الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

دعوى ضعف الشعر وسقوطه في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

        دعوى ضعف الشعر وسقوطه في الإسلام

      من أدلة الإثبات المشهورة، التي يسوقها أصحاب دعوى سقوط الشعر في الإسلام، قول الأصمعي: "طريق الشعر هو طريق شعر الفحول، مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة، من صفات الديار والرحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفة الحُمُر والخيل، والحروب والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لان."[1]
     أما أدونيس، وهو، في الحداثيّين، من رؤوس هذه الدعوى، فيحكم، مطلقا، بأن الشعر الذي استلهم "بشكل أو بآخر، مبادئ الإسلام، أو ألفاظ القرآن ومعانيه، إنما كان كله شعرا تقريريا، أي أنه كان، من الناحية الفنية، شعرا رديئا جدا."[2]
     وقد يفهم من هذا أن قصد أصحاب هذه الدعوى هو أن يقرروا أن الشعر الجيد إنما بابه الشر، وأن الشاعر-حسب منطق دعواهم دائما-لا يكون شاعرا فنانا مجيدا، حتى يكون صادرا في تجربته عن الشر وما في معناه، وإلا فشاعريته محكوم عليه، سلفا، باللين والضعف والسقوط.
     وإذا كان هذا المنطق صحيحا، فلماذا أثبت أدونيس، في كثير من مختاراته[3] في "ديوان الشعر العربي"، أبياتا ومقطّعات كثيرة، وحكم لها بالجودة، وإن كانت صادرة عن تجارب بعيدة كل البعد عن الشر وما يدور في فلكه؟
     يقول محمود الورّاق:
إني وهبت لظالمي ظلمي

وشكرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إليّ يــدا

لمّا أبان بجهله حلمـي
ما يزال يظلمني وأرحمــه


حتى رثيت له من الظلـم.[4]

     أليست شاعرية هذه الأبيات كامنة في مضمونها الراسخ في الحكمة والموعظة ومكارم الأخلاق؟ وهل في هذا المضمون شيء آخر غير معاني الخير؟
     وهل شيء غير الحكمة والموعظة، وهما من جنس المعاني الخيرية، في مثل قول أبي العتاهية:
طلبت المستقرَّ بكـــــــل أرض


فلم أرَ لي بأرض مستقـــــرا

أطعت مطامعي فاستعبدتي


ولو أني قنعت لكنت حرّا؟[5]

     وقوله:
إني سألت القبر: ما فعلت

بعدي وجوه فيك منعفـرهْ؟
فأجابني: صيّرت ريحهـــــمُ         

تؤذيك بعد روائح عطـــرهْ
وأكلت أجسادا منعّمـــــــة

 كان النعيم يهزّها، نضـــــره
لم أُبق غير جماجم عريـت


بيض تلوح، وأعظم نخره.؟[6]

      وقوله:
ما لي رأيت بني الدنيا قد اقتتلـوا

كأنما هذه الدنيا لهم عُـرُسُ
إذا وصفت لهم دنياهمُ ضحكوا
    

وإن وصفت لهم أخراهمُ عَبَسُوا؟ [7]

     إن الشعر، بطبيعته، ذو بعد إنساني، لأنه يشمل الإنسان في مختلف حالاته، ومستوياته، في استوائه وانحرافه، في اهتدائه وضلاله، في رزانته ومجونه…إلخ. فكيف نقصر الجودة فيه على تجارب الكفر، والزندقة، والمجون، والعبث، والفوضى، والمعاصي، وننفيها عن تجارب الإيمان، والضراعة، والتقوى، والاستقامة، والفضيلة، وغيرها من أعمال القلوب وأبواب الخير والإحسان؟
     ولنتأمل المثالين التاليين، وهما جميعا من مختارات أدونيس؛
     يقول أبو نواس في وصف الحرام:
ما مرّ يوم وليس عندي


من طُرف اللهو خصلتان

كأس رحيق ووجه ظبي
 
      

تضل في حسنه المعانـي

نلت لذيذ الحرام منـــــه

وناله الناس بالأمانــــــــي

كم لذة قلت قد وعاهـا

في وسط اللوح حافظان.[8]
     ويقول أبو العتاهية في التذكير بالموت والقبر:
يا ساكن الحجرات مـا
 
          

لك غير قبرك مسكن…

فكأن شخصك لم يكن
          

في الناس ساعة تُدفـن

وكأن أهلك قد بكـــوا
 
         

جزعا عليك ورنّنــوا

فإذا مضت لك جمْعـة
         

فكأنهم لم يحزنـــــــــــــوا

الناس في غفلاتهــــــــــم
          

ورحى المنية تطحـن.[9]


     فعلى أي شيء بنى أدونيس اختياره لهذين المثالين؟ فمضمونا المثالين متضاربان ومتنافران ومتباعدان.
     فالأول في الحياة ولذاتها الحرام، والثاني في الموت ومصير الإنسان في القبر.
     الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة. الأول في اللهو والمجون، والثاني في التوبة والتذكر[10].
     الأول في الأماني والأحلام، والثاني في الحقائق والمصير المحتوم.
     فلا مقارنة، إذاً، بين المضمونين. لكن الجامع بينهما في مختارات أدونيس هو فنية الشاعر في المعالجة، وبراعته في التعبير والتصوير، وطريقته في اختيار الألفاظ وصياغة العبارات. في جملة، الجامع بين المثالين هو الشاعرية المبدعة.
     ومن جهة أخرى، فإن المثالين، بالمقياس الجمالي الشعري المجرد، هما جيدان، بما اشتملا عليه من براعة في التصوير، وتميز في النظم.
     أما بالمقياس الإسلامي الشرعي-أقول الشرعي، وليس الفني الجمالي المجرد- فمثال أبي العتاهية أحلى وأجمل، لأنه، بمضمونه، يقع في دائرة الحلال المباح. أما مثال أبي نواس، فهو، بمضمونه، واقع في دائرة المحرم، ومن ثم فهو قبيح مسترذل.
     لكن شاهدنا من وقوفنا عند هذين المثالين هو التدليل على أن الشاعرية لم تكن، في يوم من الأيام، مقصورة على القول في المحرمات والمعاصي وانتهاك المقدسات، وإنما هي موجودة، كذلك، في موضوعات الحلال، والمباح، والواجب، وغيرها من المضامين الواقعة في دائرة الخير الفسيحة الأرجاء.
     وحينما نتأمل الأسباب التي يراها أدونيس وراء ضعف الشعر "كما ونوعا في العقود الخمسة الأولى التي تلت الإسلام"[11]، نتذكر الافتراضات الأدونيسية التي أشرت إليها في سياق كلامي السابق، والتي يبني عليها أدونيس، في تنظيراته واستنتاجاته، وكأنها من المسلمات البديهية التي حازت تصديق العقول والقلوب.
     فهو يرجّح أن أسباب ضعف نوعية الشعر في الإسلام "تكمن في الموقف الإيديولوجي الإسلامي ذاته من الشعر"[12]، لأن الإسلام "جعل الشعر أمرا نافلا يمكن الاستغناء عنه"[13]، وجعله لا يقوّم من حيث هو شعر، ولكن بما هو كلام يحسن إذا كان في خدمة الإسلام، ويقبح إذا كان في غير خدمة الإسلام[14].
     ولعل من أكبر مطاعن هذا الكلام النظري أنه يسند الفعل إلى الإسلام مطلقا، ولا يعين، وهو ما يفقده، في رأيي، صفة الموضوعية وأمانة البحث العلمي النزيه. فلا أحد يستطيع-لأن المطلوب غير موجود أصلا-أن يأتينا بشيء، كيفما كان، يثبت أن النقاد كانوا يردون، بالاستسقاط والاسترذال، الأشعار التي لا تخدم الإسلام.
     وحسب رأي أدونيس، دائما، فإن الشعر، مع هذا الضعف الذي تسبب فيه الإسلام، لم يسترجع عافيته الإبداعية إلا بعد أن ابتعد الشاعر عن الدين، وخرج على جماعة المسلمين، ودخل في العالم "المحرّم" برفض الأشكال والأفكار المسبقة. وقد بلغت هذه العافية الإبداعية أوجها في شعر أبي نواس وأبي تمام.[15]
     ويوغل أدونيس في إثبات التهمة على الإسلام-هكذا مطلقا، بغير تحديد ولا تشخيص ولا تسمية فاعل بعينه-حين يقرر أنه كانت هناك نظرتان "في فهم الشعر وكتابته: نظرة تستند إلى الإسلام، كرؤيا وكممارسة، ونظرة تستند إلى الشعر ذاته، من حيث إنه تجربة متميزة، أو فعالية إنسانية تتصل بأخص خصائصه الإنسانية…"[16].
     وبعد هذه الملاحظات على تصورات أدونيس وآرائه في تسويغ دعوى سقوط الشعر بعد مجيء الإسلام، فإن ما نستنتجه هو أن أدونيس، في معظم تنظيراته في موضوع الإسلام والفكر والثقافة عموما، والإسلام والشعر خاصة، كان يجتهد غاية الاجتهاد من أجل التميّز برأي مخالف، وإن كان هذا الرأي قائما، في أساسه، على مجرد افتراضات، منها ما لا يصح، ومنها ما يحتاج إلى إثبات، ومنها ما لا أساس له إلا في ذهن صاحبه.
     وشتان، بعد هذا كله، ما بين رأي يقوم على البحث والتحري والاستنتاج الموضوعي، ورأي يقوم على التعصب الإيديولوجي، والحكم القبلي المسبق. وفي حالة الرأي الثاني، فإن الخطاب النقدي يتحول إلى ما يشبه الخطاب الحزبي بإغراقه في إبراز الذات ومحاولة إثبات تميزها، مع ما قد يصاحب ذلك من تجاوزات وأحكام غير منصفة في حق العقائد، والأشخاص، ومعطيات التاريخ.
     هذا فيما يخص مستندات دعوى ضعف الشعر في الإسلام، القائمة، أساسا، على أحكام إيديولوجية مسبقة في حق الإسلام باعتباره، حسب زعم المدّعين، قطب الرحى في النظرية التقليدية الاتباعية في التاريخ العربي الإسلامي.
     وللحديث تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
     وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
هوامش:
[1] الموشح، ص78.
[2] الثابت والمتحول،(تأصيل الأصول)، ص104. وقد قرأنا لأدونيس، في مقالة سابقة، نصوصا يصرح فيها بأن الإسلام قد اغتال الشعر واللغة، وأن الشعر، بمجيء الإسلام، قد مات، ولم يبعث من موته إلا على يد الشعراء اللادينيين في العصر العباسي.
[3] عجيب أمر هذه المختارات الشعرية الأدونيسية، لأني أجدها بين يديّ، في كثير من الأحيان، مفتاحا لنقض كثير من المقولات النظرية في الحداثية الأدونيسية. فهي تسعف الباحث بالأمثلة الشعرية الكثيرة، التي تكذب كثيرا من الافتراضات النقدية النظرية، كما تسعفنا بالدليل القوي على نسبية الأحكام في نقد الشعر، وفهمه وتذوقه، وعلى أن العبرة في هذه الأحكام، إنما هي، أساسا، بالمشاعر الذاتية، والانطباعات العاطفية، والذوق المدرب، وليست بالأفكار الإيديولوجية، والفلسفات التجريدية.
[4] ديوان الشعر العربي، مختارات أدونيس: 2/195.
[5] نفسه: 2/163.
[6] نفسه: 2/164.
[7] نفسه: 2/165.
[8] نفسه: 2/105.
[9] نفسه: 2/167.
[10] من الأبيات التي لم يثبتها أدونيس، والتي تلي البيت الأول في مثالنا:
أحدث لربك توبة


فسبيلها لك ممكن

واصرفْ هواك لخوفـــه


مما تسر وتعلن

(ديوان أبي العتاهية، ص226.)
[11] الثابت والمتحول،(صدمة الحداثة)، ص235.
[12] نفسه.
[13] نفسه.
[14] نفسه.
[15] نفسه، ص235،236. وانظر أيضا ما قاله في: كتاب "نظرة أورفي"(بالفرنسية)، ص150و162، وكتاب "العنف والإسلام"(بالفرنسية)، ص141.
[16] نفسه، ص236.

الأحد، 25 ديسمبر 2016

سيناريو "الديبلوكاج"

بسم الله الرحمن الرحيم

سيناريو "الديبلوكاج"

أفادت قصاصة إخبارية لوكالة المغرب العربي للأنباء أن مستشارَي الملك السيدين عبد اللطيف المنوني وعمر القباج، بتعليمات سامية من الملك، قد التقيا يوم السبت24 دجنبر رئيس الحكومة المعين السيد بنكيران، في مقر رئاسة الحكومة، وأبلغاه، خلال هذا اللقاء، ما مضمونه أن الملك مهتم بأن يرى الحكومة تخرج إلى النور في أقرب الآجال.
هذه المعلومة، التي لا تفيد، في تقديري، شيئا ذال بال في شأن موضوع تشكيل الحكومة الجديدة، حوَّلها "الفلاسفة المخزنيون" إلى خبر كبير ومهم يحتاج إلى العقول الكبيرة والخبرات الواسعة لتحليله واكتشاف مضامينه العميقة، واستخراج درره النفيسة! بل إن كتابا وصحافيين ومحللين محسوبين على معسكر السيد رئيس الحكومة المعين، وجدناهم يوظفون جهودا كبيرة للتعليق على الخبر، وتفسير ما ينطوي عليه من رسائل، واستنتاج ما يوحي به من إيجابيات في اتجاه رفع البلوكاج، وفتح الطريق أمام السيد بنكيران لتشكيل أغلبيته.
ورأيي فيما يخص خبر التقاء مستشارَي الملك بالسيد بنكيران، وتعليقي عليه أوجزه فيما يلي:
أولا، أكرّر أن الخبر في حد ذاته، وكما خرج من الديوان الملك، ونشرته قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء، ليس فيه شيء يستحق من أجله كلَّ هذه الهالة التي أحاطه بها بعضُ الكتاب والمعلقين والمحللين. بل، في أحسن الأحوال، هو خبرٌ لا يخرج عن نمط الأخبار المخزنية، التي يلفها دائما كثيرٌ من الغموض، والتي يكون القصد من ورائها، في أحيان كثيرة، جسّ النبض، ومعرفة مستوى ردود الأفعال التي يمكن أن يولدها لدى الرأي العام، ولدى مختلف مكونات المجتمع. وقد يكون الصدى الإعلامي الواسعُ التي تخلفه مقصدا من وراء هذه الأخبار، وإن كانت لا تحمل مضامينَ أو معلومات أو كشوفات تناسب الهالة الإعلامية التي تنسج حولها. وهذه واحدة من طبائع مخزننا السياسي: التهويل، والتقديس، والتغميض، من أجل شيء لا يساوي شيئا.
الخبرُ، كما وصلنا من طريق الإعلام، لا يقول لنا شيئا عن التفصيلات التي تم التطرق إليها في أثناء اجتماع السيد بنكيران بمستشارَي الملك. ولن يقتنع أحدٌ بأن ما دار من حديث بين مستشارَي الملك وبين السيد رئيس الحكومة المعين هو بالضبط والتحديد ما تم نشره، أي أن المبعوثَيْن نقلا للسيد بنكيران أن الملك حريص أن ترى الحكومةُ الجديدة النورَ في أقرب الآجال.
انشغال الملك بتأخر ولادة الحكومة يمكن التعبير عنه في اتصال هاتفي قصير، مثلا، أو بإرسال الملك لأحد مستشاريه ليتكلم مع السيد بنكيران في لقاء غير رسمي. أما أن يكون هناك لقاء رسمي بين مبعوثَي القصر والسيد بنكيران، وأن يخرج خبر هذا اللقاء من الديوان الملكي، وأن يتم نشر هذا الخبر في قصاصة عبر الوكالة الرسمية للأنباء، فإن هذا كله يقول لنا شيئا آخر، وهو أن القصر حرص أن يعطي لهذا اللقاء طابعا رسميا، لأنه يعلم أنه لقاء له ما بعده، أي أنه سيكون اللقاء/المفتاح الذي سيتبعه حل لغز البلوكاج الذي دام زهاء ثلاثة أشهر.
ثانيا، أعتقد أن المخزن بهذا "البلوكاج"، الذي لم يكن منتظرا، ولا محسوبا له أي حساب، وجد نفسه في حرج، وخاصة بعد ما أساله هذا الموضوعُ من مداد، حتى بات الرأي العام ينتظر معرفة موقف القصر للخروج من هذا المأزق السياسي.
وفي رأيي دائما، فإنه نظرا لهذا الحرج الذي لم يكن منتظرا، ونظرا لأن اللاعبين الأساسيين في هذه القضية لا يستطيعون أن يتحركوا، في هذا الاتجاه أو ذاك، إلا على ضوء ما يمكن أن يأتيهم من إشارات من فوق، فإن الملك قد بادر إلى إرسال مبعوثَيه إلى السيد بنكيران، في إشارة إلى قرب انتهاء حالة البلوكاج، لأن هذه المبادرة من الملك، في اعتقادي، هي بمثابة الضوء الأخضر لكل المشاركين في اللعبة المخزنية بضرورة وضع حد لهذا الوضع الاستثنائي الطارئ الذي دام أكثر من اللازم، والذي يمكن أن يخلف أضرارا غير محمودة إن بقي مستمرا.
في التخطيط المخزني الاستراتيجي، لا بد أن ينتهي هذا "البلوكاج" بربح خالص للقصر، وبزيادة معتبرة في رصيده الشعبي والسياسي، حتى تقولَ الأبواق المخزنية للناس-وهي أبواق كثيرة ومتنوعة-إنه لولا الملك لما أمكن إيجاد مخرج للمأزق الذي دخلت فيه حياتنا السياسية من جراء تصرفات الأحزاب السياسية، التي لم تكن في مستوى المسؤولية، والتي لم ترق إلى الأفق العالي الذي دعاها إليه الملك في أكثر من خطاب. سيقولون ويروجون، لا يكلّون ولا يملّون، أنه بفضل الملك، وبفضل حكمته ورجاحة سياسته، استطاع المغرب أن يتخطى مرحلة كادت أن تعرقل مسيرته الديمقراطية المتميزة، واستطاعت حياتنا السياسية أن تسترجع عافيتها واستقرارها بعد أن كادت أن تعصف بها ممارسات أحزابنا اللامسؤولة، التي ظلت تتقاتل من أجل مصالحها الذاتية الضيقة، وأهملت وراء ظهرها المصلحة العامة للأمة...إلى آخر ما ستقوله الأبواق المخزنية، الأصيلة والهجينة، الوفية المخلصة والمستأجرة المسترزقة، في تمجيد التدخل الملكي ورفعه إلى مستوى الإنجازات التاريخية، والحط من الأحزاب والطعن على تصرفاتها السياسية غير المسؤولة.
حينما أتأمل فيما ما يجري اليوم، أتصور المشهد، قبل انتخابات السابع أكتوبر وبعدها، على الصورة التالية:
كان للمخزن رؤية وتخطيط وأهداف من وراء انتخابات 7 أكتوبر. وكان المطلوب في الخطة(أ) هو العمل من أجل ألا تكون لحزب العدالة والتنمية الصدارة في الانتخابات، ليرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل عواصف الربيع العربي. وقد وُظفت كل الوسائل من أجل إبعاد حزب السيد بنكيران عن الفوز بالصف الأول، لكن النتائج جاءت مخالفة للمطلوب المخزني، فتهيأ الجميعُ للانتقال إلى الخطة(ب)، التي لم تكن مدروسة بشكل جيد، لأنهم ربما كانوا يقدرون في اطمئنان أن حزب العدالة والتنمية لن يحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات.
وربما كان الرهان على أن البلوكاج لن يدوم طويلا قبل أن يرجع رئيسُ الحكومة المعين إلى الملك، ليعترف بفشله في تجميع الأغلبية المطلوبة، ويطلب إعفاءه. ربما لم يكونوا يتوقعون أن البلوكاج سيتخذ هذا المنحى السياسي التصاعدي، وأنه سيشغل الرأي العام طيلة ما يقارب ثلاثة أشهر، كما لم يكونوا-ربما-يتوقعون أن السيد بنكيران سيتشبث بموقفه، وسيمتنع عن اللجوء إلى الملك للاعتراف بفشله.
المهم-في تقديري دائما-أن خطتهم الثانية انتهت إلى الفشل، فكان لا بد من حلّ، طبعا على الطريقة المخزنية، التي يأخذ فيها المخزنُ كل شيء، ولا يكاد يترك للآخرين إلا الفتات.
فبعد أخذ ورد، وبعد تفكير وحساب، ظهر لهم اللجوءُ إلى السيناريو الجديد، الذي يقضي-حسب تصوري دائما-أولا، بإخبار الرأي العام أن الملك أرسل مستشارَيه لإبلاغ رئيس الحكومة المعين أن الملك حريص على تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب الآجال. وستتبع هذا الإخبارَ، ثانيا، موجة من التعليقات والتحليلات والتكهنات، تجعلُ مبادرةَ الملك بإرسال مبعوثَيه إلى السيد بنكيران في قلب الحدث السياسي، وتبني عليها ما سيكون من تغيّر وتعديل وتزحزح في مواقف الأحزاب المعنية مباشرة بالبلوكاج، لينتهيَ السيناريو، ثالثا، إلى استئناف المشاورات والمفاوضات، ثم الإعلان، سريعا، عن ميلاد الحكومة.
وقد قرأت في الأخبار أن السيد بنكيران، بعد لقائه بمستشارَي الملك، اتصل بالسيد أخنوش، وحدد معه موعدا للالتقاء به يوم الاثنين أو الثلاثاء المقبل (26 أو27دجنبر2016).
هل وصلت للسيد بنكيران تعليماتٌ محددة من الملك، من طريق مستشارَيه؟ هل فهم السيد بنكيران، من لقائه بمبعوثَي الملك، ما يجب أن يفهمه أمثالُه من خدام الدولة المخزنية، فبادر إلى الاتصال بالسيد أخنوش، لبدء إجراءات "الديبلوكاج"؟ هل أُعطيت للسيد أخنوش إشارة الضوء الأخضر، ليُسهّل، ويُرطّب، ويُسلّك؟
ربما لن يمر وقت طويلٌ حتى نقرأ الإجابة الصحيحة على هذه التساؤلات وأشباهها.
لكن المؤكد، في رأيي وتقديري، أن النظام المخزني سيكون الرابح من كل هذه الشعوذة التي طبعت حياتنا السياسية طيلة الأشهر الثلاثة الماضية. أما الخاسر الأكبر هو الأمة، على مستوى أحلامها وأمانيها وتطلعاتها، لأن هذه الشعوذة التي طبعت حياتنا السياسية أكدت أننا في نظام سياسي بينه وبين الديمقراطية الحقيقية-على الأقل الديمقراطية التي يكون فيها لصوت الناس حساب، ولاختيارهم احترام، ولممثليهم تقدير واعتبار-ما بين السماء والأرض.
والخاسر الثاني، بعد الأمة جمعاء، هو السيد بنكيران، الذي سيظهر بعد "الديبلوكاج" في مظهر المسكين الذليل، الذي لا يملك إلا أن يسمع ويطيع، ولو كان ذلك على حساب القيم والمبادئ.
سيقوم الموالون للسيد بنكيران، بعد "الديبلوكاج"-وفق السيناريو الذي أتصوره-بمدح صموده ومواقفه، والاحتيال من أجل تفسير اختياره النهائي وتبريره، لكن كل ذلك لن يغطي على الحقيقة الساطعة، وهي أن السيد بنكيران، ووراءه حزب العدالة والتنمية، قد خضع في الأخير، وانحنى أمام إرادة الدولة المخزنية.
وبعد، فإني أتمنى ألا يجد سيناريو "الديبلوكاج"، الذي تصورته ووصفته في هذه المقالة، طريقه إلى التحقق في الواقع، كما أتمنى أن يجد السيد بنكيران وأصحابه من أنفسهم القوة والشجاعة اللازمتين، ليدافعوا عن مبادئهم، ويرفضوا الخضوع والخنوع والتسليم، وذلك، عندي، أضعف الإيمان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.