الأحد، 9 نوفمبر 2014

"شعراء" آخر الزمان



بسم الله الرحمن الرحيم

"شعراء" آخر الزمان


(1)
من مظاهر انحطاط الأدب في هذا الزمان، وفي الشعر بصفة خاصة، أن بعض الناس يُمسي إنسانا عاديا، فيُصبح "شاعرا"، ينشر له الناشرون، وينوّه به الناقدون، ويتحدث عنه الصحافيون!!
هكذا، وبلا مقدمات، ولا مقومات، ولا معرفة بالقواعد الضرورية، ولا امتلاك للمعارف والأدوات اللازمة، يحلمُ أحدُهم أنه أصبح شاعرا-قلت: يَحْلُمُ، أيْ يرى في المنام- وعندما يستفيق من نومه، يعتقد أنه أصبح شاعرا بالفعل، فيمسك بقلمه، ويُبَسْمِل، ثُمّ يُخرْبش خربَشات على الورق، أيِّ ورق، وإن كان من نوع (كلينيكس)، بتشتيت كلمات على أسطر بطريقة عبثية، قد لا يجمعها معنى محسوس ولا تصوير معقول، وبلغة قد تَرِكّ إلى درجة من السخف لا يُطاق، فإذا "الدفقةُ الشعرية" قد تشكّلت، و"الإبداعُ" قد تَمّ، و"القصيدةُ" قد اكتملت. وقد تسمع، عن هذا الحالم المنتحل المُخَرْبِش، بعد أسابيع أو أشهر، أنه أصدر ديوانَه الأول، ثم بعد أسابيع أو أشهر أخرى، ديوانه الثاني، وهكذا، حتى تقرأ عنه، غدا أو بعد غد، أنه من كبار "الشعراء"!!
هذه الصورة الكاريكاتورية الساخرة تبين حقيقة ما بات عليه الإبداع الشعري في زماننا، حيث تسلط على الميدان مدعون حالمون منتحلون، ومنهم نصّابون محترفون، فبات بإمكان كلِّ من هب ودب أن يقول "الشعر"، ما دام الأمر لا يحتاج إلى معرفة، ولا يتطلب آلات، ولا يقتضي التزاما بقواعد وحدود ومعايير.
لقد بشّرت نابتةُ الحداثيِّين، منذ النصف الأول من القرن الماضي، بـ"شعر" لا يُحوج إلى أصل ولا إلى نسب ولا سلف، ولا يقتضي موهبة ولا دربة ولا مهارة، ولا يفرض احترام القواعد المقرّرَة في التعبير والبيان، ولا يشترط التقيُّدَ بقيود الصناعة وخصائصها ومتطلباتها. وها هي ذي البشرى اليوم تؤتي أكلها المرّ، بجائحات تجتاح المواهب والقرائح والأذواق، وبجدب يصيب الأمة العربية في علمها الأول، وهو الشعر، الذي لم يكن لها، في جاهليتها، علمٌ أصحّ منه، كما جاء في طبقات ابن سلام الجمحي.
وقد يسألني سائل أن آتيَ هنا ببعض الأمثلة من هذا الكلام الذي يسمونه "شعرا حديثا". وجوابي أن معظم ما يُنشر اليوم باسم الشعر الحديث هو من هذا الطراز، أمّا الاستثناءات فهي من القلة، بحيث لا تكاد تراها في هذا الخضمّ الهائج المائج من الإسفاف والرداءة والإنشاء الصبيانيّ.
لقد قوّض الحداثيّون المتطرفون صرحَ القريض، ومَسخوا السليقةَ العربية بما أحدثوا فيها من تشويهات وتحريفات، حتى بات حِمى الشعر مستباحا لمَنْ لا شغل له، ولكلِّ فاشل يبحث عن شيء يُخفي به فشله. وفي ركابِ هذا التقويض والمسخ والتزوير، نشط "نقاد آخر الزمان"، بين مُقرِّظ للتفاهة، ومنوِّه بالغثاثة، ورافعٍ للرداءة إلى قمة الإبداع.
لقد تمّ الانحرافُ عن الأصل السليقي، وإلغاءُ قواعد الصناعة وأدواتها وسائر مستلزماتها الأساسية المعرفية والفنية. وما هي إلا عقود معدوداتٌ حتى تحول هذا الانحرافُ، بفعلِ إيديولوجيا الهدم والمسخ والعبث، وبفعل وسائل الإعلام والطبع والنشر الهائلة، إلى أصل مؤصَّل، له شرعيّتُه التي لا تُدفع، وله منابرُه وأعلامه وإنتاجه الذي غزا الأذواق والأفكار، حتى غدا جزءا من الغزو الثقافي والأدبي والفني، الذي عمّ أمتنا العربية الإسلامية، وفي قلبها ناشئةُ الشباب، في المدارس والجامعات.
وفي الدراسة العميقة والشاملة للباحثة البريطانية (فرنسيس ستونور ساندرز)، التي نشرتها، سنة 1999، بعنوان (من يؤدي أجر الزّمّار؟ (سي.أي.يي) والحرب الثقافية الباردة) (Who Paid the piper? CIA and the Cultural Cold word)-
في هذه الدراسة الأكاديمية المتميزة فضحٌ، بالأسماء والأرقام والتواريخ، لسياسات الغزو الثقافي والأدبي والفني، التي كانت تتبعها الولايات المتحدة، معتمدة أساسا على ذراعها الاستخباراتي، المشهور اختصارا بـ(CIA). وفي هذه الدراسة، يظهر أن موجة الحداثية التي اجتاحت أمتنا منذ نهاية النصف الأول من القرن الماضي، وخاصة في مضمار الفنون والآداب، إنما كانت موجة مصنوعة وموجهة، تكمن وراءها أيدي خفية تدير خطة مدبرة، هدفها إخضاع الأمم والأفكار والمشاعر والأذواق.

(2)
كلامٌ مبتدَع سخيفٌ يسوِّقُه منشِئوه وشركاؤهم في المسخ والتزوير والتخريب الحداثي على أنه إبداعٌ شعري حديث، لكنه "شعر" بغير قراء، إلا من ألجأته الضرورةُ أو كان مُكرَها وقلبُه كاره، وصدرُه ضائق، وذوقه عائف.
مَن يقرأ اليوم لهؤلاء "الشعراء" المنتحِلين المزورين؟
كم يبلغ عدد مبيعات ما يسمى بـ"دواوين"
هؤلاء العابثين؟
وهل استطاعوا أن يفرضوا بدعتهم على الذائقة العربية؟
وهل تجد من الناشئة من يحفظ شيئا من "دواوينهم"؟
وهل تجد لهم ذكرا خارج مختبرات الفحص والدرس والتقويم؟
وهل هم موجودون إلا بالمناسبات والأمسيات والحفلات-على طريقةِ مهرجانات التخدير-التي يتم إخراجها على صورة تسلط الأضواء على المجاهيل، وتُجمّل وجه المقبوحين، وتسعى بكل جهد لتركز في العقول والقلوب والأذواق أن "الشعر الحداثي" قضاء وقدر، وما علينا إلا أن نقبل به، راضين أو كارهين، وإن كنا نجد صعوبات جمةً في هضمه والاقتناع برؤاه ومقولاته واستشرافاته، وأطروحاتِ زعمائه ورعاته والذائدين عن حماه؟
في جملة، لقد جمعت هذه "البدعة" الحداثية التي يسمونها "شعرا حديثا" كلَّ الصفات والخصائص والأسباب، التي تجعلها بدعة منفرة، وعملا لا يمكن أن يقبل عليه أحد، إلا من كان مِن العصابة، أو تدفعه إلى التعاطف معها مصلحةٌ من المصالح، العاجلة أو الآجلة. وأذكر أن وصف "البدعة" ليس من عندي، وإنما اقتبسته من نازك الملائكة، التي استعملته لإنكار التجاوزات والتحريفات والرداءات التي تردّت فيها صناعةُ الشعر باسم "قصيدة النثر"، أو "النثيرة"، أو "الشعر المنثور"، أو غيرها من الأسماء التي صنعها النقد الحداثي، وروج لها نقادُ آخر الزمان على أوسع نطاق.
"أنقذونا مِن هذا الشعر"، زفرةٌ لم يطق أن يحبسها في صدره طويلا واحدٌ من أبناء البيت الحداثي اللاديني، ورأسٌ من رؤوس الشعر الحداثي، وهو محمود درويش. زفرةٌ تمثل شهادةَ (شاهد من أهلها) على الحضيض الذي وصل إليه الشعر في ثمانينيات القرن الماضي.
أما اليوم، بعد أن عمّ البلاء وطَمّ، فيمكن أن نقول، بلا أدنى تردد، إن السيلَ قد تجاوز الزبى، بعد أن أصبح الميدان نهبا لكل بطّال لا يجد عملا مفيدا يشتغل به.
"شعر"-زعموا أنه حديث- لا يحمل أي رسالة، ولا له غرض مضموني محدد، وإنما هو لغو من الكلام يتبعه لغو، يقرؤه اللاغون من نقاد آخر الزمان-وهم أعضاء في العصابة الحداثية- ويحللونه ويقدمونه على أنه "شعر" بديع، يتميز بكذا وكذا من الصفات، ويرمي إلى كذا وكذا من المعاني والغايات، إلى آخر ما نقرؤه من لغو وعبث في "نقد" نقاد آخر الزمان، ليس لهم في ذلك من مستند ولا أصل ولا معيار إلا أنفسهم وأهواؤهم وما يحفظونه من آراء أساتذتهم في التزوير والتشويه والتخريب.
"شعر"-زعموا أنه حداثي- خال من أي تشكيل فني بديع، يفتقر إلى مقومات التصوير الشعري الجميل. وإنما هي مفردات مضمومة إلى مفردات، في تشكيل عبثي، ونظام لا يقوم على أي أساس إلا هوى النفس وطيشها ونزقها وادعاءها وتطاولها وتجرؤها.
"شعر"-زعموا أنه إبداع- متحلِّل من كل قواعد الصناعة وضوابطها ولوازمها، وفي مقدمة هذه اللوازم، التي لا يكون الشعر شعرا إلا بتوافرها، الوزنُ. فقد ردد نقاد آخر الزمان ما حفظوه من انحرافات معلميهم على أنه "الحقائق" التي ما بعدها حقائق، وقالوا إن الوزن ليس من لوازم الإبداع الشعري العربي، وطعنوا في تراث عمره أكثر من أربعة عشر قرنا، ورفضوه، وشككوا في أصوله ورسوخ أساسه ومصداقيته التي ما تزال تزكيها وتثبتها وتؤكدها قرون طويلة من الممارسة الشعرية العالية، ودواوين ما لا يحصى من الشعراء، بمختلف مستوياتهم.
وهل يبقى لنا من شعر بعد سقوط أعمدته الثلاثة: الرسالة والغرض، والتصوير والبيان، والوزن والتطريب والتنغيم؟
وهل يبقى لنا، بعد إلغاء هذه الأعمدة، شيءٌ سوى الخواء والجدب والبوار؟
هل يكون شعرٌ بلا وزن، ولا مضمون، ولا تصوير، إلا عند الأدعياء من عصابة "القرد الفنان ونقاد آخر الزمان"؟
هل يكون شعرٌ بلا قراء؟
هل يكون شعرٌ لا يُبلِّغ شيئا، ولا يحرك شيئا، ولا يساوي شيئا؟
أين هي في هذا "الشعر" الدعيّ الشواردُ من التشبيهات والاستعارات والكنايات؟
أين هي في هذا "الشعر" المزور السوائرُ من الحكم والأمثال؟
أين هي في هذا "الشعر" اللقيطِ النوادرُ من الصور والمجازات والتخييلات؟
أين هي في هذا "الشعر" المنبوذ لذاذاتُ الأوزان السائغة، والأنغام الساحرة، والألحان الفاتنة، والأجراس الجاذبة المطربة؟
أين هي في هذا "الشعر" المسخ الروائعُ من التعبيرات الشفيفة، والمفردات العذبة، والأسلوب السهل الممتنع الآسر؟
أين هو الشعرُ في هذا المخلوق المشوه، الذي يسمونه شعرا حداثيا؟
لقد بات هذا "الشعر الحداثي" المبتدَع اليوم بلا قراء، بل بات "أصلا تجاريا" مسجَّلا لمصلحة عصابات تحتكر فينا الحديث باسم الثقافة والفن والإبداع، لا تنتج إلا الرداءة والغثاثة والإسفاف.
وبعد، فما أسهلَ أن تُخضع أمةً بعد أن يتمّ لك إفسادُ ذوقها، وتمييع أخلاقها، وتشويه مشاعرها، وتزوير وعواطفها، وإضعاف لغتها، تفكيرا وتعبيرا وإبداعا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الاثنين، 21 يوليو 2014

(إنّما الأعمالُ بالنيات)



بسم الله الرحمن الرحيم



(إنّما الأعمالُ بالنيات)





(1)

لقد مرت مسيرةُ يوم الأحد 20 يوليوز للتضامن مع غزة الواقعة تحت نيران العدو الهمجي، وإدانةِ الوحشية الصهيونية، ومعها المجتمعُ الدولي المنحاز للعدوان، والأنظمةُ العربية الضعيفةُ والمتواطئة والمتخاذلة.

لقد مرت المسيرةُ، ورجع المشاركون، كلٌّ بحسب نيته. فمن كانت مشاركتُه، بحق، هي للتضامن مع غزّة وإدانة العدوان الصيهوني، فقد نال الأجر والثواب، الذي يناله المواطِن المحاصر المقموع الضعيفُ العاجز عن نصرة إخوانه إلا بالخروج للشارع، ورفع الصوت عاليا حتى يعرفَ العالمُ أن ما يجري في غزّة اليوم هو مذابح وإبادةٌ وقتل وحشي يشهد على أن العدو الصهيوني بات فاقدا لأبسط صفات الإنسانية.

ومَن كانت مشاركتُه من أجل أن يراه الناس، وتصوِّرَه الكاميرات، ويتحدث عنه الإعلامُ بأنه حضر وسار وتكلم، أو مِن أجل التمويه وخلط الأوراق وذرّ الرماد في العيون، للتغطية على موقف الدولة المخزنية المبدئي الاستراتيجي التابع لأمريكا وأوروبا، والدائر في فلك أغنياءِ إمارات الخليج، والمؤيد لنظام الإنقلابيِّين الدمويِّين في مصر، الذي يقف مع العدوان الصهيوني بتشديد الحصار على الفلسطينيِّين، وإغلاق معبر رفع، الذي يُعدُّ الرئةَ الوحيدة التي يتنفس منها أهل غزة، والنافذةَ الأساسية التي يتواصلون منها مع العالم الخارجي-

مَن كانت مشاركته من أجل التمويه وخلط الأوراق وتبييض الموقف المخزني المساند، مبدئيا واستراتيجيا، لسياسات أمريكا في المنطقة، ومِن هذه السياسات ضمانُ أمن العدو الصهيوني المغتصب، وحماية حرية الملاحة وتدفق النفط العربي عبر قناة السويس-مَن كانت مشاركتُه لمثل هذه الأهداف، فإن جزاءَه سيكون وفاقا لمَا نوَى، وما قصد، و(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)، سبحانه، (يعلمُ خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور).



(2)

إن الاعتداء الهمجيَّ على غزّة هو عديلُ الانقلاب الدموي على الشرعية في مصر. وإن مَن أيَّد الانقلابَ وما ارتكبه مِن مذابح-لقد قارب عدد الشهداء في هذه المذابح ثلاثة آلاف شهيد، فضلا عن آلاف الجرحى، وعشرات الآلاف من المعتقلين- لا يمكن أن يكون صادقا في تضامنه مع غزة، وإنما هو تضامنٌ "تاكتيكي" تمويهي، لامتصاص غضب الشارع المشتعِل، وكسب بعض النقط في الرصيد السياسي الذي يعاني مِن الهزال، والتشويش على مواقف المعارضين للدولة المخزنية.

النظام الانقلابي في مصر اليوم، يُعدُّ، كما كان سلفُه على عهد مبارك، بشهادة العدو الصهيوني نفسه، "كنزا استراتيجيا" للعدو المغتصب. وما كان للإنقلابيِّين أن يرتكبوا ما ارتكبوا في حقّ الشرعية الديمقراطية، التي كان يمثلها الرئيسُ محمد مرسي، مِن تلقاء أنفسهم، وبإرادة مستقلة، وإنما كان انقلابُهم ومذابحهم في حق الشعب المصري بمباركة مِن أمريكا وأروربا، ومعهما العدوُّ الصهيوني، علاوةً على الأنظمة الاستبدادية العربية.

إذن، الانقلابيون الحاكمون في مصر، ودولةُ الاغتصاب الصهيوني، وأمريكا وأوربا، والأنظمةُ العربية الاستبدادية، وفي مقدمتها إماراتُ الخليج النفطية- هؤلاء جميعا يشكلون تحالفا طبيعيا، ولا يمكن، بمنظار التحليل السياسي العميق، فصلُ ما يجري مِن عدوان على غزّة عما جرى ويجري في مصر على يد الانقلابيِّين الدمويِّين.

فلننظْرْ، مثلا، إلى ما سُمِّي بالمبادرة المصرية للتهدئة، والتي ما يزال الانقلابيون يصرون عليها، يؤيدهم، طبعا، الصهاينةُ والأمريكيون والأوربيون والدول العربية الاستبدادية؛

فقد أصبح من المعروف أن هذه المبادرة وضعها الانقلابيون في مصر بتشاور من العدو الصهيوني المعتدي، فضلا عن رئيس السلطة (أبو مازن)، الذي لا يملك إلا أن ينصاع لمصر، ومِن ورائها الإرادةُ الأمريكية الصهيونية، وحاولوا فرضَها فرضا على المقاومين الصامدين في الميدان، يواجهون همجيةَ أعتى آلةٍ عسكرية في المنطقة. وكأن الطريقةَ التي وُضعت بها هذه المبادرة، وفُرِضَت، كان القصدُ منها أن يرفضَها المقاومون في غزة، حتى يشكلَّ هذا الرفضُ غطاء سياسيا دوليا، ليستمرَّ العدو المعتدي في عدوانه، يقتلُ، ويحرق، ويهدم، ويخرب، لعله يحققُ أهدافَه بإخضاع المقاومين، وتدمير قواعدهم، وضرب معاقلهم، والتخلص من أسلحتهم.

لقد صُنِعَت المبادرةُ المصرية المتحيزة المتواطئة مع العدوان الصهيوني، بطريقة مراوغة ماكرة، لتعطيَ لهذا العدو ومَن يساندونه، علانيةً أو سرا، المبررَ الكافيَ لتظل آلتُه العسكرية العاتية الجبانةُ على ما هي عليه من همجيّة ودموية سيسجلها التاريخ عارا على هذا المجتمع الدولي المتواطئِ بسكوته، المشاركِ في الجريمة بتردده وتسويفه، الوالغِ في دماء الشرفاء الأحرار الأبرياء المظلومين بجبنه ونفاقه.

وكان مجلسُ جامعة الدول العربية-هذا الكيان المهترئ، العاجز منذ كان، الذي بات يتحكم فيه حكامُ الأنظمة العربية المستبدة، يتقدمهم أمراءُ الدول النفطية السفيهة المترفة- قلت كان اجتماعُ هذا المجلس العاجز الفاشل، على مستوى وزراء الخارجية، يوم 7 يوليوز2014، أي بعد سبعة أيام من بداية العدوان الغاشم على غزة-لاحظوا هذا التأخر في الاجتماع؛ بعد سبعة أيام!!- قد انتهى بقرار يتضمن اثنتين وعشرين نقطة، تدور كلُّها تقريبا حول الشجب، واستجداءِ تدخل المجتمع الدولي، وتسول الصدقات والالتفاتات لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وحول  مساعدات مالية لإعمار القطاع، تمَّ إقرارُها منذ سنوات، لكن لم يتم الوفاءُ بها، وحول ما يجب على الدول الأعضاء لمناصرة القضية الفلسطينية، والوقوف بجانب الحق الفلسطيني في مواجهة المعتدي الظالم، إلى غير ذلك مما معروف ومعهود في بيانات الشجب والكلام والتضامن التي تصدرها هذه الجامعة، والتي تبقى، في نقطها الجوهرية، حبرا على ورق.

قلت تضمن هذا القرارُ، على شاكلة القرارات السابقة، كلاما طويلا وعريضا عن إدانة العدوان والتعبير عن التضامن والوقوف مع الشعب الفلسطيني المظلوم، وهو كلام، كما قلت، يبقى كلاما، وخاصة في النقط التي تتطلب جرأة سياسية، وقرارات جماعية مستقلة ومسؤولة، ومواقف عملية محسوسة وحازمة. لكن مَربِط الفرس في هذا القرار هو النقطة المتعلقة بالمبادرة المصرية، التي جاء قرارُ المجلس المجتمع ليدعمَها، ويطالبَ "كافة الأطراف المعنية بإعلان قبولها للمبادرة والتزامها بما نصت عليه"، ويدعوَ "الأطراف الإقليمية والدولية إلى قبولها وتهيئة المناخ اللازم لاستدامة التهدئة". والفقراتُ بين قوسين مقتبسة من نص قرار مجلس جامعة الدول العربية.

وتضمن القرارُ أيضا نقطة تخصّ "شكر جمهورية مصر العربية على جهودها المبذولة لوقف العدوان الإسرائيلي، وتحقيق التهدئة، وتحركها لمواجهة الكارثة الإنسانية التي تواجه المدنيِّين في قطاع غزة، وتثمين قرارها فتحَ معبر رفح لاستقبال الجرحى، وتقديم العلاج اللازم لهم، وتوجيه الشكر للمملكة الأردنية الهاشمية لجهودها الرامية إلى وقف العدوان الإسرائيلي، وتحقيق التهدئة، وخصوصاً من خلال عضويتها الحالية في مجلس الأمن، وكذلك توجيه الشكر لكافة الدول العربية التي تقدم المساعدة للشعب الفلسطيني في محنته، والتأكيد على ضرورة استمرار هذه الجهود، وتقديم مساعدات إنسانية وطبية عاجلة وعلاج جرحى هذا العدوان".

كلامٌ في كلام، وبعضُه كذبٌ وبهتان.

الشكر لدولتين تحاصران أشقاءهما الفلسطينيِّين، بخضوعهما لمعاهدتَين وقّعهما نظامان مستبدان مع العدو الصهيوني المغتصِب، وتَمَّ فرضُهما على الشعبين المصري والأردني بالحديد والنار. وما يزال الفلسطينيون المظلومون، وفي قلبهم المقاومةُ الثابتة الصامدة المُشَرِّفة، يعانون الويلات مما جرَّت عليهم هاتان المعاهدتان. ثُم كانت اتفاقيةُ أوسلو المشؤومة سنة 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني، والتي تولَّد عنها ما يُسمَّى اليوم بالسلطة الفلسطينة، التي تحولت على عهد رئيسها محمود عباس إلى  أداة إضافية مِن أدوات قمع المقاومة ومحاصرتِها، بل وتجريمها وإدانتها. ولهذا، ليس غريبا أن يكون الرئيس محمود عباس عنصرا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه في مناورات الكبار مِن أجل إخضاع الفلسطينيِّين، ونزعِ أسلحة المقاومة، وفرضِ سلام بالشروط التي تضعها الدولةُ الصهيونية المغتصبة الباغية.

لقد حاولوا أن يُبعدوا المقاومة عن صياغة مبادرتهم المخادعة المزعومة، حتى يحملوها(أي المقاومة) مسؤوليةَ المجازر التي يرتكبها الصهاينة، وحتى يُعطوا للعدو-شاؤا أمْ أبوا- مسوّغا سياسيا مريحا ليعيث في الشعب الفلسطيني ذبحا وتدميرا وتخريبا.



(3)

هناك عنصرٌ آخر يجعل الانقلابيِّين في مصر والصهاينة المغتصبين في فلسطين مشترِكَيْن في جرائم المذابح التي تقع اليوم في غزة، وهذا العنصرُ هو كراهيتُهما للإسلاميِّين، ومحاربتُها لهم تحت غطاء دولي فضفاض هو "محاربة الإرهاب".

فحركةُ حماس حركةٌ إرهابية عند الصهاينة المجرمين والانقلابيِّين الدمويِّين، ومِن ثَمَّ فمحاربتُها والسعيُ لاستئصالها وإبادتِها عملٌ "مشروع" لا يمكن إلا أن يحظى بالقبول لدى "المجتمع الدولي" المنافق الظالم المتحيز.

وعلى الرغم مِن أن جبهة المقاومة في فلسطين تضم فصائل متعددة مِن مشارب مختلفة وإديولوجيات متباينة، فإن التركيز دائما على حماس، لماذا؟ لأنها تمثل رأس المقاومة وعنوانَها وروحَها. فجميع الفصائل المقاومة روحُها إسلاميةٌ، بغض النظر عما بينها من اختلافات، فكريا وإيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا. إنها إذن مقاومةٌ إسلامية يجب في حقها الذبحُ والحرق والاستئصالُ باسم "مكافحة الإرهاب"، حتى يتخلصوا مِن الرمز الذي ما تزال تمثلُه، والروحِ الذي ما تزال تبثُّه في الشعب الفلسطيني، وخاصة في الأجيال الشابة الناشئة.

إن المجازرَ التي تنفذها الآلة العسكرية الصهيونية الإجرامية في غزّة اليوم هي، في جوهرها، وجهٌ مِن أوجه الحرب المعلنة على الإسلاميِّين في العالم، وفي العالم العربي الإسلامي بصفة خاصة. فالإسلام، عند الصهاينة، يعني المقاومةَ، والصمودَ، والاستشهاد. إن الإسلام كان دائما وراء الحركات الجهادية في فلسطين، وفي غير فلسطين مِن بلادنا العربية الإسلامية. إنه الروحُ الذي به تظل المقاومةُ حية نشيطة قوية متجددةً لا يعرف الضعفُ والخمول والبلى إليها سبيلا. إنه الوقود الذي به تظل شرارةُ الغضب والثورة والمقاومة مشتعلةً لا تنطفئ ولا تخبو.

جميعُ فصائل المقاومة في فلسطين، وإن لم تكن محسوبة على الإسلاميين، تستلهم روحَ الإسلام وقيَّمَه في المواجهة والثبات والإقدام والاستشهاد. ولهذا، كان رأس الإسلاميِّين مطلوبا عند الصهاينة، كما هو مطلوب عند الانقلابيِّين في مصر، وكما هو مطلوب عند أنظمة حكامنا المستبدين.

(ويمكرون ويمكر اللهُ، والله خيرُ الماكرين).

 (ومَنْ يتولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن حزبَ الله همُ الغالبون).

(ألاَ إن حزبَ الله همُ المفلحون).

(ألا إن نصر الله قريب).

وبعد، فقد انتهتْ مسيرةُ يوم الأحد(20 يوليوز)، بالرباط، ورجع الناسُ إلى بيوتهم، بعد أن نال كلُّ واحد مِنْ مشاركته بحسب نيته المُضمَرة، وأهدافه المقصودة. وفي الحديث الصحيح المشهور: (إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى. فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرُته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرتُه لدُنْيا يُصيبُها أو امرأة يتزوجها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



الجمعة، 18 يوليو 2014

مولدُ الطوفان



بسم الله الرحمن الرحيم



مولدُ الطوفان


نظمتُ هذه الأبيات في أثناء العدوان الصهيوني الهمجي الغاشم على غزة في نهاية سنة2008. وأرى أن مناسبة هذه الأبيات ما تزال قائمة باستمرار العدوان والحصار والتآمر والإجرام اللاإنساني المنظم ضد شعبنا الفلسطيني عامة، وإخوتنا في غزة بصفة خاصة. اللهم نصرك الذي وعدت عبادك المؤمنين المجاهدين الصابرين. اللهم إنا مغلوبون فانتصر، آمين.





جُرمٌ بغزّة خارقُ الأعيـــــــــــــــان  //  وضحيةٌ قد سُوّيت بالجانــــــــــــــــي

هو عَالمٌ، هو غابةٌ همجيّــــــــــــــة  //  الظلم فيها وارف الأغصـــــــــــــــان

دَمُنا يسيل "على الهواء"[1] نُحسّــــــه  //  متفرجين على مدى العــــــــــــــدوان

ينعَى على القربى قساوةَ قلبهـــــــــم  //  ظلمُ القريب أشد في الوجـــــــــــــدان

يشكو، ولاَ أُذْ ُنٌ تبلّغ شكْـــــــــــــوَه  //  يشكو إلى الأحباب والجيـــــــــــــران

أشلاءُ إخوتنا تُعرّي عجزَنــــــــــــا  //  وسكوتُنا يفضي إلى الخِــــــــــــــذلان

في قمّة[2] الجبناء قمةُ دائنـــــــــــــــا  //  وخواؤها يُقرَاْ من العنـــــــــــــــــوان

سلبَ اليهودُ حقوقنا، وتوحـــــــــدّوا  //  وتخاصم "الأعراب"كالصبيـــــــــان

بل ساوموا، وتصالحوا، وتواطــؤوا  //  حتى استقرتْ دولةُ الشيطـــــــــــــــان

ضاعت فِلَسْطينُ الحبيبة بعدمــــــــا  //  تركوا الجهاد لصَفْقة الخُســـــــــــران

جيش العدو بأرضنا مستأســـــــــــد  //  وجيوشنا في قبضة الغلمـــــــــــــــان

باعُوا القضية في مَواكبِ ذلِّــــــــــة  //  لم يحصدوا منها سوى الكُفــــــــــران

كَفرَ اليهودُ بكل عَقد مُلــــــــــــــزم  //  وسعى الذليلُ لمجلسٍ "عِبْرانِـــــــــي"[3]

تركوا الضحية للعدو غنيمـــــــــــة  //  وتنافسوا في الإثم والعصيــــــــــــــان

وعقيدةُ التوحيد أنْهوا أمرَهـــــــــــا  //  وتوجّهوا لعبادة الأوثـــــــــــــــــــــان

هذا يُشرّق، والغريمُ مُغـــــــــــرّبٌ  //  وعدوّنا يندسّ في الأوطـــــــــــــــــان

بل كلهُمْ متأمركٌ متصهيـــــــــــــن  //  يتهافتون على الحطام الفانــــــــــــــي

هجروا السلاحَ وأخلدوا لعروشهـم  //  وتفرغ السلطانُ للسلطــــــــــــــــــــان

وتفرّغ السلطانُ يقمع شعبـــــــــــه  //  ويرضّع التسليمَ في الألبـــــــــــــــــان

ويجرّم التشكيك في جَبروتــــــــــه  //  ويُحفّظ "التطبيعَ" كالقـــــــــــــــــرآن

ويحرّمُ الأقوال والأفعــــــــــــــالَ تدعو المسلمين لنُصرة الإخـــــــــــــــــوان

ويكمّم الأفواه خشية كِلْمـــــــــــــة  //  قد تُنهض المقموع كالبركـــــــــــــــان

ويحاصر الأحْلامَ في قنواتـــــــــه  //  ويقيّد الأحرار في القضبـــــــــــــــــان

ويعلم الإخذاء للفتيـــــــــــــــــــان  //  ويلقّن الإحجامَ للشجعـــــــــــــــــــــان

غلب الهوانُ على الرعية ساقهـــا  //  جبْرُ القرون لوهدة الإذعـــــــــــــــــان

إنّا بسِجن قد ترسّخ رُكنُـــــــــــــه  //  إنا مع الأحياء في الأكفـــــــــــــــــــان

ونظامُنا السجّان يُعمل سوطَــــــه  //  لا يستَحي، في السرّ والإعـــــــــــــلان

دمُنا ثمينٌ، والعدو يبيحـــــــــــــه  //   قد حَق ردُّ الفعل بالأسنـــــــــــــــــــان

وبشاعةُ الإجرام يصعب وصفهـا  //   وقذائفُ الأعداء بالأطنــــــــــــــــــــان

ودماؤنا رخُصت، ولم يرَ حاكـــمٌ  //  شلاّلها في غزّةِ الفرقـــــــــــــــــــــــان

فرقانُ ما بين اليهود وضدِّهـــــــم  //  أبدا، أخي، لا يستوي الضـــــــــــــدّان

ففريقهمْ كفرٌ بواح بيّــــــــــــــــــن  //  ولواؤنا هوَ راية الإيمــــــــــــــــــــان

قتلاهمُ بهمُ جهنمُ سُعّـــــــــــــــرت  //  وشهيدنا أبدا إلى الرضــــــــــــــــوان

النصر حقٌّ للمقاوم صامــــــــــــدا  //  ومُثبَّتا في الثّغر والميـــــــــــــــــــدان

أما الهزيمة للعدو فواقــــــــــــــــع  //  قد لا يراه الناس في الحسبـــــــــــــان

في غزةَ الأشلاءُ تغسل عارَنــــــــا  //  في غزةَ الأحرارُ من كنعــــــــــــــان

في غزةَ الشهداءُ قد أحيوننـــــــــــا  //  في غزةَ الأمواتُ كالتيــــــــــــــــجان

اَليوم في أرض الرّباط شـــــــرارة  //  تُنـْبـِي بأن الحق في النيـــــــــــــــران[4]

ودم الشهيد اليوم يُذكي نارنــــــــــا  //  وغدا ستعلن ثورةُ الغضبـــــــــــــــان

ونظامنا البالي يقارب حتفَــــــــــــه  //  وصمودُ غزةَ مولدُ الطوفـــــــــــــــان



[1] الإشارة هنا إلى فظاعات الجرائم الصهيونية التي تبثها القنوات الفضائية عبر العالم.

[2] المقصود هنا قمة حكام العرب.

[3] كناية عن مجلس الأمن الدولي الذي تتحكم فيه الدول المستكبرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا معناه أن هذا المجلس، الذي يعارض أي حكم أو قرار أو أية مبادرة، كيفما كانت، يشتم منها رائحة المس بإسرائيل وإدانة جرائمها، هو مجلس "عبراني" أي صهيوني.


[4] المقصود نيرانُ مقاومة العدوّ ومجاهدته.