السبت، 2 مايو 2015

فصولٌ في موسيقى الشعر

بسم الله الرحمن الرحيم

فصولٌ في موسيقى الشعر


 "فصولٌ في موسيقى الشعر" هو عنوان كتابي الجديد، الذي اخترت أن أنشره، كسابقه(فصول في الشعر المُحدَث)، في صورة رقمية، كي يتسنى وصولُه إلى جمهور واسع من الباحثين الدارسين وغيرهم من القراء المهتمين بموضوع موسيقى الشعر العربي وما يتعلق به من موضوعات تخص أساسا علميْ العروض والإيقاع.
ترجع الأصول الأولى لفصول هذا الكتاب إلى التسعينيات من القرن الماضي حينما كنت أهيّئ أطروحة الدكتوراه.
ولم أزل، منذ ذلك الوقت، أراجع المادة العلمية النقدية لهذه الأصول، وأعمّق النظر فيها، وأشذبها على ضوء ما كان يقع بين يدي من كتب ودراسات، وما كنت أطالعه من أفكار ونصوص جديدة، حتى أصبحت هذه المادة اليوم-فيما أرى وأقدر-ناضجة لإخراجها إلى الناس في كتاب.
يدور مضمون هذا الكتاب على بحث نقدي في "موسيقى الشعر"، ركزت فيه على تبيان أهمية "الوزن" في الإبداع الشعري، وأن الشعر العربي، منذ اكتمل نضجه، لم يزل لصيقا بصناعة الألحان، نظما وإنشادا ودندنة. ووقفت فيه وقفات حاولت فيها بيان تهافت دعوى الحداثيين المتطرفين أن الحداثيّة قد حكمت حكمها المبرم أن يموت "الوزن" أصلُ كل الشرور، في زعمهم وحكمهم الإيديولوجي النهائي الظالم، ليحل محله "الإيقاع" بما حمّلوه من مفهوم فضفاض لا علاقة له بصناعة الشعر، وإنما هو، عند التحقيق، الادعاءُ والفوضى والتحرر من كل قاعدة أو مقياس أو ضابط أو ميزان.
فمنذ بدأت تجتاح حياتنا الأدبية جائحةُ "الشعر الحداثّي" الذي لم يتردد أصحابُه، منذ بدء ظهور أمرهم، في المجاهرة بعدائهم الصريح لعلم العروض، ومن ورائه لأوزان الشعر العربي السليقي، لم تفلح جميعُ المحاولات التي سعت لإيجاد بديل عن قواعد موسيقى الشعر العربي، التي أوجدتها السليقية العربية وطورتها وصقلتها عبر أزمان طويلة، حتى استقامت موازينَ فنية صالحة لأداء مشاعر الشاعر العربي، في مختلف مناحيها النفسانية، ورفرفاتها الروحية، ونزوعاتها العاطفية، وتأملاتها الفكرية، وتعبيراتها الحماسية، وألحانها الموسيقية.
فكل الدراسات التي اجتهدت أن تضع قواعد بديلة عن علم العروض للوفاء بمتطلبات الإيقاع الشعري، انتهت إلى الفشل، بعد أن ظلت محصورة في الكلام النظري، والأمثلة المجردة، والتمارين الافتراضية، فضلا عن خطاب الأماني والأحلام.
لم يستطع أحد إلى اليوم ممن يعادي الأوزان العمودية، أو، على الأقل، ممن يستثقل هذه الأوزان ويرى فيها قيودا وتكاليف لا يطيقها الشاعر الحديث، أن يأتيَنا بشيء جديد بديع تقبله السليقة، وتستريح له الفطرة، وتهتز له النفس، ويستجيب لحاجة الوجدان إلى اللحن الجميل والإيقاع المطرب.
لم يأتِنا من أعداء علم العروض وخصومه، مِن رافضيه ومنتقديه، على طول سبعين سنة تقريبا، شيء له قيمة في مجال الإيقاع الشعري. بل إن المحاولات الأولى للتجديد، كمحاولة نازك الملائكة(1923-2007)، التي بسطتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، لم تخرج عن القواعد التي استنبطها الخليل، بل ظلت تدور في فلكها لا تستطيع عنها فكاكا.
وأمام هذا العجز الفني لمواجهة علم العروض ببديل فني مقبول ومعقول، لم يبق أمام المعارضين الرافضين، وخاصة في وجههم الحداثي المتطرف-حسب ما انتهيت إليه في بحثي- إلا الاحتماءُ بخطاب الإيديولوجيا، وخطاب الرفض من أجل الرفض، ولو كان ذلك على حساب العلم والموضوعية، وأدى إلى هدم تراث تليد شاهق باذخ شاركت في بناء صرحه الماجد أجيال وأجيال من الشعراء عبر مسيرة امتدت لعدة قرون.
لقد انتهى الخطاب النقدي الحداثي إلى رفض علم العروض وما يعنيه هذا العلم من التزام وقواعد ومقاييس في صناعة الشعر وأوزانه، لا لسبب نقدي فني مفهوم ومعتبر، وإنما لأنه علم جاءنا من الماضي، وما يزال يسومنا ما نطيق وما لا نطيق من القيود-حسب ما يزعمون في تعليلاتهم الضعيفة الداحضة- ومِن ثَمّ وجب رفضه والتخلص منه نهائيا، وإن لم يكن عندنا بديل.
بلى، هناك عند الحداثيّين المتطرفين بديل يسهّل المشقات، ويقرب المسافات، ويبلغ الغايات، وهو الكتابة بالنثر على أنه "شعر" له "إيقاع"، وله كذا وكذا من الصفات والمميزات والإيجابيات، التي اخترعوها من عند أنفسهم، وروجوا لها بإعلامهم الحداثي الجبار، ومكنوا لها بما يملكون من وسائل ووسائط وإمكانيات في أوساط الباحثين الأكاديميين، والدارسين الجامعيين.
لقد وضعوا من عند أنفسهم نظرية لشعرهم الحداثي، واخترعوا له قواعد، جمعوها من هنا وهناك، ثم كان منهم أنفسهم "الشعراء" المثالُ، الذين يصدقون هذه النظرية الموضوعة، ويطبقون القواعد المخترعة.
فالغالب اليوم، وخاصة في أوساط الباحثين الجامعيين الشباب، هو هذه النظرية الحداثيّة، التي فرضت على الناس أن ينسوا أن هناك شيئا اسمه "علم العروض"، وأن الوزن هو من أعظم أركان موسيقى الشعر، وأن الإيقاع في الشعر العربي كان دائما ملازما للأوزان العمودية.
لا يكاد الباحث الشاب اليوم يعرف شيئا عن أوزان الشعر، وإنما معرفتُه باتت محصورة في الإيقاع، ولا شيء غير الإيقاع. وعندما تأتي تفتش عن هذا الإيقاع، مفهومه وصفاته ومحدداته ومقاييسه، فإنك لا تجد إلا الذوق الشخصي المتحرر من كل مقياس، الضارب في كل الاتجاهات، ولا تجد إلا التعبيرات الإنشائية، التي يجتهد أصحابها ألا تقول شيئا، والتأويلات والافتراضات والانطباعات، التي تتعدد بتعدد المؤولين، وتتباين بتباين المفترِضين، وتختلف باختلاف طبائع القارئين.
فالقارئ ملزم أن يجد لِما يسمونه "شعرا حداثيا" إيقاعا موسيقيا ما، وإن كان هذا "الشعر" غارقا في النثرية، لا يختلف عن الكلام العادي في شيء، بل قد ينقص عنه درجات حينما يتردى في حضيض البذاءات والزندقات والضلالات، وينزل إلى مستوى الركاكة والإسفاف والمعجم النابي السوقي.
فحينما يُفرض على القارئ أن يقرأ، مثلا، الكلامَ التالي لأدونيس:
"...وقال القرمطي:
الجسد صورة الغيب
وحمل الأرض في كتفيْ ناقة وأعلن
أنا الداعية والحجة

استغونا أيها السيد استدرجنا
قل لنا من كذَبَ ومَخْرَقَ
 مَنِ البليّةُ
                  مَن خدع الجسد بنواميسه؟"

                               (مفرد بصيغة الجمع، لأدونيس، ص79)

حينما يُفرض على القارئ أن يقرأ مثل هذا الكلام على أنه شعر بديع من شاعر حداثي كبير، فإن هذا القارئ الواقع في أسر الحداثيّة المتطرفة العبثية، علاوة على إلزامه باعتبار كلام أدونيس شعرا، ملزمٌ كذلك بأن يجد لهذا الكلام ما يُثبت ما يُدَّعَى له من إيقاع وشعرية، وإن كان هذا الكلام، في حقيقته، لا يمت إلى الشعر بأي صلة.
ويجتهد المجتهدون من القراء المأسورين، والنقاد المؤيدين المتواطئين، ليجدوا قواعد، من أي نوع، وإن كانت عبثية لا تقوم على أي أساس، لإثبات أن ما يقرأون إنما هو شعر له إيقاع بديع فاتن، وفيه من الصفات الموسيقية ما يرفعه إلى قمة الإبداع.
والكثرة الكاثرة مما ينشر اليوم في موضوع الإيقاع الشعري-حسب النماذج التي اطلعت عليها- هي من هذا النوع؛ فهذا يكتب عن الإيقاع في شعر السياب، والآخر في شعر أدونيس، والثالث في شعر درويش، ورابع وخامس إلى ما لا يُحصى من الدراسات والأبحاث والأطروحات.
إنك قد تجد المؤلف أو الباحث في غالبية هذه المنشورات، التي تبحث في الإيقاع، كمن أُتِي بأصوات مختلطة كلها نشاز في نشار، وطُلب إليه أن يجتهد، معتمدا، أساسا، على ذوقه وتخمينه وتأويله ووهمه، ليجد لهذه الأصوات التي لا يجمعها جامع إلا الضوضاء والتخليط والنشاز، قواعدَ-كيفما كانت هذه القواعد- تسوّغ نشازها، وتبرره، وتُجمّله وتقدمه على أنه تأليف موسيقي جميل، ولحن فني بديع.
فكذلك هي معظم تجارب الحداثيين اليوم، التي تنشر، ويروج لها على أوسع نطاق، على أنها "شعر"؛ نثر عادي-وقد يكون أقل من العادي- مؤلفٌ من أصوات لا يكاد يكون فيها شيء يربطها بالإيقاع الفني الشعري، يُفرض على أنه "شعر" له إيقاع، وعلى الباحث القارئ الناقد، أن يبحث عن هذا الإيقاع المزعوم، وأن يخلقه خلقا مِن عدم، وأن يحتال، من هذا الطريق أو ذاك، لإيجاد قواعد وتفسيرات ومبررات، تثبت أن هناك، حقيقة وفعلا، إيقاعا شعريا يسلك هذا "النثر" المدروس في الأشعار الرائعة!
هذا هو باختصار مشهدنا الشعري اليوم؛ نثرٌ عادي-وقد يكون في غموضه وعبثيته وبذاءة مفرداته وركاكة تعابيره، لا يساوي قطميرا في موازين نقد الكلام-بات مفروضا بالإيديولوجيا الحداثيّة على أنه "شعر"، وعلى الناس أن يقولوا أي شيء، ويتوهموا أي شيء، وأن يفسروا ويؤولوا كيفما يحلو لهم، ليثبتوا ما يستحيل إثباته. ولن تكون أقوالهم وأوهامهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم إلا مقبولة ومقوّمة أحسن تقويم، بل وحائزة على أكبر الميزات والتقديرات.
وبعد، فقد توزعت مباحث هذا الكتاب على ثمانية فصول، عناوينها، على التوالي، هي:  "الشعر والغناء"، و"رُكنيّة الوزن في صناعة الشعر العربي"، و"وقفة سريعة مع علم العروض"، و"خاصية التساوي الكمي في الوزن الشعري"، و"علم العروض وحركات التجديد"، و"التجديد في "شعر التفعيلة" أو "الشعر الحر"، و"انقلاب من أهل الدار"، و"قوام الشعر بين قانون الوزن وفوضى الإيقاع".
وقد سعيت من خلال هذه المباحث، أن أثبت، بالأساس، كما ذكرت في مطلع هذه السطور، أن إيقاع الشعر العربي كان دائما نابعا من الوزن، أساسا، ومعه عناصر أخرى قد أولاها النقاد القدماء من اهتماماتهم الشيء الكثير، وأنه لا إيقاع لشعر غير موزون، إلا أن يكون من قبيل الإيقاع العامي المبتذل الذي نصادفه في كلام الناس اليومي، وأن الوزن سيظل ركنا من أركان الشعر، يميزه عن الكلام المنثور، وإن كان الصوت المرفوع الطاغي اليوم، في الساحة الأدبية النقدية، هو صوت الحداثية الإيديولوجية الهدمية المتطرفة.
وقد أثبت في خاتمة الكتاب أهم الخلاصات التي انتهيت إليها في بحثي، والتي أوجزتها فيما يلي:
أولا: إن جميع المحاولات التي رامت إيجاد بديل فني وعملي تطبيقي حقيقي لعلم العروض، أي للأوزان السليقية التي استنبطها-أقول استنبطها ولم يفرضها من عنده- الخليلُ بن أحمد الفراهيدي من الشعر العربي لم تنته إلى شيء ذي بال، ولم تفلح، ولو قيد أنملة، أن تزيح الأوزان العمودية عن عرش موسيقى الشعر العربي، وإنما ظلت حبيسة النظريات والافتراضات والأمنيات، ومنها ما بقي دائرا في فلك الخليل لا ينفك عنه.
ثانيا: إن الأسباب التي ذكرها المجددون، ومن بعدهم الحداثيون، بمختلف اتجاهاتهم، لرفض الأوزان العمودية، والتشكيك في مؤهلاتها الفنية، لا تصمد أمام النقد الجاد والتمحيص العميق. بل يمكن القول بأن بوصلة البحث عن أسباب تدهور الإبداع الشعري ينبغي أن تتوجه إلى ذوات الشعراء؛ فضعف المواهب وقلة المبدعين الكبار، وليس العروض وأوزانه وقواعده ومقاييسه، هي المعدن الأساس الذي منه تتشكل الأسباب الحقيقية لتدهور الفن الشعري.
ثالثا: إن النقد الحداثي المتطرف، الذي يتبنى اليوم إزاء علم العروض موقف الرفض من أجل الرفض، هو نقد غير مسؤول، بل قل إنه، بموقفه الإيديولوجي العبثي هذا، نقد مسؤول عن التردي الذي بات عليه الإبداع العربي في مجالات الآداب والفنون. وإنه لمن أعمال التخريب الصريح-كما عبر عباس محمود العقاد-أن نعمل معاول الهدم في صرح تراث موسيقي شامخ خالد، شهد على رسوخه وصلاحياته لحمل معاناة الشعراء، في كل الأزمان، أجيال وأجيال من الشعراء، من مختلف الاتجاهات والفلسفات والحساسيات الشعرية، عبر مسيرة قرونية ما تزال موصولة بالزمن الحديث.
رابعا: لقد أحل النقد الحداثي الإيديولوجي المتطرف "الإيقاع"، بالمفهوم العامي الفضفاض-وليس بالمفهوم الفني الموسيقي المنضبط-محل الوزن، ولم يعد هناك ذكر لعلم العروض، في الخطاب الحداثي، إلا في سياقات القدح والرفض والتجريح والتشنيع. ولن يكون "هذا الإيقاع الحداثي" بديلا عن الأوزان العمودية، لأن الفوضى والتسيّب لم يكونا قطّ، ولن يكونا، بديلا للقانون والنظام والانضباط. هذا هو الإيقاع الذي يبشر به الحداثيون؛ فوضى جامحة في الذوق والنظر والتحليل، لا تقوم على أي أساس من القواعد والمقاييس والضوابط. إنها "الشيء" الذي لا يعني شيئا!
وبعد، فإن كثيرا من النقاد والباحثين يعتقدون اليوم، إما عن تقليد وموقف محفوظ، وإما عن اجتهاد واقتناع، أن المعركة الأدبية النقدية التي اشتعلت، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، حول أوزان الشعر العمودي قد انتهت منذ زمان، وأنها حُسمت لصالح "الشعر الحداثي"، الجاحد بعلم العروض.
لكني، وأنا ما زلت في بحث مستمر، لم أجد من المعطيات ما يقنعني بأن هذه المعركة قد انتهت وحسمت، فعلا وحقيقة. والذي ما زلت أعتقده إلى اليوم هو أن المعركة حول الأوزان السليقية العمودية ما تزال مستمرة. نعم، كان هناك حسمٌ، لكنه لم يكن حسما أدبيا فنيا، بل كان حسما إيديولوجيا إعلاميا، كما شهد بذلك شاهد من أهلها، غلبتْ فيه الضوضاء والأضواء والشعارات والأصوات العالية.
وفي رأيي أن هذا الضعف والانحسار والتقهقر والانحدار الذي يعانيه الإبداع الشعري اليوم، إنما هو من مضاعفات هذه الغلبة الإيديولوجية الإعلامية الحداثية على مجالات الآداب والفنون. ورجوع العافية إلى
 فن الشعر، في تقديري، مرهون برفع الوصاية الحداثية الإيديولوجية عن الإبداع، لترجع الكلمة الفصل، في التقدير والتقويم، إلى مقاييس نابعة من الفن نفسه، يعرفها ويقدّرها أهلُ الفن والصنعة والاختصاص، لا أهل الإيديولوجيا والضوضاء والهدم الصراح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ملاحظة: الكتاب متاح مجانا على الرابط التالي:
/http://www.alukah.net/literature_language/0/86208