الخميس، 24 نوفمبر 2016

الإلحادُ أول شكلٍ للحداثة!!

بسم الله الرحمن الرحيم

الإلحاد "أول شكل للحداثة"!!


المُسلَّمةُ الأدونيسية

يتشابك الفكري الفلسفي والعقدي بالأدبي الشعري في كتابات أدونيس، وخاصة تلك الكتابات التي عُني فيها بالتنظير للحداثة الشعرية العربية. ويصل هذا التشابك أوْجَهُ حينما يستنتج أدونيس، في أثناء بحثه في الأصول التاريخية للحداثة العربية، أن الإلحاد، في التاريخ العربي الإسلامي، كان "أول شكل للحداثة"[1]، لأنه-أي الإلحاد -دائما حسب زعم أدونيس في استنتاجاته، "يحل العقل محل الوحي، والإنسان محل الله…"[2]. "ويعني ذلك أن الإنسان قادر أن يفهم الكون وأن يسيطر على الطبيعة وعلى مصيره اعتمادا على العقل، ودون حاجة إلى الوحي. وبما أن هذه القدرة مقيدة، تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، بسلطة الوحي الزمنية والدينية، فإن الخطوة الأولى، في تحرير الإنسان، كما يرى الإلحاد، هي في تحريره من الدين."[3]
"فتجاوزُ الوحي هو إذن تجاوزٌ لإنسان الوحي، أي تجاوز اللاإنسان إلى الإنسان الحقيقي، إنسانِ العقل…المقدسُ، بالنسبة إلى الإلحاد، هو الإنسان نفسه، ولا شيء أعظم من هذا الإنسان."[4]
والملاحظ أن أدونيس، في استنتاجاته هاته، لا يستند إلى أي مصدر مكتوب. فهو ينسب بعض الكلام الإلحادي، من غير إحالة على مصدر معين، إلى ابن الراوندي والرازي. أما سائر التفسيرات، والتأويلات، والتركيبات، والاستنتاجات والأحكام، التي يأتي بها في سياقات وعبارات توحي بالقطع والعلم الحتمي والواقع الذي لا يرقى إليه شك، إنما هي من عندياته، أي هي له. وبشيء من التأمل يمكننا القول بأن الأفكار والتصورات والأحكام، التي يسوقها أدونيس، في حديثه عن الإلحاد، إنما هي أفكاره هو، وتصوراته هو، وأحكامه هو، واقتناعاته هو.
وحتى عندما رجع أدونيس، في الجزء الثاني (تأصيل الأصول) من كتابه، إلى تفصيل ما أجمله في مقدمة الجزء الأول(الأصول)، فإن الأقوال التي سردها لابن الراوندي والرازي، هي، في معظمها، مستقاة من كتب خصومهما من المتكلمين، الذين ردّوا عليهما بنقض دعاويهما وأباطيلهما وزندقاتهما، وتفنيد مزاعمهما الكفرية. ثم إن هذه الأقوال والنصوص المنسوبة إليهما في المصادر المذكورة لا يؤدي ظاهرُها إلى هذه الأحكام والنظريات والاستنتاجات التي يقررها أدونيس.
فمعظم ما نقله أدونيس من نصوص منسوبة إلى ابن الرواندي والرازي، إنما هي، في أصلها، نصوص وشذرات، من هنا وهناك، وقعت في يد بعض المستشرقين، فسارعوا إلى نشرها في مجلاتهم، فقام الدكتور عبد الرحمن بدوي بترجمة بعضها، ونشرها في كتاب بعنوان "من تاريخ الإلحاد في الإسلام"؛ وهذا الكتاب اتخذه أدونيس مرجعا أساسا فيما ينسبه إلى ابن الراوندي والرازي من مقالات الإلحاد، فضلا عن منشورات المستشرقين التي اهتمت بكل ما له علاقة بالإلحاد في تاريخ الإسلام، ومنها، بصفة خاصة، منشورات المستشرق الألماني اليهودي (باول كراوس)(1904-1944)، الذي اشتهر بأبحاثه في كل ما يشكك في عقائد الإسلام، وفي نشر النصوص التي تتناول، من قريب أو بعيد، الإسلام بالطعن والجحد والتشكيك.
لكن هذه المقالات الواردة في كتاب بدوي عليها أكثر من علامة استفهام، في أصلها، وفي حقيقة ثبوت نسبتها إلى هذا أو ذاك من المتكلمين، وفي حقيقة روايتها، هل هي رواية باللفظ والحرف، كما نطق بها أصحابها، أم هي مروية بالمعنى والتصرف من الرواة والناقلين.
ومما يؤكد هذا الشك عندنا أن الدكتور عبد الرحمن بدوي نفسَه قال كلاما يُفهم منه، بكل وضوح، أنه لا يمكن الاطمئنان، كليا، إلى ما يورده في كتابه من مقالات منسوبة إلى الملحدين، في تاريخ الإسلام؛ ومن الأسباب التي ذكرها لعدم اطمئنانه، مثلا، إلى ما يذكره منسوبا إلى أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، "أن النصوص الأصلية تعوزنا، وكل ما لدينا عنه[أي الرازي]، في هذا الباب، إنما يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه، إما بنصها مبتورة من سياقها، وإما اختصارا وبالمعنى فحسب، فضلا عن ندرة هذه الآثار، مما لا يسمح بتكوين رأي صحيح وشامل"[5].
فصاحب المرجع الأساس الذي يعتمد أدونيس في الحديث عن الملحدين في تاريخ الإسلام يشهد بأن النصوص والروايات التي يوردها في كتابه لا تسمح بتكوين رأي صحيح وشامل، لكن أدونيس يسوق تلك الشذرات والنتف، التي عليها أكثر من علامة استفهام، على أنها حقائق ثابتة يجب التسليم بها، غير آبه بالتحذير والتحفظ الذي أبداه الدكتور بدوي، الذي كان يعرف أن الموضوع الذي يبحث فيه هو موضوع عظيم، لأنه يتعلق بعقائد الناس، وهو ما يفرض الحيطة والتحقق والتثبت، لا الاستخفاف والطيش والتسرع.
قال الدكتور بدوي، وهو يقدم لحديثه عن مذهب ابن زكريا الرازي: "سنحاول جهدنا أن نتبين ذلك المذهب من تلك الشذرات والروايات النادرة قدر المستطاع، على ما نبديه من تحفظ شديد فيما يتصل بصدقها تماما"[6].
فالأمر يتعلق بشذرات وروايات نادرة؛ وبصفته باحثا أمينا، فإنه يحاول معالجتها قدر المستطاع، مع تحفظه الشديد فيما يتصل بصدقها تماما، أي أنه ينطلق من كونها نصوصا ومقالات تحتمل الصدق وتحتمل الكذب؛ تحتمل أن تكون صادرة عمن نُسبت إليهم حقيقة، وتحتمل أن تكون منسوبة إليهم كذبا واختلاقا، أو سهوا وخطأ، وتحتمل غير ذلك.
هذا ما يقوله الباحث الموضوعي الأمين؛ أما أدونيس، فإنه يضرب بالأمانة والموضوعية والتحري والتثبت عُرْضَ الحائط، ويبتدر مناسبة وجودِ تلك الشذرات، والروايات النادرة، والنصوص المختلف في نسبتها، ليضخمها من عندياته وزياداته، مما يحفظه من مقالات الملحدين، ومنشورات المستشرقين المعادين للإسلام، ليقوِّلَ تلك الشذرات الناقصة، والروايات النادرة، ما لم تقُلْه، وليُحمِّلَها ما لا تحتمل، وليجعلها أساسا لبناء نظريات وتصورات هي، في حقيقتها، من صناعة أدونيس.
فإذا كانت المصادر التي ينقل عنها أدونيس قد نسبت إلى ابن الراوندي ذَرَّةً، مثلا، فإن أدونيس يصيّرها، بزياداته، وتحليلاته، وتأويلاته، وخلفياته، ومُبيّتاته، جَبَلاً شاهقا. وكذلك يفعل مع سائر مأثورات الملاحدة، ونتافات مقالات الكفار والزنادقة المحفوظة في بعض المصادر.
فأيُّ أسلوبٍ هو هذا الأسلوب؟ دارٌ خربة موحشة تعوي فيها الوحوش الضواري تتحول، بتشقيق الكلام، إلى قصر مشيد عامر بالأنس والحياة! !
ملاحدة معدودون على رؤوس الأصابع في تاريخ الأمة العربية الإسلامية، يصبحون، بقلم باحث حداثي لاديني، وبفعل المسلَّمة الأدونيسية: "الإلحاد أول شكل للحداثة"-يصبحون منارةً للحرية والقيم الإنسانية والعقلانية التحررية !![7]
فهو، مثلا، يقول، على سبيل التفسير والاستنتاج: "إن الخطوة الأولى في تحرير الإنسان، كما يرى الإلحاد، هي في تحريره من الدين."[8]
والملاحظ عليه في هذا القول أنه ينسب الرؤية إلى الإلحاد، "كما يرى الإلحاد" ! وابحث أنت عن هذا الإلحاد الرائي، من هو؟ فهو لم يُحل على مصدر، كيفما كانت قيمته التاريخية والعلمية، وكذلك لم يشر أي إشارة توضيحية، من أي نوع، توثق هذا الكلام. والراجح الذي يبقى بين أيدينا هو أن هذا الكلام عن الإلحاد، إنما هو، في أصله، كلام أدونيس نفسه.
ومثال آخر، من كلام أدونيس الذي يُحيل فيه على مجهول، قولُه-دائما في موضوع الإلحاد الذي يعده "أول شكل للحداثة"-: "إن منطق الإلحاد هنا يعني العودة إلى الإنسان في طبيعته الأصلية، وإلى الإيمان به من حيث هو إنسان. فما دام الإنسان تابعا للغيب، لا يمكنه، حسب هذا المنطق، أن يكون إنسانا."[9] فتأمل عبارة "منطق الإلحاد" !!
ومثال ثالث على هذه الأحكام والاستنتاجات قولُه: "إن نقد الوحي في مجتمع يقوم على الوحي، ليس، بحسب المنطق الإلحادي الشرط الأول لكل نقد وحسب، وإنما هو أيضا الشرط لكل تقدم."[10]
لاحظ، في هذا الكلام، النسبة إلى مجهول دائما: "حسب المنطق الإلحادي" !
ومثال رابع قولُه: "وإذا كان الإلحاد نهاية الوحي، فإنه بداية موت الله، أي بداية العدمية التي هي نفسها بداية لتجاوز العدمية. "افعل"، "لا تفعل"، حلت محلها: "أَعْقل"، و"أُريد". فلا أمر ولا نهي مسبقان: العقل وحده يأمر وينهى."[11]
ومثال خامس قولُه: "الدولة التي تقوم على أساس ديني، هي، بالضرورة، كما يرى الإلحاد، دولة غير عادلة، لأنها لا تقدر أن تنظر إلى مواطنيها المختلفي الأديان، أو المتفاوتين في إيمانهم، نظرة واحدة، ولا بد من أن تفضل بعضهم على بعض. ومثل هذه الدولة من وجهة النظر الإلحادية فاسدة، أصلا."[12]
دائما، الإلحاد هو الذي يرى. وتأمل، أيضا، قوله: "من وجهة النظر الإلحادية" !!
ولكي أتجنب وصف تحليلي هذا بالتحامل أو المبالغة، فإنني أرى من المناسب أن أذكّر بأن الكلام الذي ساقه أدونيس عن الإلحاد ومنطقِه ووجهةِ نظره-أيْ منطق الإلحاد ووجهة نظر الإلحاد-وما رتب عليه من أحكام تطعن في صميم الدين، بل تلغي الوحي، وتحل العقل محل الله-هذا الكلامُ الذي ساقه أدونيس إنما بناه على أفكار نسبها إلى ابن الراوندي والرازي في مناقشتهما للوحي[وهي أفكار، كما أشرت قبل قليل، منثورة في بعض المصادر، لا تشكل، في تفرقها وندرتها واختلاف المصادر في نسبتها، نظرية متكاملة، ولا رؤية صافية؛ هذا علاوة على كونها، في غالبيتها، نصوصا وروايات وشذرات، قام على تجميعها ونشرها وترويجها، في الأساس، مستشرقون عرفوا بحقدهم وكراهيتهم للإسلام] من غير ذكر المصدر الذي يستقي منه، ولا ذكر أية إشارة تصدّق أن الأفكار التي يبني عليها أدونيس هي، بالفعل، لابن الراوندي والرازي. وهذا نص كلام أدونيس:
"وقد انطلق ابن الراوندي والرازي في مناقشتهما للوحي من القول: إما أن الوحي موافق للعقل، وإما أنه مخالف. فإن كان موافقا، فإن العقل يغني عنه ولا يحتاج إليه الإنسان، أما إن كان مخالفا فذلك يعني أنه لا تنقذ الإنسان إلا قوة تناقض الإنسان. فكأن الإنسان موجود خارج نفسه، وهذا مما يكذبه العقل. فالوحي في الحالتين، إما أنه نافل وإما أنه باطل."[13]
هذا هو أصل الكلام الذي يظهر أن أدونيس ينسب قوله إلى ابن الراوندي والرازي. وأقول "يظهر"، لأن أدونيس لم يبين إن كان ينقل بالحرف أو بالمعنى، وإن كان قد تصرف في المقول أم لا، لأنه لم يشر أية إشارة إلى المصدر الذي ينقل عنه. وهذا الفعل أقلُّ ما يقال فيه أنه عمل لا علاقة له بالبحث العلمي الرصين، وقواعد الوضوح والتوثيق والإنصاف، التي هي العماد الذي يفترض أن يقوم عليه عمل يقدم نفسه أنه أطروحة أكاديمية في البحث الأدبي.
فأدونيس يجري في كلامه، طولا وعرضا، يُنظِّر للإلحاد، مبادئِه وأصوله ومطالبه ورؤاه، من غير إحالة على نصوص واضحة ومصادر معلومة. ولعله يفعل ذلك انطلاقا من تصورات ذاتية أو منقولة عن فلسفات إلحادية معاصرة كانت بدأت تروج في البلاد العربية الإسلامية، مع انتشار التيار الماركسي الإلحادي وغيرِه من التيارات الوجودية والعقلانية الملحدة.
وهو إذ ينقل ذلك، ولا يستند إلى نصوص أو وقائع أو شهادات ثابتة أو، على الأقل، ترجع إلى مصادر معلومة، إنما ينقض أساسا من الأسس التي زعم أنه يبني منهجه في البحث عليها، وهو أساس بناء الأحكام والاستنتاجات على الوثائق والنصوص والوقائع. فما معنى الإكثارِ من ذكر الرازي وابن الراوندي، ونسبةِ الأفكار إليهما، والحالُ أنه لا يورد لهما شيئا من المكتوب أو المروي رواية موثقة ومعدّلة؟
فنحن أمام مقول منسوب إلى ابن الراوندي والرازي، يمتاز بأنه غير محدد، فضلا عن رجوع المؤلف، فيما ينسبه إليهما من مقالات إلحادية، إلى منشورات لا يُعتدّ بها في بحث علمي موضوعي، لأنها منشورات مطعون في أصالتها وصحة نسبتها، قام على ترويجها جهاتٌ مطعون في أمانتها ومصداقيتها. بل إننا نجد أدونيس، في هذا السياق نفسه، وبناء على الكلام المجهول المصدر الذي بنى عليه أحكامه واستنتاجاته، يشير أكثر من مرة إلى ابن الراوندي والرازي، موهما بأن الأفكار التي يثبتها إنما هي لهما، كقوله مثلا: "إذا كان الإلحاد جوهر ما يؤدي إليه تفكير الرازي وابن الراوندي، بإلحاحهما على تحرير الإنسان من الوحي وسلطته، فإن التاريخ يبطل، تبعا لذلك، أن يكون تجليا لإرادة الله، كذلك تبطل الدولة المتمثلة في سلطة الخلافة أن تكون، هي أيضا، تجليا أو تجسيدا لهذه الإرادة…"[14]
فأدونيس يتحدث في هذا الكلام عن إلحاح الرازي وابن الراوندي على تحرير الإنسان من الوحي، لكنه لم يذكر لنا عبارة واحدة نقرأ فيها هذا الإلحاح من الرجلين.
ودائما بالاعتماد على الرازي وابن الراوندي، على الاسم فقط من غير توثيق ولا إشارة إلى مرجع، يقول أدونيس: "كان الله-الغيب محورا للتأمل، قبل الرازي وابن الراوندي، وبفضلهما أصبح الإنسان-العقل هو المحور الجديد للتأمل. وكان ذلك خطوة أساسية في توكيد فاعلية الإنسان وحريته، أي في توكيد قدرته على أن يكون سيد مصيره، قادرا أن يفعل، بحريته وعقله، كل شيء…
"وفيما كان الإنسان يبدو أنه تحقق زمني عارض لجوهر قبلي ثابت أصبح من الممكن، بدءاً من الرازي وابن الراوندي، أن ينظر إليه على أنه تحول مستمر من الأقل كمالا إلى الأكثر كمالا، ومن الجبرية إلى الحرية. ولم يعد الكمال نقطة ثابتة تحققت مرة واحدة وإلى الأبد، وإنما أصبح الكمال نقطة لا يمكن بلوغها نهائيا، لأن الإنسان هو هذه الحركة اللانهائية في اتجاه التقدم، أي في اتجاه ما ينتهي…"[15]
إلى أن يقول، دائما بالإحالة على الرازي وابن الراوندي من غير إشارة إلى أي مصدر من المصادر: "هكذا يقدم الرازي وابن الراوندي أساسا عقليا جديدا للحركات الثورية التحررية، ولكل حركة تحررية، على صعيدي النظر والعمل. كان فكرهما تأسيسا نظريا للحرية، ولهذا كان تمهيدا لتأسيسها عمليا في الثورة."[16]
ويستطرد أدونيس إلى أن يقول في آخر الفقرة: "ومن هنا يذكر موقف الرازي وابن الراوندي بما يقوله (برودون)[17]، من أن الإنسان وجد ليحيا بلا دين، أي بلا فكرة جاهزة مسبقة، مطلقة أو غير مطلقة." [18]
وكلام أدونيس هذا يوهم القارئ بأن الأمر يتعلق باستنتاج مبني على ما سبقه، وبأن هذا الذي سبقه إنما هو، فعلا وحقيقة، موقف الرازي وابن الراوندي، وليس تحليل أدونيس وموقفه ورأيه.
ثم يقول، وكأنه يلخص لنا ما يزعم أنه موقف ابن الراوندي والرازي؛ فهو موقف "لا يصدر عن مجرد نظرية في الإلحاد، وإنما يصدر عن نظرية في الإنسان...الإنسانُ، لا الله، هو مركز الكون."[19]
إن مثل هذا القول العظيم-طبعا في ميزان عقائد الإسلام-لا يخلو إما أنه قولٌ لابن الراوندي أو قولٌ للرازي أو قولٌ لهما حقيقة ولفظا، كما يزعم أدونيس، لأنه، في إشاراته إليهما لا يفتأ يذكرهما مجتمعين، وإما أنه قول أدونيس، لأنه لا تصرف، ولا اجتهاد، ولا تأويل، في عبارات الكفر والإلحاد والزندقة، لأن الأمر، باختصار، هو أمر عقيدة أمة، وليس أمر خيالات فلسفية يباح لأي كان أن يعبث فيها بأوهامه وأحلامه وأهوائه.
وإن نحن أخذنا بأبعد الافتراضات وأضعفِها، في رأيي، وزعمنا أن هذه الأفكار هي، بالفعل، للرازي وابن الراوندي، تُثبِت نسبتَها إليهما مظان معروفة، ومصادر معلومة، وكتابات موثوقة، فإن موقف الباحث منها لا يخرج عن حالة من حالات ثلاث: إما الانتصار لها بالرضا والموافقة، أو ردّها بالنقد والمعارضة، أو حكايتها بصيغة الحياد الذي لا هو مع ولا هو ضد.
أما نص كلام أدونيس، الذي نحن بصدده، فإن السياق فيه والعبارة معا ليؤكدان أن الرجل مع تلك الأفكار مائة في المائة. ويكفي أنه جعل الإلحادَ أولَ شكل للحداثة، ونسب إليه فعلَ الثورة والتهديم "ثورة تهدف إلى أن تهدم سلطة يمارسها الإنسان، باسم الوحي، على الإنسان، أو يمارسها، باسم الغيب، على الواقع. إنه[أي الإلحاد] تهديم للشريعة وتجسداتها الاجتماعية – السياسية…"[20]

ما علاقة الحداثة والإبداع بالزندقة والإلحاد؟

وبعد هذا نسأل: ما علاقة الإبداع والحداثة، في الفكر عامة والأدب خاصة، بالتجديف والكفر والزندقة؟
فإذا كانت الحداثة قيمة إيجابية، فأين هو الإيجابي في الإلحاد، والتطاول على ذات الله، سبحانه، وتقدست أسماؤه، والوقوع في حرمات الدين ومقدسات المسلمين؟
أين هي هذه القيمة الإيجابية في عمل إنسان يكفر بالله ورسله وباليوم الآخر، يكدح في الحياة، شعاره شعار الدهريين، في كل زمان ومكان، حسب ما يحكيه القرآن الكريم من قولهم: ]ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.[[21]
أين هي القيمة الجمالية، أو القيمة الشعرية، أو القيمة الإبداعية، أو القيمة الحداثية، في قولنا: "فلان كافر"؟ لا شيء، وإنما هو الكفر، أو قل هو الإلحاد، أو قل هو الزندقة، أو قل غير ذلك من العبارات، فإنه لا يغير من الحقيقة شيئا.
فلماذا إذن جعل الإلحاد أول أشكال الحداثة؟ لماذا العناية بالكفار والزنادقة والملحدين، في تاريخ الإسلام، إلى هذه الدرجة؟
أما القول بأن الإلحاد حرر الإنسان من الغيب، وجعل الإنسان-العقل هو القطب الذي عليه المدار…إلى آخر دعاوي الملحدين وتعليلاتهم، فإنه ينم عن جهل مطلق بالإسلام وعقائده وخصائصه وغاياته. وبعبارة أخرى، إن مقالات الملحدين المجادلة في دين الله تنم عن بعد عميق عن رحمة الله التي وسعت كل شيء، عن رحمة الله المهداة للعالمين.
العقل! ومتى قصر الإسلام في حق العقل والعاقلين؟ لكن الملحدين كانوا، دائما، عن آيات الله معرضين، لا يقرأون القرآن إلا للمراء والطعن والتجريح، وتلفيق شبهات الزندقة والتأويلات الفاسدة.
ثم من يكون، مثلا، ابن الراوندي[22]والرازي[23]، هذين اللذين رفعهما أدونيس وأمثاله إلى قمة الحداثة والعقلانية والثورة والتحرير؟
هما رجلان مذكوران في زمرة فلاسفة الزندقة والإلحاد، مرتبان في أسفل الدرجات، لم تُذكر لهما ولو مزية واحدة، ولو صفة إيجابية واحدة[24]، حتى جاء أدونيس ومن هم على شاكلته، فكذبوا أمة كاملة، وتنكروا لتاريخ طويل، بأصوله ومعتقداته وتراثه، ورفعوا الإلحاد إلى درجة العمل الإبداعي الحداثي الإيجابي الثوري المحرِّرِ مِنْ عبادة الله، والإخبات لله، والإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته وباليوم الآخر.
أما الرازي(محمد بن زكريا)، فهو رجل "أخذ من كل دين شر ما فيه…فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم."[25]
ومما يروى من سخافاته الفلسفية أنه سئل عن العلة في إحداث العالم، فقال: "إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم، وحركتها الشهوة لذلك، ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه، فاضطربت، وحركت الهيولى حركات مشوشة مضطربة على غير نظام، وعجزت عما أرادت، فأعانها الباري على إحداث هذا العالم، وحملها على النظام والاعتدال. وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها، وسكن اضطرابها، وزالت شهوتها، واستراحت. فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها.
"قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم. ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم."[26]
ثم يعلق ابن القيم على هذا الكلام السفساف بقوله: "ولولا أن الله، سبحانه، يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل، لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا…فأي ضلال، وأي خذلان أعجب ممن يفني عمره في النظر والبحث، وهذا غاية علمه بالله، عز وجل، وبالمبدأ والمعاد!!"[27]
الأمة أجمعت[28]، بإيمانها بالوحي، على أن الكفر قبح صراح. وجاء في آخر الزمان مفكرٌ ناقضا وهادما وثائرا ومحررا ومبتدعا، فقال: لا، إنما الكفرُ جمالٌ في قمة الإبداع.
هذه هي باختصار قصة أدونيس مع كل أشكال الإلحاد والزندقة والضلال والإجرام، في التاريخ العربي الإسلامي.
هذه المسلمة الإلحادية ملكت على أدونيس نفسه، فراح يقرأ في التراث العربي الإسلامي على ضوئها، مفتشا عن أمثلة مناسبة لتصديق مسلَّمته، فوجد نفسه مدفوعا إلى تبني الروايات الشاذة، والأخبار المشكوك في صحتها، والذهاب في التعسف في الفهم والتأويل كل مذهب، إلى درجة أجاز فيها لنفسه أن يحكم على سرائر الناس المطوية في قلوبهم، وأن يحكم على شعراء مسلمين-مهما كانت ملاحظاتنا على تجليات هذا الإسلام في سلوكهم وأشعارهم- بأنهم كانوا ملاحدة، وبأن إبداعهم الشعري لم يأتهم إلا من كونهم كانوا لادينيين؛ وهذا الحكم الظالم، الذي لا يستند إلى أي دليل، يشمل، عند أدونيس، كبار شعر العربية المبدعين، كأبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري.
وكذلك فعل مع الحركة الصوفية في تاريخنا الإسلامي، حيث اعتبرها-في حكم جازم قاطع ظالم-حركة معادية للإسلام، وسلك أعلامها، من غير استثناء، في الملحدين، في خروج فاضح على قواعد البحث الموضوعي المنصف، وانتهاك سافر لأمانة البحث في نقل الوقائع ورواية الأخبار.
وللحديث تتمة في المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش

[1] الثابت والمتحول،(الأصول)، ص90.
[2] نفسه، ص89.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
[5] من تاريخ الإلحاد في الإسلام، عبد الرحمن بدوي، ص165.
[6] نفسه.
[7] اقرأ أمثلة على هذا الأسلوب السحري العجيب فيما أجمله في المقدمة من الجزء الأول(الأصول)، بدءاً من ص88، وفيما فصله في الجزء الثاني (تأصيل الأصول)، ص73 وما بعدها.
[8] نفسه، ص89.
[9] نفسه.
[10] نفسه، ص90.
[11] نفسه.
[12] نفسه.
[13] نفسه، ص88 ـ 89.
[14] نفسه، ص92.
[15] نفسه، ص91.
[16] نفسه، ص91 ـ 92.
[17] بيير جوزيف برودون، فيلسوف فرنسي(1809-1865).
[18] نفسه، ص92.
[19] نفسه.
[20] نفسه، ص89.
[21] من الآية24 من سورة الجاثية.
[22] هو أبو الحسين أحمد بن يحيى بن محمد بن إسحق الريوندي، أو الروندي، أو الراوندي، حسب الروايات المختلفة. رُوي أنه مات سنة ثمان وتسعين ومائتين(298هـ). راجع سيرته وأخباره وأفكاره وأخبار المصادر التي ترجمت له في "تاريخ ابن الريوندي الملحد"، للدكتور عبد الأمير الأعسم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1395هـ، 1975م.
[23] هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي(251-313)، على اختلاف المصادر في سنة وفاته؛ اشتهر بأنه كان عالما ماهرا في الطب والكيمياء، أما اشتغاله بالفلسفة، فقد جر عليه انتقادات كثيرة، حتى أن بعضهم وصف تعاطيه للفلسفة بأنه كان اشتغالا بما لا يعنيه.
[24] لا بد من التذكير هنا بأن أبا بكر الرازي اشتهر بالطب والكيمياء، وكان مبدعا ومتقنا وبارعا في ميدانه، تشهد له بذلك مؤلفاته المتميزة في الباب، فضلا عن شهادة القدماء له بالسبق والتميز في صناعته واختصاصه؛ أما الفلسفة وتبني مقالات الملحدين والزنادقة، فلا نجد فضلا منسوبا له في هذا الشأن. وشهرة نسبته إلى الإلحاد، إنما ظهرت وراجت مع دراسات المستشرقين، ومنشوراتهم التي أولت اهتماما كبيرا وحماسا منقطع النظير للأخبار والروايات والأعلام والمخطوطات، التي لها علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالطعن على الإسلام والتشكيك في معتقداته والتطاول على مقدساته.
[25] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام ابن قيم الجوزية، الجزء2، ص264.
[26] نفسه.
[27] نفسه. اقرأ في هذا الجزء من الكتاب فصولا في حكاية بعض مقالات طوائف الفلاسفة الزنادقة الملحدين وترّهاتهم وسخافاتهم، وتبيان كيد الشيطان وتلاعبه بهم، ص261 وما بعدها.
[28] قالوا في ابن الراوندي، مثلا: أحد مشاهير الزنادقة ومعتمد الملاحدة، كان أولا من متكلمي المعتزلة، ثم تزندق واشتهر بالإلحاد.(راجع عن بعض هذه الأقوال وأصحابها ومصادرها، "الأعلام"، للزّركلي: 1/267.)
ومما قاله فيه الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "…صاحب التصانيف في الحطّ على الملة. وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم."(ج14/ص59)
وقال عنه ابن الجوزي في المنتظم(ج6/ص99): "كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب…"
ويقول ابن الجوزي، في نفس المصدر السابق، عن كتاب "الزمرذة" المنسوب إلى ابن الراوندي: "فيه هذيان بارد لا يتعلق بشبهة. يقول فيه: إن كلام أكثم بن صيفي[أكثم بن صَيفي ابن رياح بن الحارث التميمي، أحد حكماء العرب في الجاهلية] فيه ما هو أحسن من سورة الكوثر…"
ومن الأقوال الإلحادية المنسوبة إليه وصفُ القرآن بأن فيه لحنا، وقال: إن كانوا يقولون: لا أحد يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، فهذا إقليدس[من مؤسسي علم الهندسة، وهو من الفلاسفة الرياضيين] لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وكذلك بطْلَيْموس[فلكي ورياضي مشهور].(عن "سير أعلام النبلاء"، للحافظ الذهبي: 14/61.)
قال الحافظ الذهبي في آخر ترجمته لابن الراوندي: "لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى."(نفسه)

الأحد، 20 نوفمبر 2016

قراءةٌ سياسيّة بمنظار آخر

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءةٌ سياسية بمنظار آخر

(1)

إن الشعوذة السياسية الحاصلةَ عندنا بعد انتخابات 7 أكتوبر إنما هي، في رأيي، أعراضٌ لداء الاستبداد العضال الذي ينخر فينا منذ قرون.
الأطراف المشاركة في هذه الشعبذة/المهزلة(الشعوذة والشعبذة، في اللغة، بمعنى واحد) يمكن أن تقولَ كل شيء، إلا أن تعترفَ بأن ما نحن فيه مِن المهازل إنما أصلُه وفصلُه هو الاستبداد المتمثل في النظام المخزني السائد الحاكم بيد من حديد، وبشرعية مصنوعة بدستور ممنوح، وبيعة ليس للناس فيها رأيٌ ولا اختيار، وإنما هي قائمة، في روحها، على الطاعة والخضوع والتوقيع على العقد بلا نقاش.
المشاركون في هذا التهريج الحاصل اليوم في ساحتنا السياسية باسم الممارسة الديمقراطية-والديمقراطيةُ براءٌ من هذا التهريج وأصحابه والمؤطرين له من وراء الستار-يمكن أن يناقشوا أي شيء، إلا أن يقتربوا من حمى القصر ومقدساته، مع أنهم يعرفون، بنص الدستور الممنوح، وبممارسات الدستور العرفي، أن الملك هو الذي يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، وأنه لا سلطة فوق سلطانه، وأنه يجمع في يديه مفاتيح كل القرارات والسياسات الاستراتيجية، لكنه لا يحاسب ولا يراجع ولا ينتقَد.
ومن المشاركين في هذا المسرحية الهزلية الرديئة منابرُ صحفية، منها ما ينتسب للإعلام المستقل، تنشر مقالات وتحليلات وآراء يحاول فيها أصحابُها مناقشةَ السيناريوهات الممكنة لحل هذا الإشكال المتعلق بتكوين الحكومة. ومنها آراء يوصف أصحابها بأنهم خبراء وأستاذة في "القانون الدستوري"، تتناول القضية وكأننا نعيش في بُحبوحة من الديمقراطية لا مزيد عليها؛ وكأن الأحزاب المشاركة كلها مستقلة في قرارها السياسي؛ وكأن عندنا فصلا حقيقيا بين السلطات؛ وكأن القصر، بالفعل، لا يتدخل في الحياة الحزبية، ولا يؤثر في قرارات الأحزاب، من قريب أو بعيد؛ وكأن قواعد التنافس السياسي عندنا قد بلغت من النضج بحيث يمكن اعتبار ما يجري منذ 7 أكتوبر، في السر والعلن، أمرا طبيعيا وعاديا؛ وكأن الحكومة المرتقبة تملك بالفعل أدوات الحكم.
ومثلُ هذه الآراء والتحليلات، في اعتقادي، لا تصلح لشيء، ما دامت تنطلق من مقدمة غير صحيحة، حين تفترض أن الأساس الديمقراطي عندنا راسخ وسليم، وتبني على ذلك أن الحياة السياسية والحزبية عندنا طبيعية، وأن هذا "الهَرْج" و"المَرْج" القائمَ اليوم يمكن أن يعطيَ ثمارا طيبة صالحة.
المشاركون في الشعوذة والتهريج، والكتاب والمحللون الذين ينتحلون صفات الخبراء والمختصين-وما أكثرَهم في هذه الأيام، وخاصة في شاشات التلفزة-الذين يتكلمون، وكأننا نعيش في نظام ديمقراطي حقيقي-مع أن نصوص الدستور الممنوح نفسه، الذي يزعم محللونا أنهم خبراء فيه، تؤكد أننا لسنا في نظام ديمقراطي-
قلت هؤلاء المشعبذون و"الخبراء" "المتخصصون" إنما يكرسون خطابا سياسيا فارغا من أي معنى، بل قلْ إنه خطاب القشور والهوامش والتوافه، مع احترامي وتقديري للأشخاص، لأني أنتقد هنا الأفكار والتصورات والآراء.
في تقديري أن الخطابَ السياسي الذي يبرئ النظامَ المخزني أن تكون له يدٌ وراء ما يجري في حياتنا الحزبية والسياسية هو خطاب قشوري، يفتل في حبل الاستراتيجية المخزنية في مضمار التدافع السياسي، ويُقوّي مِن عضد الاستبداد، بوعي أو بغير وعي.

(2)
حزبُ العدالة والتنمية الذي يشتكي اليوم من الذين يريدون أن يسرقوا منه الانتصار الذي حققه في انتخابات 7أكتوبر، ويضعون العراقيل في طريقه حتى يفشل في تكوين الحكومة، ويتهمهم بالتحكم والمساس بالمبادئ الديمقراطية، كما يتهم بعضَهم بأنهم ليسوا مستقلين في قرارهم السياسي، وأنهم تابعون لحزب الأصالة والمعاصرة، رمز التحكم عندهم-
قلت حزبُ العدالة والتنمية الذي يذرف الدموع احتجاجا على ما يعتبره خروجا على المبادئ الديمقراطية، هو أول من يعرف أن النظام المخزني، الذي قبل هذا الحزبُ، طوعا وكرها، أن يعمل تحت مظلته، وأن يشارك في "لعبته الديمقراطية"، وأن يحنيَ الرأس استجابة لمطالبه ونزولا عند جميع رغباته، هو "المايسترو" الحقيقي وراء ما يجري في الساحة السياسية، وهو أول من يعلم أن ما يسميه بـ"التحكم" إنما هو المخزنُ نفسُه؛ لقد عبر بعضُ قيادات الحزب، وعلى رأسهم السيد عبد الإله بنكيران، عن هذه الحقيقة بطرق ملتوية، وبلغة مراوغة مشتبهة ملتبسة، لكنهم لم يجرؤوا، ولن يجرؤوا، على تسمية الأشياء بأسمائها، ولن ننتظر منهم تصريحا شافيا، وخطابا فاضحا، يضع النقط على الحروف، ويكشف الوجوه المقنَّعَة، ويسمي المسؤولين الحقيقيين عن هذا التهريج الذي يلوث الفضاء السياسي، ويكرس الفساد والاستبداد وقواعد دولة التعليمات، ويعمق ويثبت أسباب التشوهات والعاهات والإعاقات التي تعاني منها أحزابنا السياسية، ونخبنا السياسية، وثقافتنا السياسية.
لن يجرؤ حزبُ العدالة والتنمية على موقف مثل هذا، لأنه، ببساطة، واحد من أبناء دار المخزن الأوفياء، الذين لا يملكون إلا السمع والطاعة لولي الأمر، ولا يملكون إلا العمل وفق القواعد المقررة، مع السماح لهم-وذلك من صميم قواعد اللعبة-بهامشٍ، قد يتسع، وقد يضيق، للشعوذة والتهريج وتكريس خطاب القشور.
ينتقد الحزبُ، مثلا، حزبَ التجمع الوطني للأحرار، ممثلا في رئيسه، الذي "نزل من السماء"، السيد عزيز أخنوش، لأنه يعرقل بناء الأغلبية المطلوبة لتكوين الحكومة، ويطالب بأمور تسيء إلى الديمقراطية، وتستهين بإرادة المواطنين الذين صوتوا في الانتخابات الأخيرة.
ألم يكن حزبُ التجمع الوطني للأحرار معروفا عند الجميع بأنه حزب مخزني بامتياز؟ ألم يكن يوصف بأنه من الأحزاب الإدارية؟ ألم يكن حزبُ العدالة والتنمية يعرف أن هذا الحزبَ ليس له أي قرار مستقل عن إرادة المخزن؟
ألم يكن يعرف حزبُ العدالة والتنمية أن حكومة الأغلبية السابقة التي ترأسها السيد بنكيران، والتي كان حزب الأحرار من مكوناتها، قد كانت قائمة في روحها على الإرادة المخزنية، في هندسة حقائبها ووضع برامجها ورسم طريق مسيرها؟ ألم تصل العلاقة بين الحزبين إلى الحضيض، ومع ذلك بلع السيد بنكيران ما لا تستسيغه الحلوق السليمة، وقبل بمشاركة حزب الأحرار في النسخة الثانية من حكومته.
ألم يكن حزبُ العدالة والتنمية هو الآخر، بمواقفه المتناقضة، وقراراته المراعية للنظام المخزني ومزاجه ورغباته، مشاركا في إخراج هذه المهزلة التي تلت انتخابات السابع من أكتوبر؟
فيم التباكي، والتشكّي، والتظلّم، والحزبُ نفسُه مشارك في الشعوذة والتهريج، لأنه قَبِل ما لا يُقبل، وسكَت عما لا يُسكت عنه، وأغضى على ما لا ينبغي عليه الإغضاءُ، وسَهّل، ويسّرَ، وسمع، وأطاع، وخضع.
بعبارة أخرى، ما تشهده الساحةُ السياسية اليوم من مخاض قبل تكوين الحكومة، وما يعتبره حزبُ العدالة والتنمية تشويشا وعرقلة وسعيا لتقويض مبادئ العمل الديمقراطي، وتسفيها لإرادة المصوتين في الانتخابات-قلت هذا الذي يجري اليوم هو ممارسةٌ طبيعية بمنطق اللعبة الديمقراطية، التي يؤطرها النظام المخزني، وبحساب الآليات التي تتحكم في هذا اللعبة، وبحسب الأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها المتحكمون في اللعبة، بالاستعانة بالأحزاب التي قبلت، رغبة ورهبة، أن تكون أدواتٍ مطواعةً بيد المخزن.
المخزن هو واضع قواعد اللعبة، وهو المتحكم في خيوطها، والمحدد لأهدافها. وأما البكاء والشكوى، فهو، في اعتقادي، من قبيل ذر المزيد من الرماد في العيون، حتى يستحكم الضبابُ، وتتعذر الرؤية.
يتهم حزبُ العدالة والتنمية بعضَ الأحزاب التي تعرقل مسعاه بأنها أحزاب غير مستقلة في قرارها.
اتهام صحيح، ولا شك. ولكن، متى كان حزبُ العدالة والتنمية نفسُه مستقلا في قراره؟ متى كانت له إرادة مستقلة عن إرادة الدولة المخزنية؟ ألم تكن نشأتُه بضوء أخضر من المخزن؟ ألم يكن تدرُّجه في العمل السياسي محسوبا ومراقبا ومُقوَّما وموزونا بأجهزة مخزنية؟ ألم يكن مؤسسُ الحزب، الدكتور الخطيب، رحمه الله وغفر لنا وله، من خدام المخزن الأقحاح الأوفياء؟ ألم يكن الحزب دائما، عند السمع والطاعة للمخزن، في المنشط والمكره، والشدة والرخاء؟
في المنطق المخزني، ووفق منطق لعبته الديمقراطية السمجة، إما أن تقبلَ وتسمع وتطيع، طبعا مع مراعاة الأشكال والحيثيات والمظاهر والمستويات، وإما أن تصبح شريدا مَعِيفا؛ إما أن تنضبط وتنتظم في الصف، كما يجب، وإما أن تصبح منبوذا كالبعير الأجرب، يُخشى التعاملُ معك والاقتراب منك.
حزبُ العدالة والتنمية، وأقصد جيلَ المؤسسين الذين يهيمنون على قيادته، يحفظُ الدرس جيدا، ويعي بعمق معنى التعامل مع المخزن، لأنه قد خبر العمل في ظله، والتحرك في دواليب دولته.
فلو كان الحزبُ جادا في الدفاع عن مبادئ الديمقراطية، والغيرة على أصوات الناخبين أنْ يلعبَ بها اللاعبون، ويسرقها السارقون، لما لجأ إلى لفّ خطابه بألف غشاء وغشاء من الإيحاء الملتبس، والمعاني المحتملة، والعبارات المراوغة، والأساليب المواربة.
لو كان حزبُ العدالة والتنمية جادا فيما يدعيه، لما أحنى الرأسَ للمخزن حتى الرّغام، ولما انتقل من النقيض إلى النقيض، في الخطاب والممارسة، بين عشية وضحاها.
سيقولون إنها السياسة وأساليبها وضروراتها وضغوطاتها؛ والجواب أن ما نحن فيه من الشعوذة والتهريج والخطاب القشوري لا علاقة له بضرورات السياسة وتقلباتها وأحابيلها وأوجاعها. إن ما نحن فيه إنما هو من مضاعفات مصيبة الاستبداد الجاثم على صدورنا. وأرى أن أولى الخطوات في طريق الخلاص، إن كنا جادين، حقيقة، في طلب الخلاص، هي ترك خطابات التزوير والتخدير والتعمية والتمويه، وتبني خطابات الصراحة والحقيقة والدفاع عن القيم والمبادئ باللغة التي لا تلف ولا تدور، ولا تصانع ولا تداهن، ولا تداور ولا تخاتل. إنها اللغة التي تقول إن داءنا العضال إنما مكمنُه في الاستبداد وصنائعه من الظلم والفساد.
وبعد، فإني أعتقد أن هذا التهريج الحاصل حاليا سينتهي قريبا، إما بتصفير من المخزن يجعل حدا لهذا العراك المفتعل بين أبناء العائلة الواحدة، ويفرض على الجميع الانضباط والرجوع إلى الصف، وإما بغضبة مزاجية، كالغضبات التي نسمع عنها بين حين وآخر، تطوِّح بنا إلى ما يعلمه إلا الله مِن المجاهل والمتاهات، لنستأنف رحلتنا السيزيفية(كناية عن العبث الأبدي)، في سفينتنا المخزنية، بالطاقم نفسِه، وبالخرائط نفسه، وبالعبث نفسه.
اللعبة المخزنية، يا قوم، لا يمكن أن تعطي إلا ما نراه وما نعيشه، وما نشتكي منه، ليل نهار، من غير أن يظهر فرج في الأفق القريب. لماذا؟ لأنها لعبة مخزنية وكفى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

أصولُ الحداثيّة الأدونيسيّة وروافدُها

بسم الله الرحمن الرحيم

أصولُ الحداثيّة الأدونيسية وروافدُها

أصول الحداثيّة الأدونيسيّة

لا أتردد في وصف أدونيس بأنه مثقفٌ عربي مُغَرَّبٌ مِن الدرجة الأولى، وأنه يمثل حلقة متميزةً وخطيرة في سلسلة طويلة مِن النُّخب العربية، التي لم تقف، في تغرُّبها، عند الانبهار بالحضارة الغربية، وأصولها ومبادئها الفلسفية، ونظرياتها الفكرية القائمةِ، في روحها الحديث، على العقلانية اللادينية، بل تعدّتْ ذلك إلى النظر إلى الغرْب وتقديمِه على أنه الأصلُ الذي لا قيام لحداثةٍ عربية إلا بالنسج على منواله والسير في ركابه.
وأخطرُ ما في هذه النظرة التغريبيّة الأدونيسية أنها لا تتكلم بلغة واضحة، كما كان يتكلم سلامة موسى مثلا، بل إن أدونيس، في تغرُّبه، لا يعترف، أصلا، بأنه فرعٌ تابع للأصل الغربي، ولا يفتأ يشدد على الأصالة والإبداع في مشروعه الثقافي، الذي يصفه، دائما، بأنه مشروع لتحرير العربي من قيود الماضي والمقدسات والسلطة المستبدة، وتبويئه مكانةً تليق به في الثقافة الكونية العالمية.
وألفاظٌ مثل "التغرّب" و"التغريب" و"المُغَرَّب" ليست للقدح، ولا للتجريح، ولا للاتهام، وإنما هي، كما بيّنتُ سابقا، لغةٌ للوصف لا غير؛ فالتّغرُّب، بهذا المعنى الوصفي، قد يعني الالتحاقَ بالغرب جغرافيّا، وقد يعني الالتحاقَ به ثقافيا وحضاريا، وقد يجمعهما معا؛ فوصفُ أدونيس بأنه مُغرّب مِن الدرجة الأولى، يعني، بهذا المفهوم الذي حددتُه، أنه صار مرتبطا بالغرب، جغرافيا وحضاريا؛ فهو مقيم، طوعا لا كرها، في باريس منذ 1986. وهو أيضا من المثقفين العرب الذين تشبعوا بالثقافة الفرنسية، فكرا وأدبا، منذ 1960 حين سافر إلى باريس لمتابعة دراسته في السوربون بمنحة من الحكومة الفرنسية، بل قلْ منذ 1944 حين التحق بالمدرسة الفرنسية اللائكية(العلمانية) بطرطوس، في سوريا، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره.
نعم، هناك اختلافٌ بين أجيال المغَرَّبين، وطبقاتِهم، وطبائعِهم، وخصوصياتِ زوايا أخذهِم وفهمِهم ونظرهِم، لكنه، في رأيي، اختلافٌ في أشكال التصرف والمعالجة والاجتهاد، لا يمس جوهرَ الرؤية الفلسفية والأصل الحضاري الذي هو واحدٌ وراء هذه الأشكال المتعددة.
فأدونيس، وقبله فرح أنطون، وشبلي شميل، وسلامة موسى، وطه حسين، تمثيلا لا حصرا، شخصياتٌ متعددة متباينة مِنْ حيث اختلاف طبائعها، وأذواقِها، واهتماماتها، وطرائقِ فهمِها وكتابتها، إلى غير ذلك مِن الصفات والمزايا التي تجعل الناسَ متبايِنِين يمتاز بعضُهم عن بعض، لكنها، في جوهر الفكر والرؤية الفلسفية العميقة، شخصياتٌ ترمي عن قوس واحدة، وهي بهذا متعددةٌ في الأشكال والسمات الشخصية والخصال الفردية، متوحدةٌ في العمق الفلسفي والأفق الحضاري.
فمن وجهة نظر هذه الدّعْوَى، ليس غريبا أن يَعتبرَ أدونيس أعلاما مثلَ ابن الراوندي الملحد، وفرح أنطون، وشبلي شميل أسلافَه الحقيقيِّين، بل أسلافَ الحركة الحداثية العربية عموما[1].
كان سلامة موسى، مثلا، "وقحا" في الدعوة إلى التَّغَرُّب، غيرَ مبالٍ بالحضيض الذي تردّى فيه، في التعبير عن إيمانه المطلق بالغرب، وكفره المطلق بالشرق[2]. لكن أدونيس، وقد بلغ من الشهرة في دنيا الإبداع والتفرد والتميز ما بلَغَ، يأنف أن يُوصف بأنه منبهرٌ، أو تابع، أو مروّجٌ لبضاعة الغرب، أو غيرُ هذا مما يجرده مِن شخصيته، التي يزعم لها الزاعمون مِن تلامذة المدرسة الأدونيسية، أنها شخصية "فريدة" "خلاقة"، فكرا وأدبا ونقدا وإبداعا، في الزمن العربي الحديث.
يَأنَف أدونيس، بل يرفضُ بقوة أن يكون تابعا لأحد، وإلا ضاع منه ما نذر له حياتَه كلَّها وهو "الشهرة"، و"التفرد"، و"الإبداع" على غير مثال.
وعلى الرغم مِن هذا الرفض وتلك الأنفة، فأدونيس مسكونٌ بالغرب حتى الهَوَس، شاء أم أبى. بل إن الحكم في هذا ليس له، وإنما هو للمراقبين والمتتبّعين والنقاد والباحثين المهتمين؛ ليقلْ أدونيس عن نفسه ما يشاء، وليصفْها بما يحلو له من الصفات، وليرْفعْها أو ليضعْها، وليكنْ مؤمنا أو كافرا، شرقيا أو غربيا، فذلك شأنُه، والناس أحرار إزاء كلامه على نفسه ونعوتِه لها، إن شاؤوا صدّقوه، وإن شاؤوا كذبوه.
أما أنا، في بحثي، فأبني رأيي وحكمي على أصول نظرية/فلسفية، إلى حدّ ما، وعلى وقائع حياتية مَعِيشَة، وعلى نصوص وتجارب بين يدي شاهدة ناطقة بالحقيقة، لا تكذب.

إن أدونيس، منذ بدأ يكتب عن الثبات والتحول، وعن الاتباع والإبداع، في الثقافة العربية، قبل أن يقدّم أطروحتَه المشهورة التي نال بها شهادة الدكتوراه سنة1973، لا يفتأ يجعل الدين-والإسلامُ طبعا هو مقصودُه-وما يتصل به، وما يتفرع عنه، معدنَ ثقافة الثبات وأصلَ فكر الاتباع وما يتصل بهذا الفكر من تسلط سياسي، وتضييع للحقوق، وهدر لكرامة الإنسان، وقمع لحريته.
وإذا كان الإسلام، وهو مركز الثبات والاتباع في الثقافة العربية-حسب الحكم الأدونيسي النهائي القاطع المطلق-يتمثل، أساسا، في أصوله الإيمانية وأحكامه الشرعية، في الوحي والنبوة، أي في القرآن والسنة، فإن نجاح أي مشروع حداثي من أجل التحرير مرهون بالتصدي، نقدا، ورفضا، وهدما، وثورة، ومخالفة، لهذه الأصول والأحكام، وتأسيس البديل الإبداعي على أنقاضها. وهذه جملةٌ مختصرة جامِعة مِن كلام أدونيس تُغْني عن التطويل؛ يقول أدونيس: "...في مجتمع تأسس على الدين، باسم الدين، كالمجتمع العربي، لا بد أن يبدأ النقدُ فيه بنقد الدين ذاته. وطبيعي أن هذا النقدَ لا يجوز أن يكون هدفا بذاته ولذاته، وإنما يجب أن يكون وسيلة للهدف الأسمى: انعتاق الإنسان مما يغر به، انعتاقا جذريا وكاملا."[3]

أدونيس مَدين في حداثيّتِه للغرب

يعترف أدونيس بأن الذي هداه إلى اكتشاف القيمة الحداثية للتجربة الصوفية، في التاريخ العربي الإسلامي، حسب فهمه ومنظوره لهذه التجربة، إنما هو اطلاعه على التجربة السوريالية الغربية، وتشبّعُه بمبادئها ومفاهيمها، وقراءتُه في إبداعاتها؛ فَـ"قراءة رامبو ونرفال وبريتون[يقول أدونيس]هي التي قادتني إلى اكتشاف الصوفية، بفرادتها وبهائها."[4]
لكن هذه المقابلةَ بين التجربة السوريالية الغربية والتجربة الصوفية الإسلامية[5] أوقعت أدونيس في حرج، ووضعته أمام إشكالية لها وجهان، على الأقل؛ أما الوجه الأول "هو أن الصوفية تديّن، وأنها تتجه نحو الخلاص الديني، بينما السوريالية حركة إلحادية، ولا تهدف إلى أي خلاص سماوي، فكيف يمكن الجمع بين متدين وملحد؟"[6]
أما الوجه الثاني من الإشكالية هو أن تأثر أدونيس بالنزعة الصوفية قد يعني تأثرَه بالتفكير الديني، مما قد يُعدّ منقصة في حقه لا يقبلها ملحد مثله يعتز بإلحاده، فما هو الحل؟
ليثبتَ أدونيس لنفسه وللعالم أن التجربة الصوفية الإسلامية إنما هي النسخة الشرقية للسوريالية الغربية، فقد أجاب عن الوجه الأول من هذه الإشكالية بإفراغ التجربة الصوفية من "البعد الديني التقليدي"،كما عبّر[7]، وهو يعني بالبعد الديني التقليدي كلَّ ما له علاقة بالعقائد الإسلامية وأصولها القطعية في القرآن والسنة. وبهذا الإفراغ يصل أدونيس إلى نتيجة مؤداها، كما عبّر هو بمنطق متهافت وعبارات مترددة: "أن الصوفية لا تتضمن بالضرورة، الإيمانَ بالدين التقليدي، أو الإيمانَ التقليدي بالدين."[8]
وبخصوص الوجه الثاني للإشكالية، ولكي يدفع عنه شبهةَ التديّن، فقد أجاب قائلا: "أنا لست متأثرا بها [أي النزعات الصوفية]دينيا وإنما إبداعيا…وأنا أَعجب لفكر لائكي أن يتأثر بفكر الطوائف."[9]
ولا يَخفَى ما في هذين الجوابين من تمحّل وتكلف ومنطق ضعيف يفيد أن الرجل إنما كان يستعجل الخروج من الإشكال الذي وجده أمامه. وبعد الخروج من الإشكال، وبأي جواب، لا يهم ما يُقال.
وإشكالية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، فيما يخص ما نحن فيه من تعرّف المصادر التي تستقي منها الحداثيّة الأدونيسية أصولَها.
فهو يعترف، بلغة واضحة، أنه عرف الحداثية العربية من طريق الحداثية الغربية. والإشكال هو: كيف يمكن للاحق أن يكتشف السابق ويدل عليه؟ بلغة أخرى: كيف يمكن لحداثة لها ظروفها وفلسفتها وأعلامها ومبادئها أن تدل على أخرى، في بيئة أخرى مخالفة إلى حد المناقضة، لها تاريخها وخصائصها وحياتها المتميزة؟
وأمام هذه الإشكالية لا يجد أدونيس حرجا في أن يقول: "ولست أجد أية مفارقة في قولي إن حداثة الغرب(المتأخرة) هي التي جعلتني أكتشف حداثتنا العربية(المتقدمة)…"[10]
لقد تزود أدونيس من المذهبية الحداثية الغربية[11] بما يلزم من الوعي والمبادئ والمفاهيم والتصورات، ثم راح يبحث في تراثنا عن الأمثلة والنماذج والأخبار، التي يمكن أن تشكل مادة تراثية متحققة لصناعة نظرية حداثية عربية "أصيلة"، ثم انتهى في بحثه الطويل-لا ننسى أنه كان يبحث مستعينا بالآلة الفلسفية الغربية- إلى أن "الحداثة العربية، كما أسس لها أبو نواس وأبو تمام، لغةً وشعرية، وابنُ الراوندي والرازي وجابر بن حيان، فكرا واستبصارا، والتصوفُ، تجربةً ورؤيا، والتي تفرض نشوءَ حقائق عن الإنسان والعالم، جديدة لم يعرفها القدم…"[12] قد سبقت الحداثة الغربية بحوالي عشرة قرون، وهو ما يعني أن النظرية الحداثية ليست ابتكارا غربيا، ومن ثَمَّ فهي ليست "منتوجا أجنبيا"، "وإنما هي ظاهرة أصيلة عميقة في حركة الشعر العربي."[13]
يقول أدونيس معترفا بفضل الأصول الغربية على نظريته الحداثية: "أحب أن أعترف[14] أيضا أنني لم أتعرّف على الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقافي العربي السائد وأجهزته المعرفية. فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شعريته وحداثته. وقراءة ملارميه هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام. وقراءة رامبو ونرفال وبريتون هي التي قادتني إلى اكتشاف التجربة الصوفية بفرادتها وبهائها. وقراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني، خصوصا في كل ما يتعلق بالشعرية وخاصيتها اللغوية-التعبيرية."[15]
أما هذه الحداثية الغربية الأصل، فروحها الذي به قوامها هو العقلانية اللادينية. فَـ"في العلم نجد الخاصية الأولى للحداثة في الغرب، ونجد خصوصية الغرب إزاء الشرق. فهذا العلم قطيعة معرفية كاملة مع العالم القديم، وبخاصة في أبعاده الدينية الغيبية."[16]
ولمّا كان تراثنا العربي الإسلامي، في روحه، قائما على أصول الإسلام، بعقائده الإيمانية الغيبية، وشرائعه وأحكامه وفرائضه العملية، وكانت الحداثية، كما نشأت وتطورت في الغرب، إنما قوامها اللادينية، فإن الحداثية العربية لن تكون إلا خروجا على أصول الإسلام. فهي ليست "نقداً للقديم الأصلي وحسب، وإنما هي خروج عليه…والحداثة إذن، خروج على الأصول."[17]
وهذا الفهم الحداثي اللاديني هو الركيزة الأساس في النظرية الحداثية الأدونيسية، وعنه تتشعب جميع آراء أدونيس، ومقالاته، ومناقشاته، وكتاباته، ومحاضراته، واستجواباته في الموضوع.
وقد سعى أدونيس بكل الوسائل-وأشدد هنا على عبارة "كل الوسائل-من أجل توفير المثال، من تراثنا العربي الإسلامي، الذي يصدّق هذه الخاصية اللادينية الجوهرية في نظريته الحداثية-سعى، بكل الوسائل، إلى إحياء تراث الملاحدة والزنادقة، والمجان العصاة، والفتّانين الأشرار، والمتصوفة من "نواب إبليس وشرطه"، وسائر أصناف أهل الأهواء والضلال، وفهمِ هذا التراث وتأويله، ثُم تكييفه ليستجيب لمبادئ النظرية الحداثية الأدونيسية.
يذكر أدونيس، من بين العوامل التي ساعدت في ترسيخ التقليد أو الاتباعية، من الناحية التاريخية-الاجتماعية، "أن العربي لم يكن ينظر، بسبب من نشوئه وتكوينه البدويين، إلى الحياة ككل واحد بمختلف مظاهرها، وإنما كان ينظر إليها كأجزاء. وهكذا كان يقبل بتغيير أشكال الحياة ويراها تحسينات مفيدة، لكنه لم يقبل بتغير طرائق التعبير عنها، أو بتغير طرائق فهمها. ومن هنا عاش العربي في ازدواج: فكره شيء، وحياته اليومية شيء آخر. ولهذا تأثير مزدوج يفقر النظرة من جهة، ويساعد على مزيد من التمسك بالماضي، من جهة ثانية"[18].
وأُبَسِّط للقارئ الكريم هذا المنطق الأدونيسي المتهافت-ويظهر أن أدونيس شديد التمسك به في نقاشه وحجاجه، لأنه يتكرر كثيرا في كتاباته، وكأنه حقيقة مُسَلّمة لا تقبل النقد والمراجعة-
أقول مبَسِّطا إن أدونيس، يريد أن يجعلنا نقتنع بأن ملحدا، مثلا، إذا اخترع سيارة، فإن على من يريد أن يستفيد من هذا الاختراع، إذا كان مؤمنا، أن يتحول إلى الإلحاد أولا، وإلا "عاش في ازدواج"، يستفيد من السيارة في حياته اليومية، وهي من اختراع ملحد، وهو باق، في فكره واعتقاده وسريرته، على إيمانه. فهل هناك أغْرَبُ من هذا المنطق وأضعف وأسخف؟
وبهذا المنطق الضعيف، ينتقد أدونيس كثيرا من يصفهم بأصحاب "الحداثة التلفيقية الأزيائية"، الذين يكتفون من الحداثة الغربية بمظهرها "التقنوي-الآلي"، ويُعرضون عن "المبادئ العقلية" التي ولدت تلك الحداثة[19]. "إنها[أي الحداثة التلفيقية الأزيائية]حداثة تتبنى الشيء المُحدَث، ولا تتبنى العقل أو المنهج الذي أحدثه. فالحداثة موقف ونظرة قبل أن تكون نتاجا."[20]
والمبادئ العقلية الغربية التي يشير إليها أدونيس هي، كما ذكّرت آنفا، قائمة على المذهبية اللادينية، بكل أشكالها الإلحادية واللائكية. وقد كان منشأ هذه المذهبية في الغرب، ثم صُدّرت إلى البلاد العربية الإسلامية، من بين ما صُدّر إليها من أفكار وفلسفات ونظريات، في ظل الاستعمار أولا، ومن طريق النُّخب المغَرَّبَة ثانيا. وأدونيس واحد من هذه النخب التي تولّت الدفاع عن الحضارة الغربية، والترويج لأصولها الحداثية اللادينية، لكن على طريقته المتميّزة، من خلال نافذة الأدب والنقد، وتحت غطاء "الجنون" و"الرؤيا" و"العبث".
 والذي يُردُّ به على أدونيس، في شأن كثرة انتقادته للحداثة "الأزيائية التلفيقية"، كما يصفها، التي تأخذ بالمنجزات التقنية الصناعية وغيرها، وترفض المبادئ العقلانية التي وراء تلك المنجزات، هو أنه لم يَثبُت أن الإلحاد هو الذي كان وراء مخترعات العصر المادية، وأن الزندقة والكفر بالله واليوم الآخر هي التي تسببت في الثورات العلمية التكنولوجية المتتابعة. بل الثابت هو أن نبذ الدين والتماديَ في المعاصي والجحود، كان، وما يزال، هو السبب الجوهري وراء شقاء الإنسان، وتمزقه، وضياعه، وحيوانيته الدّوابية، في الغرب وفي غير الغرب.
فالحداثة العمرانية المادية لم ينتجها الإلحاد، وإنما أنتجتها العلوم التجريبية القائمة على الصبر والمصابرة، والتأمل، والتتبع، والإحصاء، والاستقصاء، والسؤال المفيد، والافتراضات المحفزة، وما إلى ذلك مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وعقائده وفرائضه وواجباته. بل إن الإسلام قد جعل طلب العلم من بين فرائضه الواجبة على كل مسلم ومسلمة.
إن الحداثة "العلومية" العمرانية لم تكن قط مقترنة بالحداثة الفلسفية اللادينية، كما يزعم أدونيس. فقد تجد من بين أساطين الباحثين في العلوم التجريبية والتطبيقات التكنولوجية متديّنين راسخي القدم في العلم الإيماني الغيبي، لا يستشعرون أي تناقض أو تنافر بين عواطفهم الدينية وأبحاثهم العقلية والتجريبية.
وعلى منوال هذا المنطق الأدونيسي المتهافت ينسج أحد تلامذة المدرسة الأدونيسية، وهو الأديب المغربي محمد بنيس، حين يستنكر رؤية "أصولي يتقن التقنيات المعلوماتية، أو محجّبة تحمل نقالا [يقصد هاتفا محمولا] وتسوق سيارة"[21]؛ فالمسلم، عنده، الملتزم بدينه[22]، المجتهد في طاعة ربه، ليس من حقه أن يستفيد من مخترعات العصر، وكذلك المسلمة المتحجبة، ليس من حقها أن تستمتع بما فتح الله به على عباده، مؤمنين وغير مؤمنين، حتى يتخليا عن إسلامهم، أي أصوليتهم، باصطلاح الدكتور اللائكي محمد بنيس. ووصفه باللائكي فيه لطف وتجاوز، وإلا فموقفه من الإسلاميين، عموما، وما يرميهم به من نعوت مجرِّحة بغير حق ولا حجة، وما يلصقه بهم من تهم باطلة، وما يختلقه عليهم من جرائم وأفعال شائنة، بلا تمييز، كل ذلك يجعله مسلوكا، بامتياز، في الاستبداديين الإقصائيين، ويهبط به إلى حضيض الخصوم السياسيين الذي ليس عندهم، لخصومهم، إلا السب والتجريح والعبارة الفاجرة[23].
وقد تحدث أدونيس عن "أوهام الحداثة"، وحصرها في خمسة: وَهْمِ الزمنية، ووهم المغايرة، ووهم المماثلة، ووهم التشكيل النثري، ووهم الاستحداث المضموني.[24]
وقد حاول في حديثه عن وهم المماثلة أن يردّ تهمة من يرجعون بالحداثية الشعرية العربية إلى الأصل الغربي. والملاحظ على ردّه هو أنه خلط فيه بين أمرين اثنين، كان ينبغي التمييز بينهما: أولهما أن الحداثية في مجال الفنون والآداب لها ارتباط وثيق بالحداثية على مستوى الفكر والفلسفة والعقيدة، وأدونيس نفسه هو الذي قرأنا له قبل قليل قوله: "الحداثة موقف ونظرة قبل أن تكون نتاجا"[25]، وهو الذي لا يفتأ ينبه "الحداثويين"، أي أصحاب الحداثة التلفيقية الأزيائية، إلى أن الحداثية إنما هي بجوهرها قبل مظهرها، هي برؤاها الفكرية الفلسفية قبل أشكالها المادية. وفي هذا الصدد فأدونيس هو أول المعترفين بأن فكره الحداثي، بهذا المعنى، إنما أخذ أصوله عن الغرب.
أما الأمر الثاني، فيتعلق باستنساخ التجربة الغربية، على سبيل التقليد والتبعية العمياء، وتكرار الآخر والضياع فيه إلى حدّ الذوبان. ويظهر أن حديث أدونيس عن وهم "المماثلة" قد سار في هذا المعنى، أي تقليد الحداثة الغربية، ولذلك وجدناه يستعمل في كلامه ألفاظا تدور حول معنى التقليد، مثل الاحتذاء والمحاكاة.
هذا، والغريب أن أدونيس، بعد إنهاء كلامه على أوهام الحداثة، عاد في الفقرة التالية، مباشرة، للدفاع عن الشعراء الحداثيين العرب، والردّ على من يتهمونهم "بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها"، ويحكمون "تبعا لذلك، على الحداثة الشعرية العربية بأنها غير "أصيلة"، وليست لها قيمة شعرية أو فنية."[26] فهو لم يأل جهدا في اجتلاب الحجج وإقامة المقدمات، ليثبت أن هذا الاتهام والحكم يقومان، في الغالب، "على الاجتزاء وعلى الجهل بالشعر الغربي"[27]. ثم يذكر، في أثناء احتجاجه وانتصاره ودفاعه، أنه "ينبغي على القارئ/الناقد، إذن، أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات: مستوى النظرة والرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعرية."[28] ويختم دفاعه بأن الشاعر "إنما يقيَّم برؤياه ككل، ونظامه الفني ككل، وعالم العلاقات التي يبتكرها."[29]
وأعود، بعد هذا الاستطراد، لسياق حديثنا عن أصول الحداثيّة الأدونيسية.
إن الفلسفة العقلانية اللادينية الرائجة اليوم في ثقافتنا العربية المعاصرة إنما هي فلسفة تم نقلُها إلى البلاد العربية الإسلامية وغرسُها ورعايةُ نبتتها في ظل مؤسسات الاستعمار والتعليم الأجنبي. وقد تولت منابر التغريب، بكل أنواعها ومختلف أساليبها، مهمة الإشراف على تخريج أفواج من أبناء المسلمين، متشبعين بالثقافة الغربية، متضلعين في فلسفاتها ولغاتها ونظرياتها، ومختلف جوانب حضارتها. ومعلوم أن الحضارة الغربية، في شقها العقدي الفلسفي، قد انتهت، بعد قرون من الصراع والتطور، إلى تبني المذهبية العقلانية اللادينية. وهذه المذهبية اليوم هي المعدن الذي تصدر عنه الثقافة الغربية في مختلف المجالات الإنسانية.
لقد سرت فينا آثار هذه المذهبية اللادينية من طريق مثقفين مُغَرَّبين، من أبناء جلدتنا، كانت بضاعتهم، وما تزال، هي الترجمة عن الغرب/الأصل، الغرب/الحضارة، الغرب/الحداثة.
ولم يكد ينتهي الربع الأول من القرن العشرين حتى كانت البواكير الأولى للتعليم التغريبي الاستعماري تملأ دنيا المسلمين بالخصومة والحجاج والجدال والتصارع بين فكر روحه القرآن وعقائد الإسلام، وفكر متصل، في حياته، بالفلسفة الغربية اللادينية[30].
لا نجد، فيما وصلنا من تراثنا العربي الإسلامي، نظرية في الإلحاد متكاملة في تصوراتها ومفاهيمها وأطروحاتها، متراصة في مبادئها ومباحثها ومسائلها، كُتب لها الانتشار، وفي العلن، من طريق الأتباع والأنصار، وحُفظت مقالاتها وكتاباتها كاملة من غير نقص أو تشويه، واستمر نفوذها وآثارها، عبر التاريخ، إلى عصرنا الحديث.
نعم، لقد عرف تاريخنا العربي الإسلامي حركات فلسفية إلحادية، وتيارات زندقية، كالباطنية، والخُرّمية، والقرمطيّة، والنُّصيرية، والعُبيديّة، كما عرف ملاحدة صنفوا التصانيف، ونشروا المقالات، واكتسبوا الأنصار، وتزعموا الدعوات، وأشعلوا الفتن، وخاضوا الحروب، لكنها حركات وتيارات لم تُعمّر طويلا، وكانت آثارها في المجتمع الإسلامي محدودة، بل منها ما مات في المهد، ومنها ما اختار ركوب مراكب النفاق والاحتيال والعيش في ظلام السرية والتقية.
ولقد كان من أسباب انحسار هذه الحركات والتيارات واندحارها في تاريخنا العربي الإسلامي أن العقائد الإسلامية كانت، في مصادرها وأصولها، من القوة ووضوح الحجة وسطوع البرهان، بحيث لم تستطع المقولات الإلحادية والفلسفات التشكيكية أن تنال منها في قلوب المسلمين، أو في مجادلات المتكلمين الأوائل، الذين اجتهدوا كثيرا في الرد على شبهات مختلف طوائف الزنادقة والمتفلسفة من أهل الضلال والأهواء. وكذلك أبلى علماء الأمة البلاء الحسن والكبير، بالتربية الإيمانية والحجاج العلمي والوعظ التعليمي، في نقض عقائد الملحدين، وتفنيد شبهاتهم، وفضح دجلهم.
 وبهذه المقاومة القوية الصامدة الراسخة لم تستطع هذه الفلسفات أن تذهب بعيدا في الأوساط العلمية، باستثناء أفراد قلائل. أما في أوساط العامة، فلم يكن وصول هذه الفلسفات إليها بالمتيسر، نظرا لصعوبة انتشار الكتاب بوسائل الاستنساخ المتاحة في ذلك الزمان، وكذلك بسبب التحفظ واليقظة والتحري، الذي كان يطبع سلوكات المجتمع الإسلامي إزاء العقائد الوافدة والفلسفات الأجنبية الطارئة. هذا إلى جانب مقامع السلطان التي كانت تقعد لهؤلاء الزنادقة المارقين كل مرصد، فلا تكاد عيونها تفلتهم[31].
أما تصانيف هؤلاء الفلاسفة الملحدين، فقد ضاع أغلبها، وما وصلنا منها فهو عبارة عن نتف ومقالات متفرقة، وحكايات منثورة هنا وهناك في مصادر متعددة، وخاصة في المصادر التي تصدت للرد على هؤلاء الملحدين، حيث يتطلب الرد حكاية مقالاتهم وسرد شبهاتهم.
والمهم من هذا الكلام أن تاريخنا العربي الإسلامي لم يعرف نضج فلسفات إلحادية، في شكل نظريات عاشت وتداولها الناس، واستمرت إلى يومنا هذا. وإنما الذي بلغنا عن تلك الفلسفات، كما ذكرت، شذرات وإشارات ومقتطفات، لا ترقى أن تُكوِّن لدى القارئ فكرة واضحة عن معالم نظرية إلحادية متكاملة. يضاف إلى هذا أن هذه البقايا/الأطلال، التي حفظتها لنا المصادر، لا يكاد يطلع عليها ويدرسها إلا أهل الاختصاص، أو من هم في مرتبتهم من الباحثين المؤهلين للفهم والاستيعاب.
ولعل أدونيس من أشهر الكتاب المعاصرين، الذين أحيوا فكر الزنادقة والملحدين من مدافن التاريخ العربي الإسلامي، وأشادوا به ورفعوه إلى درجة الفكر الثوري التحرري الإبداعي الحداثي، وجعلوه في مرتبة تقابل التراث الديني بأصوله وعقائده وشرائعه، التراث "التقليدي" "الاتباعي" "الأصولي"، كما يعبر أدونيس.
فما من ملحد زنديق، في التاريخ العربي الإسلامي، أو فاسق ساقط، أو شاعر ماجن متهتك، أو ثائر ظالم خارج على شريعة المجتمع -في جملة، ما من إنسان متلبس بشبهة تَمُتّ بشيء إلى معارضة الإسلام، أو مناقضته، أو الخروج على أحكامه، أو غير ذلك من شبهات الزندقة والإلحاد، والمعاصي والآثام، إلا وتجد أدونيس متعاطفا معه، بل مدافعا عنه، ومنتصرا لاختياره وسلوكه-نقرأ هذا في كل ما كتبه أدونيس-أقول "كل" من غير استثناء- وخاصة في تجاربه الحداثية، وأسمي منها، على سبيل المثال، تجربة "الكتاب" بجزأيه، حيث خصص هوامش وتعليقات كثيرة لذكر هؤلاء المعارضين الثائرين العاصين، والإشادة بهم بأسلوب وعبارات تنم عن التعاطف والتضامن والتأييد. ولهذا نجد أدونيس يصنف هذه التيارات الإلحادية التاريخية في خانة الثقافة الإبداعية في تراثنا، تقابلها الثقافة الاتباعية، ويردّ على من يتهمه بأنه يرفض التراث جملة وتفصيلا، بأن قراءة عنوان كتابه، الذي هو مثار هذه التهمة، كافٍ لدحض ما يُرمى به؛ قال: "فهذا العنوان هو: (الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. أي أنني أبحث في الإبداع عند العرب، وأتبناه، وأدافع عنه. فكيف يُقال، بعد ذلك، إنني أرفض التراث."[32]

من روافد الحداثيّة الأدونيسية

لقد نشأ أدونيس في بيئة دينية علوية، كانت تروج فيها بعض موروثات العقيدة النّصيرية الباطنية[33]. فقد سئل أدونيس إن كانت "الباطنية" تُعدّ في مصادر حداثيّته الشعرية، فأجاب بأنه لا علاقة له بالباطنية كمرحلة تاريخية، وكفرقة، وإنما هو متأثر بالباطنية كموقف أساسي من العالم، "تهتم بما تسميه "الحقيقة" مقابل ما تسميه "الشريعة""[34]. وأضاف أن "الباطنية هنا تلتقي مع الصوفية، وتلتقي كذلك مع السوريالية…والباطنية بهذا المعنى أيضا، بحث لا ينتهي عن حقيقة متحركة لا تنتهي."[35] فهي "ثورة عظيمة في الفكر الإسلامي"[36].
ولم يستبعد بعض الدارسين أن يكون أدونيس قد تشبع، في مراحل حياته التعليمية الأولى، ببعض نصوص تلك العقيدة، التي كانت تُتداول في السر، ويتم توارثها حسب طقوس خاصة؛ قال سيار الجميل في مقال نشره في الحوار المتمدن، بعنوان "أدونيس: الشاعر السوري الغامض: مشاركات في المرافضات والتحولات ولغة الموحيات": "حدثني الصديق الشاعر الدكتور محمد عضيمة الذي زاملته بجامعة وهران بالجزائر قبل عشرين سنة(وهو واحد من أقربائه وتربطه به علاقة راسخة قوية) أن أدونيس تربى في بيئة نصيرية مشبعة بالمأثور الطائفي الخارجي الباطني الشيعي..."[37]
وإذا صحت هذه الأخبار، فهذا رافد أول.
وقد كان أدونيس، كما نعلم من سيرته السياسية، عضوا نشيطا في الحزب القومي السوري. وأقل ما تعنيه هذه العضوية وهذا النشاط أن الرجل كان متشبعا ومقتنعا بعقائد الحزب في شأن القومية السورية، كما نظّر لها مؤسس الحزب أنطون سعادة، وكما بسط أصولها ومبادئها في كتاباته، وخاصة في كتاب (نشوء الأمم)-أقل ما توصف به أنها بعيدة عن عقائد الإسلام، مخالفة لمقتضيات الإيمان، كما تبينه لنا الأصول الإسلامية القطعية. وهذا رافد ثان.
ونعلم من سيرة أدونيس الدراسية أنه كان تخرج من الجامعة السورية بدمشق، في الفلسفة والأدب، بدرجة أستاذ، وكان عنوان أطروحته هو "الصوفية العربية"[38]-والغالب على الظن أنها "الصوفية العربية" في وجهها الإلحادي كما هو مبسوط في كتابات أدونيس، ومبين في روافد نظريته الحداثية، وليس الصوفية في وجهها الإسلامي الشرعي، ومبادئها النقية الدائرة مع الكتاب والسنة. فهذا رافد ثالث.
ونعلم من سيرة أدونيس الدراسية أيضا أنه ذهب إلى فرنسا في سنة 1960 لمتابعة دراسته في السوربون بمنحة فرنسية[39]. وفرنسا، كما نعلم، هي مهد فلسفة الأنوار، فلسفة العقلانية اللادينية، وهي ملتقى الفلسفات الأوربية المادية، بمختلف أجناسها ونظرياتها ومباحثها، وهي كذلك موطن (بودلير) و(رامبو) و(سان جون بيرس) وأمثالهم من شعراء الحداثة الفرنسية. فهذا إذاً، رافد رابع.
ونعلم كذلك من مسير أدونيس الفكري والنضالي أنه انقلب، بعد هزيمة القوميين سنة 1967، مؤيدا للاختيار الثوري الشيوعي، وأصبحت مجلة "مواقف"، التي أسسها سنة 1968، منبرا مشهورا للمثقفين والشعراء الماركسيين الثوريين[40]. والماركسية الشيوعية، كما عُرفت في التجارب العربية، هي الإلحاد، هي الثورية الجذرية، هي العنف الدموي، هي القطيعة مع الماضي، هي الرفض والتمرد. وقد قال أدونيس، من تصريح له، يذكر بعضَ النظريات والمذاهب والحركات التي تأثر بها: "مثلا، تأثرت بالحركة السوريالية كنظرة…تأثرت بالفيلسوف اليوناني هيراقليطس ونظرته القائمة على الصيرورة والتطور المستمرين.
"تأثرت بالماركسية ونيتشه من حيث القول بفكرة التجاوز والتخطي…وتأثرت بفكرة البحث والتجريب في الشعر العالمي الحديث، الأمريكي والفرنسي على الأخص."[41]وهذا رافد خامس.
ويمكن أن نضيف إلى هذه الروافد رافدا سادسا، وهو عبارة عن خليط من التيارات القديمة والحديثة، يجمعها مبدأ نبذ الدين وعزله عن شؤون الفكر والمجتمع والسياسة، إما في صورة كفر بواح، كالتيارات الإلحادية، أو في صورة التشكيك في بعض أصول الدين وتعطيل بعض أحكامه، كالتيارات اللائكية(العلمانية).
يقول أدونيس من رسالة بعثها ليوسف الخال من باريس سنة 1961، مميزا الماضي الثقافي للحركة الحداثية: "هذا الماضي الثقافي لا نلتمسه في الغزالي وأحمد شوقي وأمثالهما، وإنما نلتمسه في امرئ القيس وأبي نواس، وأبي تمام، والشريف الرضي، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، والحلاج، والرازي، وابن الراوندي، وشبلي الشميل، وفرح أنطون، ومئات العقول الخلاقة الأخرى في تراثنا العربي، التي غيّرت ورفضت وتمرّدت…ولسوف نكمل ما بدأه هؤلاء فنشكّ ونرفض ونغير،…ونثور ونهدم و"نعلن الفوضى"، وسنأمل أن نكون أغنى وأعظم مما كانوا."[42]
ومهما يكن من أمر عقيدة أدونيس المطوية في سرائر صدره[43]، فإن الثابت، باعتراف أدونيس نفسه، وبالشهادات العديدة في كتاباته-بل كل كتاباته شهادة في هذا الموضوع- أن أصول نظريته الحداثية، التي أقامها على فلسفة الإلحاد، إنما استقاها، أولا وأساسا، من الغرب، ثم اجتهد، بعد ذلك، راكبا كل مراكب التعسف والتكلف والتلفيق والتأويل الغريب، في أن يجد لها ما يصدّقها في تراثنا العربي الإسلامي، فكانت النتيجة هي اكتشافاته البديعة واستنتاجاته الجريئة، التي ضمنها أطروحته حول "الثابت والمتحول"، والتي اعتبرها الدكتور بولس نويا اليسوعي، الذي أشرف على هذه الأطروحة وقدّم لها عند طبعها، اكتشافات "نهائية في دراسة الشعر العربي."[44]
وإلى المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.




هوامش:
[1]  من رسالة بعثها مِن باريس ليوسف الخال سنة 1961، في كتاب "زمن الشعر"، ص239.
[2]  تُراجع "أمثلة مِن طاحون التعليم التغريبي"، في الفصل الرابع من الباب الأول، من كتابي حول "المودرنيزم وصناعة الشعر"، من ص163إلى ص190.
 [3] الثابت والمتحول (تأصيل الأصول)، ص113.
[4] الشعرية العربية، ص86.
[5] اِقرأ لأدونيس عن هذه المقابلة بين السوريالية الغربية والصوفية الإسلامية فقرات القسم الثاني خاصة، من كتابه "الصوفية والسوريالية"، ص37 وما بعدها، وكذلك ما كتبه في "La prière et l'épée"، ص249-261.
[6] الصوفية والسوريالية، ص9.
[7] نفسه، ص14.
[8] نفسه، ص9.
[9] من حوار معه نُشر في مجلة "فكر وفن"، عدد45، سنة1987، ص46.
[10] الشعرية العربية، ص87.
[11] قوام هذه المذهبية الحداثية، كما بينت في مقالة سابقة، "العقلانيةُ" و"اللادينيةُ، وذلك بربط معرفة الحقائق بالعقل ولا شيء غير العقل، إذ "لا سلطان على العقل إلا للعقل"، وإقصاءِ الدين عن شؤون الفكر والسياسية والاقتصاد وغيرها من شؤون الإنسان الحياتية، ورفضِه أن يكون، بأصوله ومبادئه وشرائعه، مرجعيةً في شؤون الحياة الإنسان العامة، وحبسِ فعاليته في زاوية الأخلاقيات والتجارب الخاصة، التي لا شأن لها بالدولة والمجتمع. يرُاجع، في هذا الموضوع، ما كتبته عن "أصل المودرنيزم"، في كتابي "المودرنيزم وصناعة الشعر"، ص85-109، وعن "الحداثية" و"الحداثة"، ص199-223.
[12] نفسه، ص83.
[13] بيان الحداثة، مجلة "مواقف"، عدد 36، شتاء 1980، ص146.
[14] للتذكير، فإن هذا الاعتراف ورد في كتابه عن "الشعرية العربية"، الذي هو، في أصله، عبارة عن أربع محاضرات ألقاها أدونيس في الكوليج دو فرانس، في فرنسا، سنة 1984، بدعوة من جمعية أساتذتها. وقد ظهر هذا الكتاب في طبعته الفرنسية سنة 1985، بعنوان:
« Introduction à la poétique arabe; traduit de l’arabe par Bassam Tahhan et Anne Wade Minkomski ; avant propos d’yves Bonnefoy, éditions Sindibad, Paris, 1985 ».
[15] الشعرية العربية، ص86،87.
[16] نفسه، ص101.
[17] نفسه، ص83.
[18] الثابت والمتحول(الأصول)، ص67-68.
[19] نفسه، ص92.
[20]  نفسه، ص84. انظر أيضا "الثابت والمتحول(صدمة الحداثة)"، ص268،269.
[21] الحداثة المعطوبة، ص133.
[22] - ولا أقصد هنا المتنطعين، ولا المتشددين، ولا الغالين في دينهم، ولا الذين يبيحون سفك الدماء باسم الإسلام، والإسلام من أفعالهم براء، وإنما أقصد المسلم الذي يجتهد أن يكون عند السمع والطاعة، في الأمر والنهي، على شرعة ربه وهدي نبينه، صلى الله عليه وسلم.
[23] هذا مثال من عباراته، في حداثته المعطوبة، في حق خصومه الإسلاميين؛ يقول عن الجامعات: "...جامعاتنا اليوم عبارة عن مرسْتانات [تأمل عبارة هذا الأديب]. على المداخل أشرطةٌ تردد كلها الدعوة إلى التوبة من كل فكر وإبداع [لاحظ إطلاق التهم بلا دليل، إلا الإشاعات والموقف المُبيَّت]. على مداخل الجامعات صفوف من المجلدات [يقصد الكتب الإسلامية] التي هي نقيض المعرفة الحديثة. كتب الدعوات الدينية الجاهرة بعذاب القبر وبمنطق التكفير. هذه الجامعات، التي كان الحديثون [من يقصد بالحديثين؟] أنشأوها لتهبّ عاصفةُ العقل والنقد السؤال، تتحول إلى أقبية فيها يتباهى الجاهلون بالجهل[هذا هو الإبداع، وإلا فلا]. طوائف متلاحقة تمنع الجامعةَ عن الجامعة، تمنع الفكر عن الفكر، تمنع الإبداع عن الإبداع. وفي وسط ساحات الجامعات ومدرجاتها مقاصلُ تقطع الرؤوس كلّ ثانية ليرتفع التهليل بالجهل وحده". انتهى من (الحداثة المعطوبة)، ص131.
[24] انظر تفصيل الكلام على هذه الأوهام في "بيان الحداثة"،(م.س)، من ص135 إلى ص138. قارن بِـ"الشعرية العربية"، من ص93 إلى ص95.
[25] الشعرية العربية، ص84.
[26] بيان الحداثة،(م.س)، 138.
[27] نفسه.
[28] نفسه، ص139.
[29] نفسه، ص141.
[30] راجع في كتابي "المودرنيزم وصناعة الشعر" نماذج من ثمار طاحون التعليم التغريبي.
[31] لقد دافع أدونيس دفاعا قويا عن أهل البدع والأهواء، لأنهم أساس التحول والإبداع في نظريته الحداثية، وذكر أن ذنبهم الوحيد، الذي استحقوا من أجله أن يُرموا بهذا الوصف، هو أنهم كانوا معارضين، من داخل الإسلام، للنظام الرسمي، أي الدولة الأموية بالتحديد. وبسبب هذه المعارضة، التي خشي النظام على نفسه منها، تم توجيه العلماء السلفيين الموالين للدولة لمواجهة هؤلاء الخصوم، واتهامهم بمحاولة الخروج على الجماعة، وتقويض كيان الأمة. (الثابت والمتحول(الأصول)، ص81 من المقدمة وما بعدها، ويراجع عموما القسم الثاني من الأصول، الذي خصصه لـ"أصول الإبداع أو التحول".
[32] فاتحة لنهايات القرن، ص274.
[33] نسبة إلى محمد بن نصير الفارسي الأصل. وقوام هذه العقيدة، كما تذكر المصادر، القولُ بالحلول والاتحاد، والإيمان بالتناسخ، وإسقاط التكاليف، وإباحة المحرمات، والأخذ بالتأويل الباطني. والنُّصيرية فرقة مصنفة في غلاة الشيعة. اُنظر كتاب "فرق الشيعة"، للنوبختي، ص147، و"الملل والنحل"، للشهرستاني، ج1: ص188.
[34] من حوار مع منير لعكش، في "أسئلة الشعر في حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها"،(م.س)، ص130،131.
[35] نفسه، ص131.
[36] نفسه، ص132.
[37]  العدد: 1062، بتاريخ: 29 دجنبر 2004، في الموقع الإلكتروني لمؤسسة الحوار المتمدن، على الرابط التالي:
راجع أيضا "أدونيس منتحلا"، كاظم جهاد، ص76،77. ويمكن أيضا مراجعة دراسة مطولة بقلم سهيلة زين العابدين حماد، بعنوان "أدونيس، رائد الإباحية والإلحاد"، التي نشرتها جريدة "المسلمون"، على أربع حلقات، في الأعداد: 238،239،240،241، سبتمبر، 1989، ص9.
[38] الغريبُ أن جميع أعمال أدونيس السابقة، فيما أعلم، قد نُشرت، إلا هذا العمل/الأطروحة، التي لا يكاد يعرف عنها القراء، عموما، والنقاد المتخصصون خاصة، شيئا. انظر مقال (ز.خان): "أدونيس، دراسة في الرفض والبعث"، في مجلة "فصول"، العدد الخاص عن "الأفق الأدونيسي"،(م.س)، ص104.
[39] انظر مقال(ز.خان) المشار إليه في الهامش السابق، ص104.
[40] نفسه.
[41] فاتحة لنهايات القرن، ص267.
[42] زمن الشعر، ص239.
[43] في حوارات أدونيس الأخيرة، وخاصة الاستجوابات التي نُشرت، في باريس، باللغة الفرنسية، والتي كان المقصود بها أساسا الجمهور الغربي، ظهر أدونيس بوجهه الحقيقي، وجه الملحد المناضل، الذي غايته محاربةُ الإسلام، في عقائده وأحكامه وأخلاقه، وفي تاريخه وعلمائه ورموزه ومقدساته. تُراجع حول هذا الموضوع المقالاتُ التي نشرتُها بعنوان "الوجه الآخر لأدونيس".
[44] الثابت والمتحول(الأصول)، ص10.