السبت، 29 أكتوبر 2016

مَن هو أدونيس؟

بسم الله الرحمن الرحيم

من هو أدونيس[1]؟



(1)
"أدونيس" هو لقبٌ اشتهر به الأديبُ والكاتب العربي (علي أحمد سعيد إسبر) منذ سنة 1948. سوريُّ الأصل، يُقيم في فرنسا منذ 1986، متزوج وأب لبنْتين، "أرواد" و"نينار". قيل إن أنطون سعادة(1904- 1949)، زعيمَ الحزب القومي السوري الاجتماعي، هو الذي أطلق عليه هذا اللقب، لكن أدونيس ينفي ذلك، ويؤكد أنه هو الذي اختار هذا اللقب لنفسه؛ يحكي أدونيس في هذا الصدد أنه، في بداية حياته الشعرية، وكان يومئذ يتابع دراسته الثانوية في اللاذقية، وعمرُه زهاء سبع عشرة سنة، كان يُرسل بعضَ تجاربه إلى الصحافة موقعةً باسمه الحقيقي(علي أحمد سعيد)، لكنها لم تكن تجد طريقا إلى النشر. وذات يوم ــ يحكي أدونيس: "وقعتْ في يدي، مصادفة، مجلةٌ أسبوعية، لبنانية على الأرجـح، قرأت فيها مقالةً عن أسطورة أدونيس: كيف كان جميلا، وأحبته عشتار[2]، وكيف قتله الخنزيرُ البري، وكيف كان يُبعث، كل سنة، في الربيع..إلخ. فهزتني الأسطورةُ وفكرتُها. وقلت، فجأة، في ذات نفسي، سأستعير مِن الآن فصاعدا اسمَ أدونيس، وأُوقِّع به. ولا شك أن هذه الصحفَ والمجلات التي لا تنشر لي، إنما هي بمثابة ذلك الخنزيرِ البري الذي قَتل أدونيس. وفعلا كتبتُ نصا شعريا وقّعته باسم أدونيس، وأرسلته إلى جريدة لم تكن تنشر لي، وكانت تصدر في اللاذقية. وفوجئت أنها نشرته. ثم أرسلت نصا ثانيا، فنشرته على الصفحة الأولى..."[3]
ولم يكن (عليّ أحمد) يُخفي اعتزازه بهذا اللقب، بل كان يبالغ في تقدير وزن هذا اللقب وبُعْده الثقافي الكوني، إذ كان يعتبر تغييرَ اسمه "الإسلامي" بآخر غير إسلامي تحررا من قيود هُويته المحدودة الجامدة، وانخراطا في هُوية "كونية" لا حدود لها؛ يقول أدونيس، من حوار مع الفرنسي أندريه فيلتر: "بتغيير اسمٍ جِدّ إسلامي(علي) لصالح اسم لا علاقة له بالإسلام(أدونيس)، فإنما كنت أضطلع بالعبور إلى الكوني. بإمضائي بهذا الاسم، كنت أتحرر من تراث جامد، وأكتسب حرية أوسع. وبهذا صرت قادرا على أن أُدرج التراث العربي نفسه في حركة الثقافة الكونية..."[4].
لقد كان أدونيس يتحدث كثيرا، وفي كل مناسبة، عن لقبه (أدونيس)، ويشيد بما أكسبه إياه هذا اللقبُ من المعنى الإنساني الكوني، فضلا عن الشهرة. فهذا اللقب، يؤكد أدونيس مفتخرا، هو الذي أخرجه من ضيق الطائفية الإسلامية التي كان يسجنه فيها اسمه (علي) إلى  سعة الهوية العالمية التي لا حدود لها. وحينما تلاحظُ ابنتُه(نينار)، في حديث لها مع أبيها، أن اسم (علي) له دلالة إسلامية بخلاف لقب (أدونيس) الراسخ في الوثنية، فإنه يردّ بسرعة بأنه مع المعنى الوثني[5]. وهذا ردّ طبيعي، وخاصة إذا علمنا أن أدونيس قد صرح في مناسبات عديدةٍ بأنه وثنيٌّ في معتقده. بل هو يذهب بعيدا لإثبات الأصل الوثنيّ لاسمه الإسلامي حينما يزعم أن اسم (علي) مشتق مِن (EL) وهو اسم الإله الأعظم عند السومريين...[6].

(2)
وُلد أدونيس سنة 1930، بقرية "قصّابين"، قرب بلدة جَبَلَة شمالي غرب سوريا، في منطقة اللاذقية، ونشأ في بيئة ريفية، وفي جو عائلي تطبعه التقاليد العلوية الشيعية. تعلّم في صغره القراءةَ والكتابة في الكتّاب، وحفظ على يد أبيه، في بيته، شيئا من الشعر العربي وشيئا من المأثورات المتصلة بتراث الطائفة العلوية. ولمّا بلغ الرابعة عشرة من عمره أُلحق بالمدرسة العلمانية الفرنسية، في طرطوس، مكافأةً له على نباهته وذكائه وموهبته الأدبية المتميزة[7]. بعد خمس سنوات حصل على شهادة الباكالوريا، ثم تابع دراسته، ما بين 1950 و1954، بالجامعة السورية[8]، في قسم الفلسفة بكلية الآداب، حيث نال درجة الأستاذية بأطروحته عن "الصوفية العربية"[9].
كان في شبابه عضوا مناضلا في صفوف الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي أسسه النصراني اللبناني أنطون سعادة سنة 1932. وكان أنطون هذا من أعلام دعاة المذهب اللائكي اللاديني، على منهج سلفه فرح أنطون، فضلا عن أنه كان من دعاة فصل القطر السوري عن أمته العربية الإسلامية، وربطِه بأطلال الحضارة الفينيقية البائدة، وجعلِ مُثِله العليا في آلهة الأساطير المأثورة عن تلك التواريخ السحيقة[10]. وفي لقاء صحفي وصف أدونيس، وقد كان في الرابعة والسبعين من عمره، عمله الحزبيَّ في سوريا بأنه كان "فترة طفولية ومدرسية"، وذَكر، في هذا اللقاء، أنه ترك العمل الحزبي منذ سنة 1961.[11]
في صفوف هذا الحزب تعرّف أدونيس على (خالدة سعيد)، وكانت هي كذلك من مناضلات الحزب، وتزوجها سنة 1956.
وعلى إثر المحن التي ابتُلي بها الحزبُ القومي السوري، فرّ أدونيس إلى لبنان وانخرط في نضالات الأممية الثورية الشيوعية. وهو يذكر، في أحد حواراته، أن الذي دعاه إلى الهجرة إلى لبنان ثلاثة أسباب، الأولُ معارضُته للنظام الحاكم في سوريا، والثاني مشروعُ المجلة مع يوسف الخال، والثالث حبّه لبيروت[12]. ويرى أدونيس، في هذا الحوار، أن انتقاله إلى بيروت شكل لحظةَ تحول تاريخي في حياته؛ يقول عن هذه اللحظة: "إنها لحظة يتعذر عليّ تقديرُها، تلك التي كانت الجسرَ الذي حملني، ناقلا حياتي من ضفة إلى ضفة، إذ بهذه اللحظة أيضا، يمكن أن تؤرخ حياتي. كانت بداية لأحلاف وعهود كثيرة عقدتها مع المستقبل، واثقا أنه خير لي أن أحتضنَ صحرائي وأتابع الهواء الذي يحمل رائحة البحر. ولم أندم، ولم آسف على شيء."[13]
 شارك أدونيس بنشاط كبير في تحرير مجلة "شعر"، التي أسسها يوسف الخال، في لبنان، سنة1957[14]. وبعد اختلافه مع يوسف الخال، وانفصاله عن جماعة "شعر"، أسس سنة 1968 مجلة "مواقف"، التي امتازت، مع "شعر"، بحمل لواء المذهبية الحداثية في مضمار الفكر والأدب والنقد.
في سنة 1960، حصّل أدونيس، من الحكومة الفرنسية، على منحة للدراسة في فرنسا[15]. وقد بلغ من اعتداده بنفسه وثقته في مواهبه وقدراته أنه كان يرى نفسه أكبرَ مِن أن تستوعبه مؤسساتُ التعليم الرسمي المنتظم، ولو كانت هذه المؤسسات في العاصمة الفرنسية باريس[16].
وفي سنة 1973، نال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة القديس يوسف، في بيروت، عن أطروحته المشهورة حول "الثابت والمتحول/بحث في الاتباع والإبداع عند العرب"، وبعدها اشتغل بالتدريس بالجامعة اللبنانية.
وبعد اشتعال الحرب الأهلية في لبنان، عاد إلى سوريا سنة 1976، حيث عمل أستاذا في جامعة دمشق، ومحررا أدبيا في صحيفة الحزب الحاكم "الثورة"[17].
اشتغل، منذ 1981، أستاذا زائرا في بعض الجامعات ومراكز البحث، في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا.
نال عدة جوائز، عربية ودولية، في مجال الإبداع الشعري. وهو من المثقفين العرب المرشحين لجائزة "نوبل" العالمية منذ سنة 1988.
في سنة 1995، قرر اتحاد كتاب العرب، في دمشق، طردَ أدونيس بسبب مشاركته في مؤتمر غرناطة، بإسبانيا سنة 1993، إلى جانب عدد من المثقفين الإسرائيليين، بكلمة حُملت على أنها دعوةٌ إلى التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني الذي ما يزال يغتصب أرض فلسطين. وقد قامت دنيا المثقفين العرب، بمختلف ألوانهم، لهذا القرار الذي اعتبروه ظلما صارخا في حق أدونيس، وفي حق الفكر والمفكرين، والثقافة والمثقفين عموما. وقد أصدر اتحاد كتاب المغرب، الذي كان يرأسه يومئذ الاشتراكي المعارض محمد الأشعري-كان معارضا قبل أن يدخل إلى حظيرة المخزن هو ورفاقه فيما عُرف بحكومة التناوب برئاسة عبد الرحمن اليوسفي سنة1998- بيانا يندد فيه بقرار طرد أدونيس.
اشتهر أدونيس بتنوع تجاربه الحداثية، وكذلك بكثرة كتاباته واستجواباته ومقالاته. وقد تُرجمت بعض أعماله إلى بعض اللغات الأجنبية.

في المقالة القادمة، إن شاء الله: لماذا نسبةُ مدرسةٍ لأدونيس؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 29 أكتوبر2016






[1]  أدونيس هو اسم أحد الآلهة المشهورة في الأساطير الفينيقية.
[2]  عشتار هي إلهة الحب والحرب في أساطير البابليين. كان السومريون يطلقون عليها عناة، والعرب يسمونها عثتر، والإغريق يسمونها أفروديت.
[3]  عن مجلة (عيون)، عدد6، السنة الثالثة 1998، كولون-ألمانيا. يُراجع أيضا حوارُ أدونيس مع أندريه فيلتر، في جريدة "لوموند" الفرنسية، 30 نونبر1984. وقد أعاد كاظم جهاد نشرَ هذا الحوار في كتابه "أدونيس منتحلا"، ص163-167.
[4]  جريدة "لوموند" الفرنسية، 30 نونبر1984. عن كتاب "أدونيس منتحلا"، لكاظم جهاد، ص164.
[5]  من كتاب بالفرنسية  Conversations avec Adonis, mon père(محادثات مع أدونيس أبي)، ص46. والكتابُ عبارة عن أحاديثَ دارت بين البنت (نينار) وأبيها أدونيس في جلسات متفرقة استمرت من نونبر2003 إلى شتنبر2004. وقد جَمعتْ نينار هذه الأحاديث ونشرتها في مارس2006 بعنوان: (محادثات مع أدونيس أبي).
[6]  نفسه، ص46.
[7]  لقد كان التحاقُ أدونيس بالمدرسة الفرنسية بطرطوس مكافأةً له على القصيدة المدحية التي قرأها في الاحتفال الذي نُظم لاستقبال رئيس الجمهورية ببلدة (جبلة).
[8]  يقول أدونيس عن حياته الجامعية في دمشق: "دخلت أولا كلية الحقوق. أمضيت قرابة السنة، ثم رأيت أنني لا أستطيع أن أتابع فيها، فانتقلت إلى كلية الآداب، قسم الفلسفة؛ كنت أشعر أن قسم اللغة العربية لن يفيدني شيئا، لأنني كنت أعرف مسبقا، لغةً وشعرا، ما سأدرسه فيها، لذلك اخترت الفلسفة، قائلا في ذات نفسي: ربما أفيد من الفلسفة، فتفتح لي آفاقا فكرية غريبة علي..."(من الحوار المنشور في مجلة "عيون"، مرجع سابق(م.س))
[9]  في حدودِ علمي واطلاعي، لم تعرفْ هذه الأطروحةُ طريقها إلى الطبع والنشر. وقد يكون سببُ ذلك، في تقديري، راجعا إلى مضامينَ في الأطروحة تخالف العقائدَ الإسلامية. ولعل هذا، في تقديري دائما، هو ما جعل الطالبَ أدونيس يختار لأطروحته عنوان "الصوفية العربية" وليس "الصوفية الإسلامية". ومهما تكن صحةُ هذه التقديرات، فإن أدونيس، اليوم، بات مشهورا بصوفيته "اللادينية"، وأفكارُه في الموضوع أصبحت معروفة ومنشورة، وخاصة في الجزء الثاني من "الثابت والمتحول"(تأصيل الأصول)، وفي كتاب "الصوفية والسوريالية". وسأرجع، لاحقا، إلى صوفية أدونيس في فصل مستقل من فصول هذه المقالات.
[10]  يقول أنطون سعادة مِن مقال حول "بعث الأدب السوري"، مؤرخٍ بفاتح يونيو1933(مجلة "المجلة"، المجلد8، العدد4): "...من أسطورة الإله أدونيس بن تاياس الملك السوري العظيم يدرك المرء الدرجةَ الرفيعة من الجمال التي تبوأتها النفسية السورية، ومنها اكتسبت النفسيةُ المصرية إلهها أوزوريس، والنفسيةُ الإغريقية الإله السوري نفسه. زفاف أدونيس إلى برسفون فراقٌ ووحشة وفراغ وأسى: الشتاء البارد العاري. وزفافه إلى أفروديت عرسٌ وفرح وامتلاء وبهجة: الصيف المنّور المثمر، الممتلئ حياة! هذه هي الرواية السورية الإلهية للكمون والنمو والإنتاج؛ هذه هي الأسطورة الجميلة التي جمعت بين سر الكمون والاستتار وعلانية الحركة والظهور ، بين سمو التفكير وعمق الشعور. وهذه هي النفسية السورية ببساطتها وغرابتها".
[11]  صحيفة "القدس العربي"، 06/04/2004.
[12]  يقول أدونيس في هذا الصدد: "تركت سوريا لأسباب سياسية، أولا. لم تكن تعجبني أفكار النظام آنذاك ولا ممارساته. وكنت مناوئا، فكريا، لنظريات "القومية العربية" والوحدة العربية، كما كان يطرحها كُتّاب هذا النظام ومفكروه. وقد أمضيت قرابة السنة في سجن المزة بدمشق، وفي السجن العسكري بالقنيطرة، دون أن أحاكم. وخرجت، بعد هذه السنة، بريئا! وتركتها ثانيا، لكي ألتقيَ بيوسف الخال، لأنه كتب لي من نيويورك أنه عائد إلى بيروت، وأن في نيته إصدارَ مجلة تعنى بالشعر العربي، وبالحداثة الشعرية خصوصا، وأنه سيكون سعيدا بالتعاون معي في إصدار هذه المجلة. وتركتها ثالثا، شغفا ببيروت، ورجاء بحياة لا طغيان فيها"(من حوار لـِ(مارغريت أوبانك) و(صموئيل شمعون) مع أدونيس. نُشر نصه الأصليُّ في مجلة (بانيبال)، في لندن، بالإنجليزية، وترجمته مجلة (عيون) التي تصدر في كولون بألمانيا-عدد6، السنة الثالثة، 1998).
[13]  عن المرجع السابق.
[14]  هناك رأيان مختلفان حول أصل علاقة أدونيس بمجلة "شعر". فالأول، وهو رأي أدونيس نفسه، أنه كان شريكا ليوسف الخال، منذ البداية، في تأسيس المجلة، والرأيُ الثاني أن أدونيس التحق بالمجلة بعد التأسيس. يقول أدونيس، متذكرا لقاءه الأولَ مع يوسف الخال: "في الأسبوع الأول مِن وصولي إلى بيروت، أواخر أكتوبر 1956، التقيت بيوسف الخال. ومنذ لقائنا نشأت بيننا صداقةٌ قوية، شعريا، وإنسانيا. وكنا معا دائما، في بيته. كان واعيا وواثقا أنه سيفتح بهذه المجلة، مجلة "شعر"، أفقا جديدا للشعر العربي. وكان قد تحدث عنها مع أصدقاء وشعراء آخرين. كان هذا اللقاءُ الأول بيوسف الخال لقاء عمل. كنا كمثل شخصين أقاما عهدا بينهما، دون أن يعرف أحدهما الآخر، ودون أن يلتقيا، ولم يكن لقاؤهما إلا لكي يضعا هذا العهدَ موضع الممارسة. هكذا بدونا، في لقائنا، كمثل شخصين تربط بينهما صداقة قديمة، قدم الشعر؛ كمثل شخصين يسكنهما هاجسٌ واحد من أجل قضية واحدة: التأسيس لكتابة شعرية عربية جديدة؛ كمثل شخصين لا سلاح لهما غير الشعر والصداقة والحرية، لكنهما يشعران في الوقت نفسه، أنهما القويان اللذان لا تغلبهما أية قوة"(نفسه).
[15]  يقول أدونيس عن مدينة باريس، وهو يراها لأول مرة: "كانت باريس الصدمة الأولى في زياراتي لمدن العالم. قرويٌّ فقير لم يكن يحلم حتى برؤية دمشق أو بيروت، وها هو في باريس. كان الواقع كمثل الحلم. وقد بقيت مني باريس فترة لا أعيشها إلا بوصفها حلما...". ويصف المدى الذي بلغته علاقتُه العاطفية بباريس قائلا: "وفي زياراتي لمدن أخرى، كنت أشعر أن باريس تهيمن علي؛ إنها تحول دون أن تدخلَ إلى نفسي أية مدينة أخرى غيرها. وكنت أشبهها بين المدن، بالنسبة إلي، باللغة العربية بين اللغات؛ فاللغة العربية مقيمة في كل خلية من خلاياي، وهي تحول بغيرة عنيفة، أن تدخل إلى نفسي أية لغة أخرى، كأني ملك خاص لها"(نفسه).
[16]  فهو يحكي، مثلا، أنه، في بداية حياته الجامعية، أعرض عن الدراسة في قسم اللغة العربية، لأنه كان يشعر أنه لن يفيده شيئا، لأنه كان يعرف مسبقا ما سيدرسه في هذا القسم، ومع ذلك، فهو، كما يحكي، لم يكن يتابع دراسته بانتظام، "والحقيقة- كما يقول- أنني لم أكن طالبا، بالمعنى الحصري لهذه الكلمة"(نفسه). ويحكي عن اللغة الفرنسية أنه لم يدرسها في المدرسة، وإنما درسها بنفسه، اعتمادا على القاموس(نفسه). ولي ههنا سؤال: ماذا كان يفعل الطفل علي، وهو في الرابعة عشرة من عمره، في المدرسة الفرنسية اللائكية بطرطوس؟
ويحكي، أيضا، أنه لم يكن ناجحا في كلية ضباط الاحتياط، التي قضى بها زهاء سنة، بعد تخرجه من الجامعة، فيما كان يُسمّى "خدمة العلم"؛ فجميع زملائه تخرجوا من هذه الكلية برتبة ضابط، إلا هو، فقد تخرج برتبة رقيب أول(نفسه). نفس الشيء حينما سافر للدراسة في فرنسا؛ يقول أدونيس: "ربما، بسبب من سيطرة هذا السحر[يقصد سحر العالم الجديد أي سحرَ باريس]، لم أقدر أن أتابع دراسة الفرنسية في مدرسة "الأليانس"، فبعد أسبوع من دخولي إليها، قررت أن أهجر الدراسة نهائيا"(نفسه).
[17]  أدونيس منتحلا، لكاظم جهاد، ص170.

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

المدرسة الحداثيّة الأدونيسيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

المدرسة الحداثيّة الأدونيسية
(كتابٌ في مقالات)


تقديم:
في كتابي "المودرنيزم وصناعة الشعر؛ الأصول والفروع"، الذي نشرته سنة 2005، ذكرت في هامش رقم3، في صفحة254، أني سأُتبع هذا الكتاب-كتابَ المودرنزيم-بكتاب "ثان سيتناول، بشيء من التفصيل، المدرسةَ الحداثية الأدونيسية، أصولَها ومميزاتِها".
قلت هذا سنة 2005، لكن هذا الكتابَ الثاني لم يظهر، وإن كانت بعضُ أفكاره الأساسية قد ظهرت مبثوثة في مقالات متفرقة، منها مقالة مطولةٌ بعنوان "بنتُ أدونيس في معرض الكتاب بالدار البيضاء"، سنة2008، ومنها سبع مقالات نشرتها سنة2011، بعنوان "الوجه الآخر لأدونيس"، ومنها خمس مقالات أخرى نشرتها سنة2013، بعنوان "القرد الفنان ونقاد آخر الزمان"، ومنها رسالةٌ "إلى المُعجَبين بأدونيس من أبناءِ المسلمين وبناتهم"، في مقالتين، سنة2013.
لقد استطعت، خلال زهاء عشرين سنة من البحث والتتبع، أن أجمع مادة كافية، لتناولِ "المدرسة الحداثية الأدونيسية"، كما تصورتها، وعرضِ أصولها ومميزاتها الإيديولوجية، كما تُجليها نصوصُ أدونيس المطبوعة، وتصريحاتُه وحواراته المنشورة، لكن الوقت لم يسعفني، لمراجعة هذه المادة بما يلزم من الضبط والتصحيح والترتيب، ثم تنظيمها وتنسيقها، لإخراجها في كتاب.
وإني أجدني اليوم متحمسا أكثر من العادة لإخراج هذا الكتاب للقراء، وذلك لعدة دواعٍ، منها ثلاثة، على الأقل، أراها أساسية:

الداعي الأول أن الإلحاد المناضلَ-سأوضح بعد قليل مقصودي من هذه العبارة-صار له اليوم، في البلاد العربية الإسلامية، نشاط علني، نراه يتطور وينتشر ويحتل المواقع والمنابر، ويحقق انتصارات في بعض الجولات، وبِتنا نحسّ له دبيبا متصاعدا، وخاصة في المجالات الفكرية والاجتماعية والأدبية والفنية، ونسمع له رِكْزا متناميا في المنابر الإعلامية الرسمية، وفي التنظيمات المدنية، وبخاصة تلك التي تُعنى بموضوع الديمقراطية وما يتعلق بهذا الموضوع من قضايا حقوق الإنسان والحريات الفردية.
لقد بات للملحدين المناضلين صوتٌ واضح بلحونه ومغالطاتِه وتلبيساته، نسمعه اليوم يتردد في فضاءات ما كنا نظن، حتى الأمس القريب، أن الإلحاد بإمكانه أن يصل إليها؛ كنا نظن، لكن الحقيقة اليوم تكذب الظنَّ، لأنها حقيقة باتت تملأ العين والسمع، ولا سبيل إلى إنكارها.
لقد كثرت جمعياتُهم ومنابرُهم، في الواقع وفي مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية، وبات همّهم مسكونا برصد أنفاس الإسلاميين وملاحقة أفكارهم، في خطاباتهم وسلوكاتهم وكتاباتهم ومحاضراتهم وخطبهم وغير هذه من الصور التي يعبر بها الإسلاميون عن أفكارهم وآرائهم، وإن كان لهم، في هذه الأفكار والآراء، سند من آيات القرآن البينات القاطعات، ومن أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المتواترة الصحيحة؛ لقد باتوا يتطاولون اليوم على أركان الإسلام، جهارا نهارا، بلا أدنى رادع من حياء أو خوف؛ باختصار، يريدون أن يفرضوا على المسلمين إسلاما على هواهم، وقرآنا على مقاسهم، وأخلاقا على قدّهم.

والداعي الثاني أن الحداثيين عندنا-سأتكلم بعد قليل عن مقصودي بالحداثيّين، وسأفرد حيزا خاصا في مقالة من مقالاتي القادمة للحديث عن "الحداثة" و"الحداثيّة" وما بين الصيغتين من فرق في المفهوم والمقصد الدلالي الإيديولوجي-
قلت إن الحداثيّين، عندنا، رغم انكشاف منطلقاتهم واتضاح غاياتهم، ما فتئوا يتكئون، في خطاباتهم ومقالاتهم، على لغةٍ مراوغة مداورة، وذلك ديدنُ المنافقين في المجتمع المسلم في كل زمان ومكان.
 فالملحدون، في البلاد العربية الإسلامية، وأقصد المناضلين منهم بالتحديد، منافقون منذ كانوا، لأنهم يعرفون أنهم زائلون مندثرون مستأْصَلون إن هم ظهروا للناس بوجههم الحقيقي، وكشفوا عما تكِنّه ضمائرهم، وما تنطوي عليه صدروهم من حقيقة معتقدِهم ودفينِ إلحادهم. فمقالاتُهم الإلحادية معروفة ومشهورة، لكنها معروضةٌ في أزياء مختلفة متلونة من أجل المخادعة والمغالطة والتخليط والتشويش والتمويه.
هل من حق الإنسان أن يكون ملحدا؟ الجوابُ: نعم.
هل للإنسان الحريةُ أن يعتقد ما يشاء، ويعتنق من المذاهب ما يريد؟ الجواب: نعم.
هل من حق الإنسان أن يختار دينَه من غير إكراه ولا إلزام ولا ضغط من أي جهة، كيفما كانت هذه الجهة؟ الجواب: نعم.
الجواب على هذه الأسئلة وأشباهها مما يتعلق بحرية الاعتقاد، إنما أجد أصلَه في قوله تعالى: "لا إكراه في الدين، قد تبَيَّن الرشدُ من الغيِّ...الآية"، قبل ظهور المواثيق الدولية وإعلاناتِ حقوق الإنسان الحديثة.
أتابعُ فأسأل: هل من حق الإنسان أن ينتهِك حرمة قانون المجتمع، ويعملَ على خلاف مقتضيات هذا القانون؟ الجوابُ: لا.
هل من حق الإنسان، كيفما كانت وضعيّتُه ومكانته وحيثيته، أن يحارب قوانين المجتمع وأعرافَه؟ الجواب: لا.
هل من حق الإنسان أن يحاربَ معتقدات المجتمع، ويجتهدَ، بكل السبل والوسائل، بما في ذلك التزويرُ والكذب والافتراء، للطعن عليها وتشويهها، ورميِ معتنقيها بكل باطل، واتهامِهم بما لا يسَوِّغُه، عند الناس، قانونٌ، ولا دين، ولا عقل، ولا ضمير، ولا خُلُق؟ الجواب، طبعا: لا.
والجواب على مثلِ هذه الأسئلة بنعم، إنما أجد أصلَه ومسوّغه فيما فرضته الأديانُ، وتعارف عليه الناس، مِنْ وجوب احترام القانون، وضرورةِ فرض تطبيقه، من أجل النظام والعدالة والسلم، على أن يكون الجميع سواسية أمام هذا القانون، بلا تمييز ولا استثناء.
فالحداثيون اللادينيون، عندنا-سأبيِّن بعد قليل مقصودي بالحداثيين اللادينيّين-وفي مقدمتهم الملحدون المناضلون، يطالبون بأن يكون من حقهم، دون سواهم، أن ينتهكوا حرمة الدين، وأن يخرجوا على القانون، ويتطاولوا على الأعراف، لأن ذلك، في زعمهم، من مقتضيات حقوق الإنسان وحريته!!
والمتتبعُ اليوم للمعارك التي يفتعلها الحداثيون اللادينيون للطعن والاحتجاج على الإسلاميين، بل لمناهضة الإسلام وأحكامه وأخلاقه، لا يفوته أن يلاحظ أن معظم هذه المعارك المفتعلة، إن لم يكن كلها، إنما هي لصيقة بالمحرمات، في الدين والقانون والعرف؛ فالزنا، مثلا، وهو علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة، من السلوكات التي يحرمّها الإسلام، ويجرّمها القانون في المجتمع المسلم-أقول في المجتمع، لأنه قد يوجد في هذا المجتمع، بلا شك، أفراد يرفضون هذا القانون- والدعوة إلى إباحة الزنا بين المسلمين، هو جحود بحكم ديني قطعي، ودعوة إلى انتهاك القانون، التي يحتكم إليه المجتمع، والذي به يستمر النظام والاستقرار، وتتحقق العدالة، وإلا فهو نظام الغاب، والفوضى، والتظالم، والتطاحن، والتفتت، وذهاب الريح.
مثال آخر هو الشذوذ، بنوعيه الرجالي والنسائي؛ فالدين يحرمه، والقانون يجرمه، والحداثيون اللادينيون يسعون من أجل إقراره في المجتمع مظهرا من مظاهر حقوق الإنسان والحرية الفردية. وفي هذا السعي الحداثي جحود بأحكام الدين، وانتهاك للقانون.
مثال رابع هو المجاهرة بالسلوكات الفاحشة الفاجرة، والتسامح مع الدعارة المقَنَّعَة، والدفاع عن المس بالأخلاق العامة، باسم الفن والإبداع؛ فأحكام الإسلام، وأخلاق الإسلام، وآدابُ الإسلام، وسمت الإسلام، واضحة في شأن الموقف من الدعارة، الظاهرة أو المستخفية، ومن السلوكات الفاجرة، تحت أي اسم كانت، ومهما كان الغطاء الذي به تتغطى، والشعارُ الذي به يكون التسويغ والترويج. الدعارةُ دعارةٌ، والفجور فجور، مهما كانت الأسامي البراقةُ الخداعة، التي يتم التستر بها والاحتماء بها، ومهما كانت التبريراتُ التي يقدمها الداعرون الفاجرون لنشر المنكرات، وإشاعة الفواحش بين المسلمين.
والقانون، في المجتمع المسلم، هو أيضا صارم في تجريم الدعارة وإدانة الفواحش ومرتكبيها ومشيعيها، لكنه، مع الأسف، كغيره من القوانين الكثيرة، لا يُطبَّق ولا تُحرَّك مساطره إلا في حالات مشبوهة، يكون الغرض منها، أساسا، الإيقاع بخصم سياسي، أو النيل من معارض غير مَرضيّ عنه، وهذا موضوع آخر، ليس ههنا موضع التفصيل فيه.
مثالٌ ثالث وهو شرب الخمر؛ فالإسلام يحرمه، والقانون يجرم إعلانَ شربه، كما يجرم بيعه للمسلمين، وينظم صناعتَه وتجارته واستهلاكه، على ما في هذا القانون من عيوب وغموض وثغرات ونقائص. لكن الحداثيين اللادينيين، وفيهم كثيرون من مدمني الخمر، لا يرون في هذا القانون إلا قيدا على الحريات، وانتهاكا لحق من حقوق الإنسان.
والعجيب الغريب، عندي، أن هؤلاء الحداثيين الذين يدعون إلى أن يكون الخمر مباحا في المجتمع المسلم، رغم ما يكون منه-وهو أمُّ الخبائث-من مصائب ومنكرات ومضارّ أقلُّها تبذير المال، والتسبب في المشاكل العائلية وما يترتب على هذه المشاكل من مآس ومعاناة، والمسُّ بالصحة العمومية، على مستوى الأفراد خاصة، فضلا عما يرتكبه متعاطي الخمر من معصية حينما يتناول ما أمره الله أن يجتنبه-
قلت العجيب الغريب، عندي، هو لماذا لا يفعل هؤلاء الحداثيون الذي يدعون إلى تحليل الخمر بين المسلمين نفسَ الشيء مع المخدّرات؟ لماذا يجب عندهم محاربةُ المخدرات، وتجريمُ تجارتها واستهلاكها؟ أليس الضرر واحدا، في الخمر والمخدرات، وقد يكون الضرر في الخمر أكبر، إذا قارنا حجم آثارِها المدمرة على الفرد والأسرة والمجتمع بآثار المخدرات؟ أليست التقاريرُ المتعلقة بالصحة العمومية تشهد بما يحدثه استهلاكُ الخمر وإدمانُها من خسائر فادحة وأضرار بالغة على مستوى الصحة العامة وميزانية الدولة؟
نعم، الديمقراطيةُ تعني أن يتنافس السياسيون من أجل تغيير القوانين، أو تعديلها، أو وضعِ قوانين جديدة، وكلُّ ذلك من أجل حماية المجتمع، في دينه وأخلاقه وصحته وماله وأسرته وغير أولئك مما تجب حمايتُه من حقوق المجتمع المسلم، الروحية والمادية والمعنوية. ولا أحد يمنع هؤلاء الحداثيين اللادينيين أن يتنافسوا من أجل تغيير القوانين التي لا تعجبهم. ولكن، يجب عليهم، قبل ذلك، أن يَظهروا للناس بوجوههم الحقيقية، وأن يُقنعوا المسلمين بما يسعون إليه من تحريم الحلال، وتحليل الحرام، لأن الخمر والزنا والشذوذ والمجاهرة بالمنكر، ستظل دائما، في اعتقاد المسلمين، من المحرمات، وإن بات الناس أجمعون من متعاطيها.
من حق هؤلاء الحداثيين اللادينيين أن يسعوا إلى تغيير القوانين بالطرق المشروعة المعروفة. لكن، لا بد أن يكشفوا للناس عن حقيقتهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم؛ باختصار، لا بد أن يصارحوا المجتمع-وغالبية هذا المجتمع من المسلمين-بأنهم يسعون لأن يصبح دينُ الناس محبوسا في قلوبهم، وسلوكا باردا في شعائر تؤدَّى لا يربطها بحياة الناس وواقعهم ومعاملاتهم وتربيتهم وأخلاقهم رابط. لا بد أن يصارحوا الناس بأن ما يسعون إليه، بوحي من لادينيتهم، إنما هو التطبيع مع المنكرات والمعاصي، والتصالح مع الشيطان.

الداعي الثالث من الدواعي التي تجعلني اليوم متحمسا أكثر لنشر ما عندي عن المدرسة الحداثية الأدونيسية هو هذا المناخ العالمي والإقليمي-والمناخ المحلي القطري متأثر، لا محالة، بما يجري في محيطه الإقليمي والعالمي-الذي فرضته الحربُ التي أعلنها الغربُ، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على ما أصبح يُعرَف بالإرهاب، وخاصة بعد ما أصاب أمريكا جراء تفجيرات نيويورك وواشنطن في شتنبر2001.
لقد أصبح المسلمون على رأس المتهمين بالإرهاب العالمي، وبات مفروضا على الدول العربية والإسلامية، وهي دول خاضعة، في معظمها، للنفوذ الأمريكي، أن تعدّل من قوانينها، وأن تدخل كثيرا من التغييرات على برامجها التربوية والتعليمية، وأن تتخذ العديد من الإجراءات الاستثنائية، من أجل التكيف مع هذا الخط الذي فرضته أمريكا على العالم.
واليوم، ما مِن عمل تُشتمّ فيه رائحة "الإرهاب"، إلا والمسلمون هم المتهم الأول، حتى تثبت براءتُهم. وما يزال المسلمون المقيمون في المهجر، وخاصة من ذوي الأصول العربية، إلى اليوم، يعانون الأمرين بسبب السياسات التي ينتهجها الغرب وحلفاؤه في هذا المضمار، أي محاربة ما يسمى بالإرهاب.
وقد تضاعفت وتيرةُ هذه الحرب والإجراءاتُ الاستثنائية المصاحبةُ لها بعد ظهور تنظيم ما يُعرف اليوم، اختصارا، بـ"داعش"-أي الدولة الإسلامية في العراق والشام؛ وقد تغيرَّ اسمُ هذا التنظيم، فأصبح "الدولة الإسلامية" فقط- وتضاعف معها اتهامُ الإسلاميين في البلاد العربية الإسلامية بما لا يُعدّ ولا يُحصى من الأباطيل، حتى بات كل مَن لا يرضى عنه الحداثيون اللادينيون متهما بأنه "داعشي"؛ ومِن النكت في هذا الباب أن السيد عبد الإله بنكيران، رئيسَ الحكومة المنتهية ولايتُها، وهو المخزني المخلصُ، في ولائه ووفائه، بات متهما عند حداثيينا اللادينيّين بأنه "داعشيّ"، وبأنه يسعى لإقامة دولة على شاكلة "الدولة الإسلامية"، التي نسمع عنها وعمّا يُنسب إليها من منكرات وفظاعات وبشاعات الشيءَ الكثير في الإعلام؛ فهل هناك مِن نكتة أسخف من هذه؟ وهل هناك هزلٌ أَسَفُّ مِنْ هذا وأحَطّ؟ بنكيران المخزني القحُّ يريد أن يقيم دولة "داعشية" في المغرب!!
هذه الحرب العالمية على الإرهاب، التي أُعلنت قبل الحادي عشر من شتنبر2001، والتي بات عليها اليوم، وعلى مُعلنيها الأصلاء، وعلى الأهداف الحقيقية منها، أكثرُ مِن علامة استفهام-هذه الحرب بقيادة أمريكا، ومِن ورائها حلفاؤها وصنائعُها وأدواتها مِن الأنظمة المستبدة والحكام الطاغين الظالمين-هذه الحربُ أصحبت تشكل الغطاءَ المثالي لقمع المعارضين في الدول التي تحكمها أنظمةٌ بوليسية استبدادية، كما أصبحت المسوِّغَ السهل الذي يلجأ إليه الحداثيون اللادينيّون لإلصاق تهمة الإرهاب بخصومهم الإسلاميين، بعد أن يئسوا مِن إمكانية هزيمتهم سياسيا وديمقراطيا، فكان لا بد أن يلجأوا-وهذا مِن الأخلاق الدنيئة المركوزة في طبيعتهم-إلى هذه الأساليب الخَسِيسة اللئيمة، للتحريض على خصومهم من الإسلاميين، ومحاولةِ النيل من مصداقيتهم لدى الجماهير المسلمة، وتشويهِ صورتهم لدى الرأي العام، والطعنِ على مشروعهم الفكري والسياسي، وتصويرِه، في أعين الناس، على أنه الشر المطلق، الذي لا يأتي منه إلا الخَسَار والدمار والبَوَار.
هذه الحرب "العالمية" المشتعلة في أكثر من جبهة على "الإرهاب" أصبحت المطيّة الوطيئة، التي يركبها الحداثيّون اللادينيّون، مِن مختلف الاتجاهات، مِن السياسيين ومِن غيرهم مِنَ المثقفين والمفكرين والفنانين، لمواجهة المد الإسلامي، الذي ما فتئ يتصاعد، رغم كل العوائق والحواجز والموانع، ورغم كل حملات التشويه والتزوير والتلفيق، الذي تُوظِّف الإمكانيات الهائلةَ، سياسيا وإعلاميا وفكريا وفنيا، ولا تترد في استعمال الوسائل الوضيعة الظالمة، لأن الغاية عنهم تبرر كل الوسائل.

في المقصود مِنْ بعض العبارات
أنا حريص دائما على الوضوح في كلامي، لأني أتجنب التعميةَ على القارئ بتجنب استعمال العبارات التي تحتمل أكثرَ من وجه في دلالتها، وبتجنب استعمالِ الكلمات التي يمكن أن يلتبس على القارئ فهمُ معانيها. وأقصد الوضوحَ أيضا باستعمال المفاهيم الصافية البسيطة، وتنَكُّبِ المفاهيم المعقدة المختلطة، التي لا يجني القارئ من ورائها، في الغالب، إلا الحيرةُ وسوءُ الفهم، مما يؤدي، في أحيان كثيرة، إلى فقدان التواصل بين الكاتب والقارئ، ومِن ثَمَّ فقدان التفاهم.
وحرصا على أن يكون حبلُ التواصل بيني وبين القارئ دائما قويا وموصولا، فإني أرى في هذه المقالة-المقدمة أن أوضح مقصودي من بعض العبارات، التي يكثر ورودها في كلامي، حتى أعرّف القارئَ مباشرة، وبدون واسطة، المفهومَ الذي أريده، والمعنى الذي أرمي إلى تبليغه.
وهذه، في جملة مختصرة، بعضُ التوضيحيات في شأن بعض العبارات التي تترد كثيرا في كلامي ومقالاتي:

التوضيح الأول:
ماذا أقصد بالملحد المناضل؟
أقصد بالملحد المناضل الملحدَ الذي لا يكتفي بإلحاده لنفسه، بل يسعى لترويجه والدعوةِ إليه بين المسلمين؛ فالملحدُ حرٌّ ألاّ يؤمن بالله، ولا برسله، ولا بكتبه، ولا بملائكته، ولا باليوم والآخر، ولا بالبعث، ولا بالنشور، فهذا شأنُه واختياره، وهو مسؤول عما يختار. وليس مِن حرية الاعتقاد في شيء أن يتجرأ الملحد على دين الله بالباطل الصريح، وأن يسعى بكل الوسائل، وفي مقدمة هذه الوسائل الكذبُ والتزويرُ والافتراءُ والوقيعةُ في الأعراض، من أجل صدّ عامة المسلمين عن دينهم، وتنفيرهم منه، وجعلهم يكرهونَه، كما يفعل هو، ويبتغون بدلا عنه، كما فعلَ هو، الإلحادَ سبيلا مِن أجل الخلاص والتقدم والرفاه.
ليس مِن حرية الملحد، في مجتمع مسلم يحكمه قانون، أن يتجرأ بالباطل على الإسلام، دين الأغلبية، وأن ينتهكَ القوانين التي تنظم شأن المجتمع المسلم. وإنما حقُّه أن يظهرَ للناس بوجهه الحقيقي، وأن يقول لهم، بالفم المَلْآن، وهم يسمعون: أنا ملحد، وأنا لا أريد أن أحتفظَ بإلحادي لنفسي، وإنما أنا ساع بينكم لأقنعَكم لتكونوا ملحدين، أو على الأقل، لئلا يكون لإسلامكم تأثيرٌ، ولا توجيه، ولا تحكّمٌ، في حياتكم، وخاصة فيما له شأن بأخلاقكم وسلوكاتكم ومعاملاتكم. حقُّه أن يظهرَ بوجهه الحقيقي للناس، وأن يعمل، بالطرق المشروعة، وفي إطار احترام القانون، من أجل إقناع الناس، والفوز بأصواتهم، ونيل دعمهم ونصرتهم لمشروعه. وإلاَّ يفعلْ، فهو ملحد مناضل، يعمل ضد الدين والقوانين والأعراف، وليس وراء سعيه، اليوم وغدا، إلا الإفلاس والفتنة والتخبط والتَيَهان.

التوضيح الثاني:
ماذا أقصد باللاّدينيّ؟
أقصد باللاّدينيِّ كلَّ صاحب مقالة تقول بلا للدين في الأخلاق العامة، ولا للدين في الفنون والآداب، ولا للدين في التربية والتعليم، ولا للدين في الاقتصاد، ولا للدين في الإعلام، ولا للدين في السياسة، ولا للدين في غير أولئك من مجالات الحياة العامة.
والقائلون بهذه المقالة منهم مسلمون، لكنهم غافلون وجاهلون بإسلامهم، ومأخوذون بزينة الحياة الدنيا، متأثرون بالحضارة المادية اللماعة البراقة، ولا يتورعون أن يعصوا الله في كثير مما يأتون وما يدعون. ومنهم ملحدون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويجحدون النبوة، كما يجحدون الوحي. وبين المسلمين الغافلين الجاهلين والملحدين الجاحدين ألوان وأشكال من الاعتقادات والسلوكات والأفكار والاجتهادات يجمعها عنوان "اللادينية"، أي العمل من أجل ألا يكون للدين شأن في شؤون الإنسان الحياتية، إلا أن يكون عاطفةً مخفية في الصدور، وشعائر جامدة باردة منقطعة عن حرارة الحياة العامة وحيويتها وتشعباتها.

التوضيح الثالث:
ماذا أقصد بالحداثيّ اللاّدينيّ؟
لقد بيّنت في التوضيح السابق مقصودي مِن وصف "اللاديني". أما الحداثيُّ، فهو الذي ينسب نفسه إلى "الحداثة"؛ أنا أميز بين لفظتين اثنتين "حداثة" و"حداثيّة"، بصيغة المصدر الصناعي، وسأتحدث عن أسباب هذا التمييز في مقالة لاحقة إن شاء الله.
وانتسابُ "الحداثيّ" إلى "الحداثة" فيه التباس وغموضٌ يوجبُ تحريرا وتوضيحا؛ فإن كان المقصود بمفهوم الحداثة ما يقابل مفهوم القَدَامة، أي القِدم، بمعنى أن الحداثة هي الأخذ بأسباب التقدم والتطور والتحديث في مختلف المجالات، فإننا جميعا حداثيون، لأننا ما رأينا أن إسلاميا-إن كان هناك استثناء محصور في واحد في المائة أو اثنين أو ثلاثة، فإنه من الشذوذ الذي لا يُعتد به في الحكم-يرفضُ أسباب الحضارة الحديثة، ويعارض ما وصل إليه الإنسان من ثورات في مجالات الصناعات والتقنيات والاتصالات، ويجحد ما تحقق من تقدم هائل في مسيرة العمران البشري فوق الأرض، وما يتعلق بهذا العمران من تطوير وتحديث واختراع وإبداع يعمّ مختلف العلوم والصناعات والفنون.
وإن كان المقصود بالحداثة الجحودَ بالدين وأحكامه وأخلاقه، والتطاولَ على المقدسات بما يسيء ويضر ويجرّح، والتهافتَ على ارتكاب المعاصي الفواحش، فإن الإسلاميين، بلا شك، من المعارضين الرافضين.
وعلى ضوء هذا التوضيح، يكون مقصودي، في كلامي، بالحداثيّين هؤلاء الذين لا يرون الحداثة إلا اعتراضا على الدين، وطعنا على أحكامه وأخلاقه، وجراءةً على قطعيّاته ورموزه ومقدساته. انظرْ، مثلا، إلى المطالب والقضايا التي يثيرها حداثيّونا-وكثيرٌ منهم ينشط في جمعيات مدنية، وهيئات ثقافية- في معارضتهم للمشروع الإسلامي، تجدْها تركز، في الأغلب الأعم، على ما له علاقة بانتهاك الأخلاق العامة، والتطبيع مع المحرمات والفواحش، وغير ذلك مما لا علاقة له بالحداثة بما هي تطوير وتحديث وثورة مستمرة في مجالات الأفكار والعلوم والتكنولوجيا؛ همّهُم، في الأساس، منصَبّ-في تمرد صارخ على الدين والقانون والعرف الاجتماعي الإسلامي السائد- على فرضِ حق المجاهرة بالإلحاد، وإباحة الخمور، وأن يصبح الزنا سلوكا اجتماعيا عاديا، والشذوذُ مظهرا من مظاهر الحرية، والتطاولِ على أصول الدين بالتشكيك والاستهزاء، والدعوةِ إلى أن يكون التعرض للإسلام مباحا لكل من هب ودب، وإن كان هذا المتعرّضُ ممن لا يميّز كُوعا مِنْ بُوع في أمور الدين.
فهذه توضيحات ثلاثة تُبيّن بجلاء حدودَ المفاهيم التي أقصدها، والدلالات التي أرمي إليها، حتى يكون التفاهم بيني وبين القارئ قائما على الوضوح، لا يعاني من تخليط ولا تشويش ولا تعقيد.
لقد بات الحداثيون اللادينيون اليوم جبهةً متراصّة، يقف فيها المسلم الغافل الجاهل بدينه إلى جانب الملحد المناضل، وبينهما ومعهما أخلاطٌ مِن هنا وهناك، تجْمعُهم "اللادينية"، ويوحّد بينهم كراهيةُ المشروع الإسلامي، مهما كان معتدلا، لأنهم، بطبيعتهم، يكرهون فكرا يستمد مرجعيته مِن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ويرفضون الأخلاق الإسلامية، والسمتَ الإسلامي، والمجتمع الإسىلامي، الذي يسعى فيه الناس إلى طلب الحلال وتجنب الحرام، ويحرصون على فعل الطاعات وتجنب المعاصي والمنكرات.

وبعد، فقد ذكرت في هذا التقديم أهمّ الدواعي التي تدعوني اليوم إلى نشر ما عندي، مما جمّعته بعد بحث طويل، عن "المدرسة الحداثية الأدونيسية"، التي أعتقد أنها-في أصولها الفكرية الفلسفية ومبادئها النقدية وتجاربها الأدبية-ما تزال تمثل البيئة الحاضنة لتوليد الحداثيّين اللادينيّين، يتقدمهم الملحدون المناضلون، الذين ليس لهم من همّ، كما ذكرت قبل قليل، إلا محاربة الإسلام، في أصوله ومعتقداته وشرائعه وسائر أحكامه ورموزه ومقدساته.
سيقرأ القارئ الكريم، عبر مجموعة من المقالات، آرائي وما توصلت إليه، عبر بحث طويل وتتبع متواصل، من أحكام واستنتاجات، فيما أسميه بالمدرسة الحداثية اللادينية، التي يرتبط فيها الفكري بالسياسي، والأدبي النقدي بالفلسفي الإيديولوجي. ولقد كانت النية أن أنشر آرائي وثمرات بحثي هاته في كتاب كامل، كما ذكرت في مطلع هذا التقديم، لكني أحبذ الآن أن أنشر هذا الكتاب في شكل مقالات/فصول متوالية، حتى يسهل تتبعُ فصوله، واستيعابُ مضامينه وما تعرضه هذه المضامينُ مِن حجاجات ونقاشات وانتقادات واعتراضات.
أسلوبُ المقالة/الفصل، في الغالب، لا يثقل على القارئ العادي؛ أما الكِتاب ذو الصفحات الطوال، فإنه لا يجذب، في العادة، إلا القارئ المتخصص، أو القارئ المهتم عموما. ولهذا، فإني أرجو أن تكون مقالاتي عن المدرسة الحداثية الأدونيسية خفيفةً على القارئ، تقدِّم له الفائدةَ مقرونة بمتعة القراءة.
طبعا، سأنشر هذه المقالات/الفصول، بعد الانتهاء منها، في كتاب كامل، أقدمه للقراء عموما، وللقارئ الباحث المتخصص على وجه الخصوص.
وما توفيقي إلا بالله، عليه أتوكل، ومنه تعالى العون والتيسير.
وإلى المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراكش: 24 أكتوبر2016