الأحد، 26 فبراير 2017

كتاب (المدرسة الحداثيّة الأدونيسية) للتحميل والتصفح

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب (المدرسة الحداثيّة الأدونيسية) للتحميل والتصفح


لقد نشرتُ هذا الكتاب مجزأً في شكل مقالات. واليوم أضعه 

كاملا بين يدي القراء الكرام، لتحميله أو تصفحه مجانا، 

على الرابط التالي:

أتمنى لكم قراءة مفيدة وممتعة.

أدونيس بلا قناع


أدونيس بلا قناع

تنبيه: يمكن حمل هذا الكتاب أو تصفحه مجانا على الرابط التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار.
أساس هذا الكتاب هو سبع مقالات كنت كتبتها ونشرتها سنة2011 بعنوان "الوجه الآخر لأدونيس".
وقد راجعت هذه المقالات على ضوء ما اطّلعت عليه من كتابات جديدة، فأدخلت عليها تعديلات طفيفة تناسب غرضَ الكتاب، شكلا ومضمونا.
ومن المواد الأساسية التي اطلعت عليها، بعد نشر المقالات السبع، حوارٌ مطوّل لأدونيس مع الباحثة (حورية عبد الواحد)، نُشر بالفرنسية بعنوان "العنف والإسلام"[1]؛ والملاحظ أن توقيت ظهور هذا الكتاب/الحوار جاء في سياق الاعتداءات التي تعرضت لها فرنسا سنة2015، حيث وقع، في شهر يناير، اعتداء إجرامي على مقر جريدة (شارلي إيبدو)، بباريس، خلف عددا من القتلى. وفي شهر نونبر التالي وقعت عدة اعتداءات في باريس أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا.
وقد كان لهذه الاعتداءات الإجرامية في فرنسا صدى عالمي واسع، تجلى في حملات ضخمة من الإدانة والتعبير عن التضامن مع الضحايا، ومع الجمهورية الفرنسية.
وفي تقديري أن حوار أدونيس في موضوع (العنف والإسلام) جاء في هذا السياق للتعبير عن موقف من الاعتداءات، تحديدا، ومن الإسلام عموما، لأن الأخبارَ والتحقيقات المنشورة ربطت المجرمين المعتدين بالسلفية الجهادية، وبـ(داعش)[2].
ولم يكتف أدونيس، في هذا الحوار، بإدانة المجرمين المعتدين، ورفضِ التشدد والتطرف والقتلِ باسم الدين، بل تعدى ذلك إلى إدانة الإسلام نفسه، والتطاولِ على القرآن بالافتراء والتجريح والتلفيق، حينما زعم أن (الوحي) هو معدن العنف والإرهاب، وهو المدونة العقدية الإرهابية، التي يستمد منها الإرهابيون، الذين يقتلون الناسَ باسم الإسلام، وباسم السلفية والجهاد، وأن الله-عز الله وجل وتنزّه عما يقول الملحدون الضالون ويصفون-هو رأس الإرهاب والقتل والتفنّن في تعذيب المخالفين والتمثيل بهم.
في هذا الحوار/الكتاب كشف أدونيس القناعَ عن وجهه الحقيقي، الذي طالما ظل مختفيا وراء المخاتلات والتلبيسات والمراوغات والمغالطات، على طريقة المنافقين في التعامل مع عقائد الإسلام ومخاطبة المسلمين.
لقد كان أدونيس، عندما يُحتجّ عليه بأنه يعادي الإسلام ويحاربه بما هو دين، يرد الاتهامَ بأنه لا يتحدث عن الإسلام بما هو دين، ولا يقترب منه بما هو وحيٌ وسنّةٌ وعقائد وشرائع، وإنما حديثُه ينصبّ دائما على أفهام المسلمين وتأويلاتهم واجتهاداتهم وسلوكاتهم.
ورغم أن دفاعه كان دائما ضعيفا، بل مردودا، بعرضِه على تصريحاته وكتاباته الكثيرة، التي لا تدع مجالا للشك بأن عداء الرجل إنما هو للإسلام بما هو عقائد وشرائع وأخلاق، وبما هو وحي ونبوة-فإن تصريحاته في هذا الكتاب/الحوار الأخير لا تتركُ له أيّ مجال للف والتهرّب والنفاق.
في جملة واحدة: لقد ظهر أدونيس في هذا الحوار بلا قناع.
أما القناعُ الذي طالما أخفى وجهَه الحقيقيَّ، فهو صورة الشاعر الحداثي المتمرد على الأصول والأمثلة والنماذج والأسلاف. فهذه الصورة هي التي عمل الإعلامي الحداثي المُوالي على ترسيخها لدى الجماهير العربية الإسلامية. فكل الأضواء كانت، وما تزال، مسلطةً على أدونيس الشاعر، وتتفادى وجهَه الآخر، وجهَ الملحد المناضل، الذي همّه معاداةُ الإسلام والطعنُ على أصوله ومعتقداته ورموزه ومقدساته، بكل الأساليب والوسائل، وهي أساليب ووسائل قائمة، في معظمها، على التزوير والافتراء والمغالطة والرجم بالغيب.
هذا هو الهدفُ الأساس الذي يسعى هذا الكتابُ إلى تحقيقه؛ إظهار أدونيس بوجهه الحقيقي بلا قناع، ومنه العنوان الذي اخترته للكتاب.
لقد أضفت إلى المقالات السبعة، بعد إدخال تعديلات طفيفة، ومراجعة بعد التواريخ، فصلا جديدا لخّصت فيه أهمّ الأسس الفكرية والفلسفية، التي تشكل قوام الإيديولوجية الإلحادية النضالية الأدونيسية.
وختمت الكتابَ بملحق أثبتّ فيه أربع مقالات لها علاقة بموضوع الكتاب، كنت كتبتها، على التوالي، سنة2003 و2008 و2013 و2015؛ المقالة الأولى بعنوان "ملكيّ أكثر من الملك"، والثانية بعنوان "بنت أدونيس في معرض الكتاب بالدار البيضاء"، والثالثة، وهي في جزأين، بعنوان "إلى المعجبين بأدونيس من أبناء المسلمين وبناتهم"، والمقالة الرابعة بعنوان "أدونيس في ضيافة الانقلابيين في مصر".
وبعد، فقد كان اعتمادي في مادة هذا الكتاب، أساسا، كما سيلاحظ القارئ الكريم، على خمسة كتب، أربعة منها صدرت بالفرنسية، كل واحد منها عبارة عن حوار لأدونيس مع طرف ثان؛ في الكتاب الأول، وهو بالعربية، وعنوانه "حوار مع أدونيس، الطفولة، الشعر، المنفى"[3]، حاور فيه أدونيس صقر أبو فخر. وفي الكتاب الثاني، وعنوانه "هوية ناقصة"[4]، تعاون فيه أدونيس مع (شانتال شواف). وفي الكتاب الثالث، وهو "محادثات مع أدونيس، أبي"[5]، حاورته ابنتُه (نينار إسبر). وفي الكتاب الرابع، وعنوانه "نظرة أورفي"[6]، والخامس، وعنوانه "العنف والإسلام"[7]، حاور أدونيس فيهما الباحثةُ والأستاذة المحاضرة (حورية عبد الواحد).
لماذا هذه الكتب أساسا؟
لأننا نستمع فيها إلى أدونيس، في كثير مما يقول، وهو يتحدث على سجيته، كاشفا عن حقيقة معتقده الإلحادي بلا لف ولا دوران ولا نفاق، ومبرزا عداءه الصريحَ للإسلام، وما يتعلق بهذا العداء من تلفيقات وأباطيل وافتراءات وتجريحات، منها ما يخص عقائدَ الإسلام وشرائعه وأخلاقه، ومنها ما يخص أحداث التاريخ وأعلامه وأخباره، ومنها ما يخص العلماء والمفكرين والأدباء. في كل ذلك، نرى الوجه الحقيقي لأدونيس الملحد المناضل، بلا زَواق ولا مساحيق.
أملي أن يكمل هذا الكتاب العملَ الذي بدأته في كتابين لي سابقين، وهما "الموديرنيزم وصناعة الشعر؛ الأصول والفروع"، وقد نشرته في طبعته الورقية الأولى سنة2005، والكتاب الثاني "المدرسة الحداثية الأدونيسية"، وقد ظهر في نشرته الرقمية الأولى في دجنبر من السنة الماضية 2016.
فهذه الثلاثيّة، كما يظهر من عناوينها، ترمي، في جوهرها، إلى غاية واحدة، وإن اختلفت مباحثها وتعددت موضوعاتها، وهي كشف القناع عن هذه الحداثيّة اللادينية التي تغلغلت في حياتنا، وباتت تهددنا في روح هويتنا، بما فرضته علينا من تبعية وتقليد وانصياع للحضارة الغربية، وخاصة في شقها الفكري الفلسفي، واختياراتها السلوكية والأخلاقية.
ولا أنسى أن أسجّل في نهاية هذه الكلمة جزيل شكري وعظيم امتناني لشقيقي نجيب مجذوب؛ فقد استفدت كثيرا من نقداته الفنية واقتراحاته الإيجابية، في كل كتبي الرقمية، وخاصة في الجوانب المتعلقة بالإخراج الفني وجمالية صفحة الواجهة.
ومن الله تعالى العون والسداد.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[8].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



[1] Violence et Islam, entretiens avec Houria Abdelouahed, éditions du Seuil, Paris, novembre2015.
[2]  (داعش) هي الاختصار الذي اشتهر لـ(الدولة الإسلامية في العراق والشام).
[3]  حوار مع أدونيس، الطفولة، الشعر المنفى، صقر أبو فخر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
[4] Identité inachevée, Adonis, avec la collaboration de Chantal Chawaf, éditions du Rocher, Monaco, 2004.
[5] Conversations avec Adonis, mon père, Ninar Esber, éditions du Seuil, Paris, mars 2006.
[6] Le regard d’Orphée, Adonis avec Houria Abdelouahed, éditions Fayard, avril 2009.
[7] Violence et Islam, Adonis, entretiens avec Houria Abdelouahed, éditions du Seuil, novembre 2015.
 [8]  الآيتان 41 و42 من سورة إبراهيم.

الأربعاء، 15 فبراير 2017

زُبدة الكلام

بسم الله الرحمن الرحيم
زُبدة الكلام

(1)
ما هي الحصيلةُ التي نخرج بها، بعد هذا التّطواف في أهم دروب الحداثيّة الأدونيسية؟
لقد بيّنتْ فصولُ هذا البحث، بالنصوص القاطعة والشهادات الفصيحة، أن الحداثيّة الأدونيسية إنما هي، في أصولها الفلسفية وأطروحاتها المركزية، بضاعةٌ غربية، اجتهد أدونيس، بطريقته اللاموضوعية، التي تنتهك أهم قواعد البحث العلمي، أنْ يختلقَ لها أصولا في تراثنا العربي الإسلامي، فارتكب، مِن أجل ذلك، كما رأينا، العديدَ من الخروقات والتجاوزات، وسار في التمحّل والتأويل البعيد في كل الاتجاهات، ليثبت، على طريقته الشاذة، وأسلوبه الخاص جدا، أن الحداثيّة العربية قد سبقت الحداثيّة الغربيةَ بعدة قرون، وأن الإلحاد، في تاريخنا الإسلامي، كان أولَ شكل للحداثة.
لقد ملكتْ هذه المُسلَّمَةُ الإلحاديةُ على أدونيس نفسَه، وهو يخوض غمار البحث في تراثنا السياسي والفكري والفلسفي والفقهي والأدبي، ليجدَ ما يصدّق نظريتَه الموضوعةَ سلفا، بل ليصنعَ الأمثلةَ، ويلفق الأخبارَ، ويزوّر الأحداث والتواريخ، ويخترعَ الشخصياتِ، ويختلق القضايا، كلُّ ذلك من أجل أن يصل إلى النتيجة التي تقول إن التيار الحداثيَّ في تراثنا العربي الإسلامي، قام، في أساسه وروحه، على معارضةِ الإسلام، في عقائده وشرائعه وأخلاقه، وأن كلَّ المبدعين الحداثيّين في تاريخ الإسلام لم يكونوا مؤمنين، بل كانوا معادين للدين جملة وتفصيلا.
(2)
إني أصف الحداثيّةَ الأدونيسية بأنها نسخة مشوهة عن النسخة الغربية الأصلية، لأن النسخة الأصلية-سواء كنا معها أو ضدها-قد انبثقت في مناخ طبيعي ومُواتٍ للظروف التي تطور فيها الفكر الغربي، وفي سياقٍ منسجمٍ مع القضايا والإشكاليات العقدية والفلسفية والاجتماعية، التي طبعت صيرورة المجتمع الغربي وحضارته.
أما الأدونيسية، فهي، في اعتقادي، تعبيرٌ عن التغرُّب الأعمى، الذي يُصبح فيه المتغَرِّبُ جاحدا لأصلِه، ورافضا لتراثه، وعاقّا لأسلافه، وقاطعا لرحِمِه، ومُشكّكا وطاعنا ومستهزئا ومُدينا لكلِّ ما له علاقةٌ بماضيه، طبعا، مِن جهة الدّين والفكر والحضارة.
وما يزال أدونيس يستغل اهتمامَه بالتراث الشعري العربي، ليَظهرَ بمظهر المدافعِ عن هذا التراث، الباحثِ في أثنائه عن صور الحداثة والإبداع، الناشرِ لجواهره المَنسيَّة، الباعثِ لروائِعه الدفينة.
هذا هو الظاهرُ، الذي يحرص أدونيس، دائما، وبكل الوسائل، أنْ يراه الناس منه؛ بل إني أزعم أنَّ هذا الاهتمامَ بالتراث الشعري أصبح عند أدونيس وسيلة للتكسب وتنويع مصادر الدخل المادية وتوسيعها. والناظرُ الفاحصُ المُدقق فيما يطبعه أدونيس وينشره مِن كتب، لا يفوته أن يلاحظ أن الرجلَ اتخذ مِن شهرته ورمزية اسمه، في مجال الفكر والأدب والنقد، مطية، بل أصلا تجاريا، للتربح والكسب الوفير، يساعده، في ذلك الناشرون، الذين يعرفون القيمةَ التجارية لاسمٍ بشهرة أدونيس وتميّزه وجراءته على مقدسات الإسلام.
أما ما وراء هذا الظاهر، فهو الحقيقةُ التي يسعى الإعلامُ، الذي يروج لمذهبيَّة أدونيس الحداثيّة اللادينيّة بين المسلمين، ويُجمِّل وجهَه، ويبرّئ نيّتَه ومقصِدَه، أن تبقى خفيّةً، أو، على الأقل، أن تظهرَ في الدرجة الثانية أو الثالثة، حتى تبقى شهرةُ وجهِ أدونيس الشاعر الحداثيِّ المُتمرّد في الدرجة الأولى دائما.
الحقيقةُ التي لا يكاد يقترب منها الإعلامُ والنقاد، هي أن أدونيس واحدٌ من دعاة الحداثيَّة الإلحادية، وواحدٌ ممن ركبوا مركب الأدب والنقد من أجل الافتراء على التراث والتاريخ والأسلاف الماضين، ومن أجل التلفيق والتدليس والتخليط، لفرض حداثيّته اللادينية، باسم التراث، وباسم أعلام هذا التراث؛ وهذا، في اعتقادي، هو التزوير في أبشع صوره، وأخسِّ أساليبِه.
الإسلام قتلَ اللغة والشعر، وقمع الشعراءَ أنْ يبدعوا ويعبروا عن ذواتهم، وقيَّد الحريات، وفرض الرأي الواحد، وتصدى بالقتل والنفي والسجن لكل معارض ومخالف!!
جميعُ النوابغ والعباقرة والمبدعين الكبار، الذين عرفهم التاريخُ الإسلامي، كانوا معادين للدين!!
الصوفية كلهم كانوا ضد الإسلام، وتراثُهم كلُّه كان نقضا للإسلام!!
والحداثيّة العربية ظهرت، في تاريخنا، مع الملاحدة، قبل الحداثيّة الغربية بعدة قرون!! وأبو نواس، وأبو تمام، وأبو العلاء المعري، وأبو الطيب المتنبي، وغيرهم من كبار شعراء العربية كانوا لادينيّين!!
لا حدود للفن تحدُّه، ولا قواعد تضبطه، ولا مقاييس تقوِّمه، ولا موازين تزنه، بل هي الحرية المطلقة، التي قد يتحوّل معها اللاشيءُ إلى شيء!!
ليس مِن غاية الشاعر التواصلُ مع الناس، وليس من مهمته أن يعبر عن معنى، أو يبلغ رسالة، وإنما عملُه نظمُ الحروف، ورصفُ الكلمات، من غير تقيُّد بمثالٍ، أو التزام بقاعدة، أو احتذاء على نموذج، أو مراعاةٍ لمعايير ومقاييس وأسس مُقَررة ومُؤصلَّة!!
هذه بعضُ مظاهر الحداثية الأدونيسية، التي وقفت عندها بشيء من التحليل والمناقشة والنقد. وقد بيّنتُ أن أدونيس كان في ذلك متجاوزا لكل القواعد والحدود، منتهكا جميع المعايير والأعراف، والغايةُ أن يكون مخالفا، في كل شيء، حتى في البديهيات، ليصبح معروفا.
حداثيّةٌ لادينية جعلتْ مِن معارضتها للدين أساسا لبناء مقولاتها، وفرض أطروحاتها، والدعاية لأصلها الحضاري الغربي، والطعن على الحضارة العربية الإسلامية، وفي قلبها الإسلام.



(3)
آثارُ المدرسة الحداثية الأدونيسية ليست محصورة في نطاق الأدب والنقد، بل تتعداه إلى مختلف مجالات الفكر والفنون، وإلى ميدان الصراع العقدي والتدافع الاجتماعي والاختلاف الإيديولوجي في المجتمعات الإسلامية.
فخطر الإلحاد المناضل، في مجتمعنا الإسلامي، بات أمرا واقعا، لأنا بتنا نسمع حسيسَه في أكثر من ناحية في حياتنا، وخاصة في مجالات لها علاقةٌ مباشرة بمعتقداتنا الإسلامية وتربيتنا الأخلاقية، كالتربية، والتعليم، والإعلام العمومي، ونظام الأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والفنون، والآداب، والسلوك العام.
نشاطُ الملحد المناضل لا يعرف الكلالَ والفتور، فهو ساعٍ، بكل الحيل والوسائل، لجعل الدين أمرا مهملا ومنسيا في حياة الإنسان، أو جعلِه، على الأقل، أمرا هامشيا لا يُعبأ به في تدبير شؤون الحياة، وخاصة في جانبها القلبي العاطفي الأخلاقي.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية، لا تهم الملحدَ المناضل ديمقراطيةٌ، ولا حقوقٌ، ولا حرياتٌ، إلا إن تعلق الأمر بمزايدات في سوق الشعارات والخطب والاحتجاجات. أما حينما يجدّ الجِد، فالملحدُ المناضل مع الاستبداد والطغيان والديكتاتورية إن كان سيكون للإسلاميين في الديمقراطيةُ حظٌّ، وإن كان ضعيفا، للنجاح، وإسماع صوت الدين، وإظهار بعض شعائره وسمته وآدابه. وقد ظهر هذا جليا في الانقلاب العسكري على الرئيس الشرعي المنتخب في مصر، حيث كان الملحدون المناضلون مِن المناصرين للانقلاب وسفك الدماء؛ وقد كان أدونيس مِن المؤيدين لهذا الانقلاب، ولكن بطريقته الخاصة، لكنها طريقة فصيحة في معاداة الإسلاميين والانتصار للعسكريين الغادرين المُنقلبِين.
الملحدُ المناضلُ، حين يجِدّ الجِدّ، مع تقييد الحريات، بل مع قمعها، ما دام فيها هامشٌ يمكن أن يستفيد منه الإسلاميّون.
الملحدُ المناضل مع الشيطان، ما دام الشيطان يكره لعباد الله فعلَ الصالحات وتركَ المنكرات، وما دام الشيطان قد أقسمَ ليَقعُدَنّ للإنسانِ صراطَ الله المستقيم.
وها هي ذي اليوم أصواتُ اللادينيّين، عندنا في المغرب، تتعالى من جهات كثيرة، مناديةً بمراجعة مقررات التربية الإسلامية لصالح اللادينيّة باسم التسامحِ ومحاربة التطرف والإرهاب، ومطالبةً بإلغاء بعض القوانين-رغم أنها قوانين مجمَّدة، لا يتم تفعيلها إلا في الحالات الاستثنائية، التي ترى الدولةُ المخزنية أنَّ لها فيها مصلحة-التي لها علاقة بالإسلام، والأخلاق، والسلوكات العامة، كالمجاهرة بالإلحاد، والإساءة إلى الإسلام، والزنا، والشذوذ، وتعاطي الخمور في العلن.
وما تزال هذه الأصواتُ اللادينيّة ترتفع بين حين وآخر، معترضةً على كلمة هنا أو هناك، في خطبة خطيب، أو موعظة واعظ، أو مقالة فقيه أو عالم، يُشتَمّ فيها شيءٌ مما يسوء شيطانَهم، وتؤول العباراتِ والأفكار التي لا تعجبها في خطابات الإسلاميين على أنها تفتل في حبل خطاب التحريض والتكفير والكراهية والعنف.
إنها أصواتٌ باتت معروفة بيننا بمنابرها وجمعياتها ومواقعها الإلكترونية ورموزها من المثقفين، والسياسيين، والإعلاميين، والحقوقيين، والفنانين؛ وأيُّ ثقافة؟ وأي سياسة؟ وأي إعلام؟ وأي حقوق؟ وأي فن؟
إنها أصواتٌ لا تني تقعد للخطاب الإسلامي عامة، مِن غير استثناء ولا تمييز، كلَّ مرصد، تشجعها وترعاها وتقوّي عضدَها هذه الحربُ العالمية المعلنةُ الصاخبة ضد ما يسمَّى بالإرهاب، وضد التطرف.
وما الإرهاب؟ وما التطرف؟
هل أنا تكفيريٌّ إرهابيٌّ إن تلَوْت، مثلا، قول الله تعالى في كتابه العزيز: (لقد كفَر الذين قالوا إن اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريم)[1]؟
هل أنا متطرفٌ ومحرّضٌ على القتل إن استشهدت بقول الله تعالى في القرآن الكريم: (لقد كفرَ الذين قالوا إن اللهَ ثالثُ ثلاثة، وما من إله إلا إله واحدٌ)[2]؟
وبعد، فإني قد أهديت هذا الكتابَ إلى كل مؤمنٍ بالحريات العادلةِ بين الحقوق والواجبات، وكافرٍ بالإيديولوجيات الماتحة مِن العنف والتخريب والعبث.
وفي اعتقادي أن الإلحاد المناضلَ، في مجتمعنا الإسلامي، هو من الإيديولوجيات التي تمتحُ مِن العنف والتخريب والعبث؛ وما أرى بناءً سليما على أساس منخور، ولا يكون مِن زَرْع الريح إلا حصادُ العاصفة، لأن الإيديولوجيا التي يعتنقها الحداثيون اللادينيون المتطرفون عندنا ليس وراءها إلا الفوضى والاضطراب؛ ليس وراءها إلا العبث والعنت والتقهقر إلى الوراء.
لقد بيَّنت في المقدمة أني مع قوله تعالى: (لا إكرَاه في الدّين، قد تبيَّن الرشدُ من الغيّ...)[3]، قلبا وقالبا؛ (فمنْ شاء فلْيؤمنْ، ومنْ شاء فلْيكفرْ)[4]؛ لكن حرية الإنسان في الاعتقاد والاختيار شيء، والسعي مِن أجل الطعن والتشكيك والاستهزاء ونقضِ معتقدات الناس، والتصدي لمقدساتهم بالافتراء والتزوير والتنقيص شيء آخر.
إن أدونيس وأمثالَه مِن الملاحدة المناضلين، لم يكتفوا باختيارِ المذهب الذي يرتاحون فيه، واعتناقِ الإيديولوجيا التي يجدون لها هوى في قلوبهم، وإنما تعدّوا ذلك، كما بيّنَتْه فصولُ هذا الكتاب، إلى ما يتعارض مع حقوق الإنسان وحرياته، وإلى ما ينافي أمانةَ البحث العلمي، وإلى ما يُضادُّ العقلَ والذوق السليم.
إن الإلحاد المناضلَ يريد أن يفرضَ علينا، إنْ نحن أصررنا على التشبث بإسلامنا، أن نؤمنَ ببعض القرآن، ونكفرَ ببعض؛ فمقبول عندهم-لا ننسى أنهم يقدمون أنفسهم دائما على أنهم الأساتذة المرموقون المختصون في الحريات وحقوق الإنسان-أن نستشهد، مثلا، بقوله تعالى: (لاَ إكْرَاهَ في الدِّين)، لكنهم يتضايقون إن قرأنا على أسماعهم، مثلا، قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[5]. كما لا يعجبهم أن يسمعوا قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[6]، ولا أن يسمعوا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)[7].
هذا هو الإلحاد المناضلُ النابتُ اليوم في مجتمعنا الإسلامي؛ وهذه هي إيديولوجِيَّتُه العبثية العُنفية الهدْمية الفوضوية، التي لا يأتي منها إلا الضعف والتخلف والانحسار.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[8].
صدق الله العظيم. وصلى الله وسلم على خاتم النبيئين والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته المجاهدين الأخيار. آمين، والحمد لله ربّ العالمين.



[1]  من الآية 17و 72من سورة المائدة.
[2]  من الآية 73 من سورة المائدة.
[3]  من الآية 256 من سورة البقرة.
[4]  من الآية 29 من سورة الكهف.
[5]  الآيتان 57 و58 من سورة الأحزاب.
[6]  الآية 69 من سورة الأحزاب.
[7]  الآيتان 167 و168 من سورة النساء.
[8]  الآية 32 من سورة التوبة.

الخميس، 9 فبراير 2017

"هذا هو اسمي" أو مجمع التفاهات الحداثية(تتمة)

بسم الله الرحمن الرحيم

"هذا هو اسمي" أو مجمع التفاهات الحداثية(تتمة)

لقد سجلت هذه التجربة، في رأيي المستند إلى المقاييس الأدبية والنقدية المعتبرة المعروفة، جميعَ صفات الشذوذ والتجاوز والخروج على المألوف، لكنه خروج من المعروف إلى منكور ليس له من هوية إلا عند أصحابه، لأنه لا يرجع إلى أصل متعارف عليه حتى بين الحداثيين أنفسهم، لأن روح الحداثية، عندهم، هو اللاأصل، واللاتشكل، واللاقاعدة.
ومن الصفات الصارخة لشذوذ هذه التجربة نذكر الطابع النثري الغالب، بل التجربة كلها تجري على قواعد الكتابة النثرية، مع بعض الشكليات المتعلقة بتقسيم الفقرات، وترتيب الأسطر، وتوزيع الجمل.
ويحاول كثير من النقاد أن يجعلوا هذه الشكليات عنصرا معتبرا في التجربة الإبداعية، لكنهم، في محاولاتهم، لا يتجاوزون التأويلات الإنشائية، التي غايتها المدح والتقرير والتسويغ. أما كيف يكون تركُ فراغ في أول السطر، مثلا، عملا بديعا؟ وكيف يكون توزيع الكلمات على الأسطر، في حد ذاته، له معنى؟ وغير ذلك من الأسئلة المتعلقة بالعمق، فلا نكاد نعثر لها على أجوبة في الفضاءات النقدية الحداثية.
فكلهم متفق أن في هذه التجربة وأمثالها مما يطلق عليه "القصيدة الكلية"[1]: "يخرج أدونيس كليا عن المفهوم التقليدي للشعر، ويداخل بين ما يعتبر نثرا بالمفهوم التقليدي وما يعتبر شعرا."[2]
ومع ذلك، فإن هذه النثريات، في المنظور الحداثي، لا يمكن أن تكون إلا إبداعا شعريا فريدا، وخاصة إذا كانت من إنشاء واحد من الأعلام الرموز كأدونيس.
وهذه هي ذي التجربة بين أيدينا، نقرأها من غير وسطاء منكرين حانقين، أو مادحين مستجيدين.
وأسأل، حسب رأيي وذوقي ومكتسباتي الأدبية، وكذلك حسب ما انطبع في نفسي من شعور من جرّاء قراءة تجربة أدونيس-أسأل: أين يمكن أن تكون الشعرية في مثل قوله-لاحظ أنه كلام خال من علامات الترقيم. وقد جعل بعضهم هذا الخلو من أمارات الإبداع الأدونيسي في هذه التجربة[3]-:
"أغني
لغة النصل أصرخ انثقب الدهر وطاحت
جدرانه بين أحشائي تقيأت
لم يعد تاريخ ولا حاضر…"(ص635)

وقوله: "سيجيء الرافضون
        ويجيء الضوء في ميعاده…"(ص631)

وقوله: "لم يعد غير الجنون"[4]؟؟

أين هو الشعر في هذه العبارات؟
وإني لأجد خطابية فاقعة ممزوجة بمعجم عامي نابي تفوح منه روائح الكراهة والنتانة في مثل قوله:

"عدْ إلى كهفك التواريخُ أسرابُ جرادٍ، هذا التاريخُ يسكن حضن بغي. يجتر في جوف أتان ويشتهر عفن الأرض ويمشي في دودة عد إلى كهفك واخفض عينيك/"(ص633).
بغيّ، أتان، عفن، دودة… !!أليس في العربية غير مثل هذه الكلمات للتعبير عن مشاعر الغضب والثورة والرفض إزاء واقع وتاريخ وتراث مسخوط عليه؟
وقوله: "تقدموا فقراء الأرض غطّوا هذا الزمان بأسمال ودمع غطّوه بالجسد الباحث عن دفئه."(ص618) أليس يذكرنا بعبارة ماركس الحماسية الثورية الشهيرة: "يا عمال العالم، اتحدوا."؟ نثر عادي، وخطاب مباشر يخلو من أي تصوير أو تخييل ذي قيمة في ميزان الإبداع الجميل.
وأين هو حق المتلقي من الحد الأدنى من الفهم في مثل قول أدونيس: "إذا عبر الملح التقينا هل أنتِ"؟ (ص515)
أما فيما يخص الوزن الشعري، فإن النظرية الحداثية لا تعترف بشيء اسمه البحر العروضي، ومن ثم فليس من الحداثة الشعرية، عندهم، التزام تفعيلات بحر بعينه، تامة أو ناقصة، بل الأمر، عندهم، إيقاع داخلي[5].
بم يتميز هذا الإيقاع؟ كيف يمكننا معرفة الإيقاع الشعري من غيره من الإيقاعات النثرية العادية؟ ما هي الخصائص الصوتية والنغمية والكمية لهذا الإيقاع؟ هل هو إيقاع واحد أم أنواع متعددة؟
كل ما نعرفه، في هذا الموضوع، أن النقاد الحداثيين أنفسهم ما يزالون بعيدين عن الاتفاق على جواب واحد مقنع في شأن مسألة الوزن الشعري.
نقرأ هذه التجربة الأدونيسية فلا نجد إلا حركات الكلمات وسواكنها تتوالى، في التعبير، كيفما اتفق، مما حول التجربة إلى خليط من التفعيلات، بل أقول خليط من الأصوات التي لا تحيل على أي وزن من الأوزان، أو نغم أو لحن من الأنغام والألحان. بل الأمر أصوات مصفوفة على طريقة يمكن العثور عليها في أي خطاب نثري عادي.
ومع هذه الحقيقة التي لا ينكرها النقاد الذين تناولوا هذه التجربة الأدونيسية بالتحليل والتأويل والتعليق-وهي حقيقة الخروج على الأوزان الشعرية المعروفة، والخلط بين التفعيلات على غير مقياس، ولا مثال، ولا ضابط كمي معين، فضلا عن الصياغة التي يطبعها الأسلوب النثري العادي-مع هذه الحقيقة المعترف بها، وجدنا نقادا حداثيين أدونيسيين، كخالدة سعيد، يجعلون هذه الحقيقة معيارا لإبداعية أدونيس وثورته الحداثية.
ففي هذه التجربة الأدونيسية، حسب رأي خالدة سعيد، "محاولة لاستقصاء إمكانيات الإيقاع الصوتي في اللغة العربية وصهرها في سمفونية صوتية حركية جديدة، أي ترويضها وانتزاعها من مجراها المألوف ووضعها في مدار جديد لتصبح من عناصر لهجة الشاعر."[6]
وتضيف في السياق نفسه: "…أدونيس، هنا، يأخذ التفعيلة ويتخلى عن البحر كليا. يأخذ التفعيلات من بحور متعددة، وينظمها تنظيما جديدا مطابقا للإيقاع المعنوي في القصيدة. ففي القصيدة تتوالى المقاطع الهذيانية والغنائية، أو أمواج التوتر فأمواج الانبساط. ويحدث الانتقال من هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية متغورة، هابطة في غور الهذيان، أو التفافية إشراقية صاعدة نحو المقطع الغنائي."[7]
فيمكننا أن نجد أي شيء في مثل هذا الكلام، إلا مفهوما واضحا عن كيان موسيقي يمكن حصره في صورة صوتية مكونة من حركات وسواكن-لأن الحركة والسكون من طبيعة الكيان الصرفي للكلمة العربية-لها خصائصها الكمية، ونبراتها وأنغامها المتميزة عند القراءة أو الترديد والإنشاد.
ما معنى "المقاطع الهذيانية" في لغة موسيقى الشعر العربي، وليس في لغة الحماسة والإنشاء؟ ما معنى أمواج التوتر وأمواج الانبساط بلغة الكم والأنغام والألحان؟ ما معنى "الالتفافية الحلزونية" و"الالتفافة الإشراقية" و"غور الهذيان" في لغة البحور والأوزان وعلم الأصوات؟
ونتذكر هنا، أيضا، أن النظرية الحداثية ترى أن الإبداع الشعري إنما جذوره-حسب تعبير أدونيس-في خطواته، أي ليس هناك قواعد، ولا بحور، ولا أوزان، ولا أسلاف، ولا مراجع سابقة، ولا تراث قبلي.
وأختم تعليقاتي على هذه التجربة الأدونيسية بالإشارة إلى ظاهرة ابتذال المقدس الديني، والإسلامي خاصة، التي تكاد تكون ملازمة لأي تجربة حداثية تسعى أن يكون لها قدر وصيت، وأن تلقى القبول والترحاب في نادي الحداثيين.
لقد أورد أدونيس، في هذه التجربة، كلمات هي بمثابة رموز دينية مقدسة (الله، والخالق، والنبي، والمسجد، والكنيسة، والمحراب، والمئذنة، والمصحف) في سياقات، وفي تعابير تغرقها في الدناسة والمهانة، بل توظفها توظيفا مقصودا يقدمها على أنها رموز للشر والفواجع والخطوب.
ومن عباراته في هذا المعنى:
"أرى المسجد الكنيسة سيّافين والأرض وردة."(ص618)
"سنقول الحقيقة: ليست بلادا
                  هي اصطبلنا القمري
                  هي عكّازة السلاطين وسجّادة النبيّ."(ص620)
"أحببت صفصافة تحتار برجا يتيه مئذنة تهرم…"(ص618)
"الأمة استراحت
في عسل الرباب والمحرابْ
حصّنها الخالق مثل خندقٍ
وسده…"(ص623)
"هل هذه المدينة آيٌ؟ هل ثياب النساء من ورق المصحف/…"(ص634)

والأمثلة، في هذه العبارات، واضحة لا تحتاج إلى تعليق.
وقد بلغ أدونيس أوج جراءته على ذات الله-تعالى الله وتقدست أسماؤه-حينما عمد إلى توظيف اسم الجلالة الأعظم في جمل تجريحية صريحة، وعبارات وصفية صفيقة تشبيهية تقطر إلحادا وجحودا، كقوله:

"هكذا أحببت خيمه
وجعلت الرمل في أهدابها
شجرا يمطر والصحراء غيمهْ

ورأيت الله كالشحاذ في أرض عليٍّ

وأكلت الشمس في أرض علي
وخبزت المئذنة…"(ص637)

ومثل قوله:
"هاتوا وطنا قربوا المدائن هزّوا شجر الحلم غيّروا شجر النوم كلام السماء للأرض[تأمل]/
     طفل تائه تحت سرّة امرأة سوداء بحثا
     طفل يشبّ
     وللأرض إله أعمى يموت…/"(ص640).

تعالى الله عما يهرف به الهذيان الحداثي من عبارات التجديف والتيه في صحاري الزندقة والإلحاد.
كان هذا نموذجا من قمة التجارب الحداثية. وأدونيس هو عنوان مدرسة بكاملها، لها تاريخها ومبادئها وأصولها في الفكر والسلوك ورؤية الكون والإنسان والمجتمع.
ولئن كانت جذور التجربة الأدونيسية، كما عبر هو، إنما هي في خطواتها-إن نحن سلمنا بذلك جدلا-فإن هذه الخطوات قد تحولت، بفعل الرمزية التي اكتسبها أدونيس، وبفعل آثار الأستاذية، فضلا عن الكتابات الحداثية الدعائية والإشهارية، إلى جذور لتجارب حداثية عديدة محترفة وهاوية، يكاد زبدها يغطي الفضاءات الشعرية في زماننا المعاصر.
خاتمة البحث في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.





[1]  عبارة "القصيدة الكلية" من اختراعات الحداثيين، التي استوردها نقادنا، مع عبارات كثيرة، تابعين مقلدين. وهي، في رأيي، عبارة لا تضيف شيئا له قيمة في ميزان الإبداع الفني، ولا في موازين النقد الأدبي الجاد.
[2] "الحداثة فكرة في شعر أدونيس"، لمحمد الخزعلي، في "عالم الفكر"(مرجع سابق)، ص100.
[3] انظر المرجع السابق مثلا، ص110-112.
[4] هذه العبارة ولّد منها النقاد الحداثيون المعجبون فلسفات وفلسفات، وخاصة الناقدة الأديبة خالدة سعيد، في دراستها حول هذه التجربة. راجعها في حركية الإبداع، ص87 وما بعدها.
[5] راجع ما كتبته خالدة سعيد حول هذه المسألة في دراستها لهذه التجربة في "حركية الإبداع"، ص110 وما بعدها.
[6] حركية الإبداع، ص113.
[7] نفسه، ص113و ص116.