهم أن يكون في الناس مسلمون بلا إسلام، بما يدعون إليه من حريات فردية لا حدود لها، وبما يدافعون عنه مما يزعمون أنه مرجعيةٌ كونية للقيم وحقوق الإنسان-وما ثَمّة مرجعيةٌ كونية، وإنما هي مرجعيةُ الحضارة القوية الغالبة المسيطرة، ولكنهم يتجاهلون.
هذا الصنف من الحداثيّين، في اعتقادي، حيثما كانوا ومهما فعلوا، لا يمكن أن يأتيَ منهم خير للناس، لأنهم، في تقديري، يمثلون-بحربهم الظالمة القذرة على الإسلام، وبما يفرضون من وصاية فِجّة ووقِحة على الضمائر والمعتقدات والأذواق والسلوكات، وبما يحملون من آراء وأفهام وتصورات-يمثلون واحدةً من أبشع المصائب التي ابتُلي بها المسلمون في العصر الحديث إلى جانب مصائب أنظمة الحكم الجبريّ الطاغوتي.
الأصل عندنا في الإسلام أن (لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي)[من الآية256 من سورة البقرة]؛ فالإنسان حر فيما يعتقده ويختاره، وهو مسؤول عن هذا الاختيار. وليس هناك مِن مُوجِب من الدين لإكراه الناس حتى يكونوا مسلمين، أو للضغط عليهم لإجبارهم، بهذه الوسيلة أو تلك، على اختيار ما يكرهون، وقبول ما يرفضون. هذا هو الأصل المتأصل في الإسلام.
أما الحداثيّون المتطرفون، فلا يرون إلا "دينَهم" الحداثيَّ "دينا" يستحق أن يعتنقه الناس ويعتقدوه. حتى اللائكية التي تفرض، في أصلها وعند أصحابها الأقحاح، فصلَ الدين عن الدولة، مع حفظ حقوق الناس واحترام حرياتهم فيما يعتقدون، وفيما يختارون، لم تسلمْ من تشويهات اللادينيّين المتطرفين، وتأويلاتهم المحرِّفة المتطرفة، التي حوّلت الأصل اللائكي(العلماني) "المتسامح" مع مختلف العقائد والأديان، إلى أصل يكرّس مذهبيةً لادينيّة عدوانية، ترى الدينَ عدوا يجب محاربتُه واستئصاله.
فالحداثيّة، في موطنها الأصلي، ما تزال متسامحة مع الدين، وإن عارضته أو اختلفت معه، فلا يعني ذلك أن تعاديَه إلى درجة السعي إلى تجفيف منابعه والعمل من أجل محو أثره في حياة الناس، كما يسعى الحداثيون اللادينيون المتطرفون عندنا، ويتمنّون، ويحلُمون، وهيهات هيهات.
ومهما جحد الجاحدون وأنكر المنكرون، فإن الدين سيظل في حياة الناس، وفي قلوبهم، وفي أخلاقهم وسلوكاتهم. هذا ثابت في إيماننا نحن المسلمين، وثابت في الدنيا بشهادة تاريخ الأمم والحضارات، وبشهادة آثار الأولين والآخرين، وبشهادة الإنسان منذ كان للإنسان وجود فوق الأرض.
الدين حقيقة في حياة الإنسان، آمن به منْ آمن، وجحد به من جحد. والأدب ما هو إلا تجلٍّ من تجليات نشاطات الإنسان في هذه الحياة، ومن ثَمّ، فطبيعيٌّ أن تكون هناك علاقة نَسَب بين الدين والأدب، إما لمضمون هذا الأدب، أو لمعتقد الأديب، أو لبلده، أو لغير هؤلاء من أسباب النسب والانتماء، على أن يكون الحكم في أدبيّة الأدب راجعا لمعايير الفن وقواعد الصنعة التي تعارفها الأدباء، وثبّتَتها عهودٌ طويلة من التجربة والمراس.
فهل يمكننا، مثلا، أن ننكر علاقة النسب بين الإسلام وشعر المدائح النبوية؟ أليست هذه المدائح، بغرضها، من الأدب الإسلامي؟ والأدب الصوفي، شعرا ونثرا، أليس هو الآخر معدودا في الأدب الإسلامي؟ أليس موضوع المناجاة والابتهالات والضراعة والتوسل في الشعر من الأدب الإسلامي؟
في هذه الأمثلة(المديح النبوي، التصوف، التوسل والمناجاة) يصعب إنكار ما للغرض والمضمون في إثبات علاقة النسب بين الأدب والدين، إلا أننا مع ثبوت هذا النسب، لا نحكم بأن هذا الأدب، لتناوله لهذه الأغراض والموضوعات، هو جيّدٌ فنيا وبديعٌ بمقاييس الإبداع الأدبي.
فإنكار النسبة بين الدين والأدب مطلقا، كما يفعل الحداثيون اللادينيون المتطرفون، هو إنكار لواقع في الحس والشعور، لأن من حق أي عمل أدبي أن يكون له انتماء وصفة ونسب يميزه من غيره من الآداب خارج نطاق مقاييس الفن والإبداع. يكون انتساب الأدب إلى الدين بما هو دين، لا بما هو معيار فني للنقد الأدبي. وقد قرأنا في مقالات نقادنا القدماء تمييزا واضحا بين الدين وبين الإبداع، ورأيناهم يحكمون للشاعر بالشاعرية والبراعة في الإبداع من غير اعتبار لمعتقده، لأنهم كانوا واعين بأن الأمرين، أي الدينَ والأدبَ، كما عبّر القاضي الجرجاني، "متباينان، والدين بمعزل عن الشعر"[الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص64].
هذا من جهة اللادينيين المتطرفين. أما من جهة أنصار الأدب الإسلامي، فرغم وعيهم بأهمية النظم والتصوير والتشكيل في العمل الأدبي، وأن الإبداع والجمال لا يكفي فيه المضمون المنبثق من "التصور الإسلامي"، كما لا يكفي أن يكون الغرضُ في مدح الإسلام وما يتعلق به من معتقدات وشرائع ومواعظ وأخلاق وغيرها من الموضوعات، فإن قضية الإبداع وصناعة الجمال ما تزال تشكل تحديا أمام الأدب الإسلامي الحديث، ليس على مستوى الكلام والتنظير والتمني-فهناك منتوج نظري كثير ومتنوع على هذا المستوى-ولكن على مستوى العمل والإنشاء. وهذا التحدي كان، وما يزال، من المداخل الواسعة التي تُسّهل على معارضي الأدب الإسلامي-من المعتدلين المقبولين في نقاشهم وحوارهم ونقدهم-مهمةَ النقد السلبي، والاتجاه في تقويمهم نحو التضعيف والتحفظ والتجريح والرفض.
ولا بد أن أذكّر هنا بحقيقة يغفل عنها كثير من الناس، وهي أن التحديَ الفنيّ الإبداعيّ لا يخص الأدبَ الإسلامي، وإنما هو تحدٍّ يعمّ الأدب الحديث كلَّه، وخاصة في صورته الحداثية المتطرفة، التي أسقطت الحدودَ بين الأجناس الأدبية، وأبعدت المضامين أن يكون لها شأن في قيمة الإبداع، بل وفرضت الغموضَ واللامعنى واللعبَ بالعبارات مطلبا مِن مطالب الأدب الحديث.
فإن كانت قضية الإبداع تشمل الأدبَ الحديث بكل مدارسه ومشاربه وتياراته، فإنها، في تقديري، قضيةٌ تظهر بشكل أعمق وأخطر في الأدب الحداثيّ، وخاصة في وجهه العبثيّ المتطرف.
الأدب الإسلاميّ، في أسوأ التقديرات، أدبٌ يعبر عن مضمون وغرض ومعنى. أما أن يكون هناك أدب-مهما كان نسبُه وصفته وانتماؤه-بلا مضمون، وبلا رسالة، وبلا معنى، وفي بعض الأحيان، بلغةٍ وعبارة تعاني من السقم والركاكة والابتذال، فذلك، في رأيي، هو "موت الأدب" بعينه. وأيهما أولى أن يُهتمّ به أولا، أدبٌ يعاني من قلة الإبداع ومن ضعفٍ في الصنعة الفنية الجمالية، أو "أدب" يُحتضر، لم يبق له من الأدب إلا الاسم، لا يني أصحابُه و"عرّابوه"-بما يجرّبون ويخرّبون، وبما يُحدثون ويُخربِقون-يقتربون به من موت محقق؟!! في اللغة: خَرْبَقَ العملَ إذا أفسَده.
إني تعمّدت أن أركز في هذه السطور على الحداثيّين اللادينيّين المتطرفين، وما يَرضَوْن عنه من أدب حداثيّ، لا يفتأ يجرّ الفنَّ وصناعةَ الجمال إلى حافة العبث واللامعقول، بل إلى حضيض اللامعنى واللاتواصل واللاهدف، إلا هدف المخالفةِ والتشويش والتأزيم والتخليط-لقد تعمدت التركيزَ على هؤلاء، لأنبه إلى خطرهم الداهم الماحق، اليوم وغدا، على النشاط الإنساني عموما، وفي مجال الآداب والفنون بوجه خاص، لأن العبث والفوضى والعنف والتطرف واللامسؤولية، في الفكر والخطاب والسلوك على السواء، لا يمكن أن تجني منها الإنسانية نفعا، ولا بناء، ولا تقدما، ولا إصلاحا. في جملة، اللادينية المتطرفة العمياء، وفي ركابها الإلحاد المناضل، ليس وراءها للبشرية إلا البوار.
نعم، الأدب الإسلامي اليوم يطرح عدة قضايا تحتاج إلى حوار ونقاش ومعالجة أدبية نقدية صريحة ومعمقة، تعتمد التصورَ الإسلاميّ في مبادئه وأصوله وكلياته، وتنأى عن أي وصاية دينية متزمتة، وعن أي اجتهاد فقهيّ "جاف" في موضوع قوامُه الفنُ والجمال والإبداع.
وقد صدرت لأنصار الأدب الإسلامي كتاباتٌ كثيرة في مختلف القضايا التي تتعلق بإسلامية الأدب. وما يزال الكتاب الإسلاميون يطرحون للنقاش، ومن زوايا متعددة، ووجهات نظر متباينة، مسائلَ جدلية، كمسألة الالتزام، ومسألة إسلامية الأديب، ومسألة المضمون والشكل، ومسألة التقريرية والتعبير المباشر، ومسألة الأخلاق. المهم أن هناك حيوية وتفاعلا ونقاشا، واختلافا محمودا، ونقدا بناء، وبحثا مستمرا. وفي اعتقادي، لا خشية مما يجرى على الطبيعة، حيّا متفاعلا متجاوبا متدافعا، وإنما الخشية كلُّ الخشيةِ من العدميّة والجحود والتقوقع والاعتصام بشواهق العبث والفوضى واللامسؤولية.
وبعد، فإني، في نهاية هذه الكلمة، أريد أن أنبّه، باختصار، إلى بعض الأمور:
الأمر الأولُ هو أنه قد يغلب على ظن كثير من الناس-وقد يكون منهم باحثون متخصصون-أن أدب الفُحش والمجون، عند القدماء-شعر أبي نواس وأمثاله مثلا-كان يعرف انتشارا واسعا بين الناس، وكانوا يقبلون عليه بغير تحفظ، ولم يكن هذا الأدبُ يجد من الدولة/السلطان، في الأغلب الأعم، إلا التسامح والصدر الرحب!
وهذا الظن الغالبُ على بعض الناس ليس صحيحا، لأن وسائل النشر والتوزيع قديما كانت تعتمد، أساسا، على النسْخ اليدوي-وهو عملٌ كان حاسما في مهنة الوِراقة-وهذه وسيلة لم تكن "شعبية"، أي لم تكن متيسرة للعموم بالشكل الذي يتصوره بعضُ الناس، لا ماديا ولا علميا، ومن ثَمّ، فإن نَسْخ دواوين الشعر الماجن الفاحش لم تكن بالكثرة التي نتوهمها، حتى نحكم بأن شعرَ أصحابها كان عليه إقبالٌ وسط الناس؛ فالنُّسَخ القليلة المعدودة التي كان يوفرها النسّاخون من هذا النوع من الأدب، كانت، في الغالب، تكون بطلب هذا أو ذاك من المهتمين الميسورين، ولهذا، يمكن أن نفهمَ أن تداولَ هذه النُّسخ القليلة كان يتم في دوائر جد ضيقة، بعيدا عن عين الرقابة العامة، وخاصة عين العلماء والفقهاء وأهل الفتوى، الذين كانوا يمثلون، بحق، الرأيَ العام، ويعبرون عن ضمير الأمة الإسلامية.
إذاً، النشر والتوزيع، أي النَّسْخُ والتداولُ، كان محصورا في نخب من المثقفين وأهل المال والسلطان، وهي نخب، مهما بلغت سلطتُها من القوة، لم تكن قطعا تمثل الجماهيرَ المسلمة، حتى نحكم بأن نشر أدبِ الفحش والخلاعة وتوزيعَه، قديما، كان شعبيا. وعلى هذا، يمكننا أن نرجّح-إن لم نجزمْ-أن تداول الأدب الفاحش كان نخبويا، وكان مستهلكوه، في غالبيتهم، من الطبقات الميسورة وممن كان يدور في فلك هذه الطبقات من أهل الفكر والأدب والفن.
الأمر الثاني هو أن الأدب، بطبيعته، عمل منبثق، أساسا، من العاطفة والوجدان، ومما يكون قد ترسّخ في هذا الوجدان من اقتناعات، وفي تلك العاطفة من مشاعر. وعملٌ بهذه الصفة لا يجدي معه القمعُ والمنع والوصاية والإكراه إن كان، لسبب من الأسباب، عملا مكروها وغيرَ مرضيٍّ عنه.
فالأدب، بما هو إبداع، أي بما هو موهبة وحاجة نفسانية داخلية لا تفتأ تسعى للإشباع والتحقق-الأدبُ بهذه الصفة الجوهرية، قوة متفجرة دافعة، كالسيل العَرِم، لا يمكن حبسها ومنعها من الخروج والظهور، مهما تكن الموانع. فالشاعر شاعر، يعبر عن عواطفه ومشاعره وبواطن نفسه، سواء أكان على دين وخُلُق أم لم يكن، وسواء أكانت هناك قوامع وموانع وزواجر أم لم تكن. وتقويمُ عمله إنما يكون بمقدار حظه من الإبداع والعطاء الفني الجميل. وهذا المقدارُ يختلف الناس في وزنه ومعرفة قدره، تبعا لاختلاف تذوقهم، وتباين تصوراتهم ومعتقداتهم وثقافتهم، وتفاوت طبقاتهم ومستوياتهم فيما يتعلق بعلمهم وآلاتهم النقدية.
نعم، هناك القانونُ الذي يوجد في كل مجتمع بشري متحضر فوق الأرض، والذي يحمي حقوقَ الناس المادية والمعنوية، ويحفظُ مقدساتهم أن تُنتهك وتُدنّس، ويرعى الأخلاقَ العامة أن تستباح. فإن كان هناك تعدّ على المقدسات والحرمات والحريات والحقوق، باسم الفن والأدب، فإن العدالة مطلب ضروري-في حدود القانون دائما-أولا، لإنصاف المظلومين، إن ثبت أن هناك ظلما، ومعاقبة الظالمين، إن ثبت أنهم ظالمون، وثانيا، لتثبيت شرعية القانون وهيبته وسلطانه، لأن قانونا لا يُطبق، ولا يُعبأ به، وجودُه وعدُمه سواء، وثالثا، ليعرف الناس أن الفنانَ، مهما علا قدره وذاعت شهرته وقوي نفوذه، لن يكون فوق القانون وأكبرَ من المتابعة والمحاسبة، حسب نصوص القانون، ووفق مبادئ العدالة والإنصاف.
الأمر الثالث يتعلق بالتصرف الذي يكون من الناس تجاه العمل الإبداعي، هل يقبلونه أم يرفضونه؟ هل يطربون له أم يعرضون عنه؟ هل يُقبلون عليه بالثناء والنشر، أم يسكتون عنه ويدفعون به إلى زوايا الإهمال والنسيان؟ هل يقرأونه وينقُدونه فنيا، ويبيّنون ما فيه من جوانب إيجابية، وما فيه من جوانب سلبية، أم ينكرونه بالكليّة وكأنه غير موجود؟ وهل هناك من مقاييسَ موحدة ومعاييرَ متفق عليها في التعامل مع الإبداع؟ وأين يقع الدين والأخلاق وقوانينُ المجتمع وأعرافُه من كل هذا؟
ثم هنا مسألة لها تعلق بالأمور السابقة وهي مسألة التربية؛ فالشخص/المجتمع الذي تربّى على الإسلام وأخلاقه وآدابه حتى أصبح يجري من فكره ووعيه وذوقه مجرى الدم، لا يمكن أن يُعير أيَّ اهتمام لما يراه من الأعمال الإبداعية ساقطا وبذيئا وضعيفا، وإن زكّاه النقاد ورفعوه وقدّروه ومدحوه. لكن أيُّ نقاد؟ وبأي مقاييس؟ وعلى أي أساس؟
وأخيرا، هناك الإعلام، وخاصة في وجهه الإلكتروني الجبار، بكل أنواعه وأشكاله ومستوياته ودرجاته؛ فهذا الإعلام الرقمي الحديث، المرئي والمسموع والمقروء، آخذ في التوسع والانتشار والتمكن بسرعة مذهلة، وذلك على حساب الوسائل التقليدية، في التربية والتعليم ونقل المعارف واكتساب المهارات ونشر الأخبار والمعلومات. هذا الإعلام "الوحش" بات اليوم قادرا أن يدخل إلى جميع البيوت، وأن يصل إلى كل الآفاق. ومن ثَمَّ، فإن التربية هي الكفيلة بتزويد المرء بالأدوات الفعّالة القادرة على وزن الأعمال وتقديرها والحكم عليها. التربية الفردية والجماعية هي القادرة على نشر هذا الإبداع، وطيّ ذاك. هي القادرة أن تفرض مقاييس للإبداع الرفيع، والعمل الفني الجميل، وتفضحَ ما سواه مما هو انتحال وادعاء وتزوير وعبث وسخف.
(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.