السبت، 28 ديسمبر 2013

وميضٌ يوشك أن يكون له ضِرَامُ


بسم الله الرحمن الرحيم



وميضٌ يوشك أن يكون له ضِرَامُ




 عنوان هذه المقالة مستوحى من شعر لنصر بن سيار، وقد كان واليا لبني أمية على إقليم خراسان، يقول فيه:


أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْر//ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ لـه ضِـرامُ

فإِنْ لَمْ يُطْفِهِ عُقَلاءُ قَـــــــوْمٍ//فإِنَّ وَقُودَهُ جُثَثٌ وهـــــــامُ

فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَـــــــى//وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَـــــــلامُ

وهو شعر في الإنذار من مخاطر الفتنة والتقاتل والخراب والسقوط، التي كانت تهدد دولة الأمويين جراء استفحال قوة العباسيين وانتشار دعوتهم وزحف جيوشهم.

لكن هذا التحذير لم ينفع في إطفاء الجمر، وكانت النتيجة الفاجعة أن الجمر تحول إلى نار لم تزلْ متأجِّجة حارقة ماحقة، حتى أتت على دولة الأمويين من الأساس.

وهذه النيران التي نراها اليوم مشتعلة في كثير من بلادنا العربية الإسلامية إنما هي نتاج جمار كانت كامنة تحت الرماد، لم تجد من عقلاء القوم وفضلائهم من يبادر إلى إطفائها.

العنف اللفظي، والكراهية والبغضاء، والتنافر والتدابر السياسي، وتنامي خطابات الإقصاء والاستئصال، وغيرُها من صفات التعادي باتت سمة مميزة لهذه الجمار الهامدة تحت الرماد، والتي توشك أن تتحول إلى نيران تأتي، لا قدّر الله، على الأخضر واليابس، إن لم يبادر الفضلاء العقلاء الأمناء إلى خطة توقف الانحدار، وتعصمنا من التردي في نار الفرقة وأهوال الفتنة.

نذكر من ومضات هذه النار الكامنة تحت الرماد هذه التشققاتِ العرقية المستشريةَ في مجتمعنا بين العروبيين المتطرفين والأمازيغيين المتعصبين، وهذه الخصاماتِ العدائيةَ الطاحنة بين الإسلاميين، بمختلف فصائلهم ومشاربهم، وبين اللادينيين من كل التيارات والإديولوجيات، وهذه الصراعاتِ العبثيةَ الدائمة بين المكونات السياسية، من الأغلبية والمعارضة، المشاركة في الحياة السياسية الرسمية، التي يتحكم في كل خيوطها النظامُ المخزني المهيمن، وهذه الفوضى التي تخيم على الحياة الفكرية والثقافية والفنية، والتي لا نكاد نجد فيها متنفسا للتواصل والتفاهم والتراضي، بلْهَ الانسجام والتعاون والتعاضد، وهذا الإعلامَ الغارقَ، في غالبيته، في إذكاء النعرات، وإثارة الحزازات، والتمكين لخطابات الكراهية والتحريض والإقصاء، ونشر ثقافة الانحطاط والتفسخ والتغرّب والضياع.

هذه بعض الومضات الكامنة في الرماد، والتي يوشك أن يكون منها نارٌ ملتهبة، لا قدّر الله، تأكل البرّ والفاجر، لا تستثني أحدا.

الإلحادُ الصريح بات له صوتٌ مسموع، ونضالٌ مشروع، في مجتمع مسلم!! فهذه فتنة تهدد بشَرٍّ مستطير لا تبقي مصائبُه و لا تذر.

بعضُ النخب من الذين يسمّون أنفسَهم مثقفين وناشطين حقوقيين باتوا يتجرأون على كل مقومات المجتمع بوجه مكشوف، لا يردعهم دينٌ، ولا قانونٌ، ولا أعرافٌ، ولا أخلاق، يهيمون في كل واد، تحت لافتات لامعة خادعة، وأخرى ممسوخة مستوردة، وثالثة شيطانية مظلمة، يحسبون كل صيحة عليهم، تراهم حاضرين في الإعلام حضورَ الكلاب الضالة في مطارح الأزبال، ومُطنْطنين في المنتديات المفبركة على المقاس طنْطنَة الذباب حول الجيف المنتنة والقاذورات المضرة.

حبل التواصل منقطع بين مكونات المجتمع ومختلف تياراته وإديولوجياته واجتهاداته؛ المخزن منغلق على ذاته، لا يريد أن يرى الناسُ غيرَ ما يراه، وهو ماض في قبضته الحديدية، لا يهمه أن يكون في المجتمع اختناق أو ضغط يوشك أن يحدث انفجارا لا يمكن لأحد أن يتوقع مداه، وما يمكن أن يجرّه من خسائر وحرائق ومآس.

والمعارضاتُ من خارج لعبة النظام ومؤسساته منكفئةٌ هي الأخرى على نفسها، لا ترى إلا ذاتها في خطاباتها المتشددة، ومواقفها الرافضة، واختياراتها الجامدة، كلُّ معارضة منها متقوقعة داخل إديولوجيتها، ترى نفسها الأولى بالقيادة والفكر والنظر ورسم خارطة الطريق.

وفي سماء المشهد السياسي المخزني، لا نسمع للأحزاب المشاركة غير أصوات التكالب والتعاير والتكايد والتهارش والتعاضّ، وخاصة من جهة الأحزاب التي تصنفُ نفسَها في خانة المعارضة، لا يأبهون للقنابل السياسية الموقوتة، المهيأة للانفجار في أي وقت، ولا لأنّات المظلومين، في السجون وخارج السجون، ولا للأزمات المتلاحقة التي باتت تضيق الخناق على الناس، في سائر مناحي معايشهم، ولا للتيارات المخربَة الزاحفة من الهوامش نحو قلب المجتمع، تحتل المواقع، وتعتلي المنابر، وتعبئ وتحرض وتنظّم.

قد يكون في كلامي شيءٌ من التعميم المُخلّ، لكن السوءَ الذي بات يشمل أحوالَنا من كل النواحي يبرر، في اعتقادي، هذا التعميمَ ويفرضه فرضا.

إن من الواجب على العقلاء فينا أن يعتبروا، قبل فوات الأوان، بما جرى ويجري في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن بعد عواصف الربيع العربي التي اجتاحت هذه البلدان. ومن أولويات هذا الاعتبار، في نظري، التداعي للحوار والتعايش والتعاون والتنافس البناء من أجل واجب الوقت، وهو المصلحة العامة، في جوهرها وحقيقتها الواسعة، لا في شعاراتها الشكلية وخطاباتها الإديولوجية الحزبية الديماغوجية الضيقة.

واجب الوقت على النظام المخزني، قبل فوات الأوان، أن يفتح نوافذ متعددةً للتواصل والتحاور مع معارضيه الحقيقيين، المُبعَدين خارجَ لعبته السياسية، وأن يسعى معهم لبناء نموذج سياسي ديمقراطي يستوعب الجميع من غير إقصاء ولا إلغاء ولا تهميش، وأن يعمل معهم، في الأجلين القريب والمتوسط، على تجاوز حالة الاختناق التي تهدد حياتَنا السياسية بأوخم العواقب، وإرجاع المصداقية الغائبة لمؤسسات الدولة وقوانينها، وأن يوقن أن الاستبداد مهما طال، فإنه إلى زوال، لن تغنيَ عنه قوته وجبروته وبطشه ومناوراته شيئا.

وواجب الوقت، كذلك، على المعارضين أن يستمعوا إلى صوت العقل والمصلحة العامة، بدل وضع الأصابع في الآذان، والانغلاق في الإديولوجيات العدمية الصماء، التي لا تغني ولا تسمن، والتي لا يمكن أن يجنيَ منها الناس إلا الشوك والحسرة والندامة، في العاجل أو الآجل من الآماد.

وأعتقد أن أيَّ تغيّر إيجابي في علاقة النظام المخزني بمعارضيه، وأيَّ تقدم في هذه العلاقة نحو مدّ جسور التواصل والتحاور والتعايش والتعاون، سينعكس بالإيجاب على مكونات المجتمع الأخرى، بل سيجعل مختلف فضاءات المجتمع تتأثر، بالرغم عنها، بما ينتج عن التواصل الإيجابي البناء بين المخزن وبين معارضيه الحقيقيين.

اليوم، كلُّ مكونات المجتمع السياسي والمدني والحقوقي والإعلامي منقسمة متصارعة متنافرة متدابرة حسب ما يحكم علاقة المخزن بمعارضيه الثوريين من توتر وتناقض وتصارع. فهذه المكونات خاضعة، شاءت أم أبت، لما يشوب أجواء العلاقة بين النظام وبين مختلف فصائل معارضي الدولة المخزنية، بل هي مكوناتٌ تائهة في أجواء التوتر والفوضى واللاتواصل، التي تطبع مختلف جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية.

إلى متى سيظل المخزن متمسكا بإديولوجيته، التي ترسخ الاستبداد ومؤسساتٍ تأتمر بأوامر من هم فوق المتابعة والمحاسبة؟

إلى متى ستظل حياتنا، في مختلف قطاعاتها، محكومةً بقرارات لا يمكن مراقبتها ونقدها أو مراجعتها وإلغاؤها؟

إلى متى سيظل المخزن يُصمّ أذنيه عن سماع صوت معارضيه، ويسير في طريق سياسة الإخضاع والمنع والقمع والخنق؟

متى سيعي المخزنُ وأعوانه وتابعوه أن دولة الاستبداد لا يمكن أن تولد إلا النار المحرقة المهلكة المدمرة المخربة، وأن الشعوب، مهما طال رقودها وهوانها واستعبادها وإخضاعها، لا بد أن تستيقظ وتتحرك كالطوفان الهادر الكاسح الجارف كل ما يعترض طريقه؟

إني ألاحظ ما يجري في واقع حياتنا العامة، فأرى هذه التشققات الاجتماعية، والصراعات الإديولوجية، والنعرات العرقية، والسياسات الاستبدادية، والمعارضات العدمية، التي تهددنا في الصميم. أرى هذه الفرقة التي تزداد تمكنا يوما بعد يوم، فأرى من خلالها وميضَ فتنة يوشك أن يكون له ضرام. أحس بكل هذا، فأجدني أكرر مرة أخرى أبياتا من شعر نصر بن سيار، الشاعرِ الخطيب السياسي القائد العسكري الأموي:

وقلت من التعجّب: ليت شعري//أأيقاظٌ أميةُ أم نيـــــــــــــــــــامُ
فإن يقظَتْ فذاك بقاءُ ملـــــــــكٍ//وإن رقدَت فإنــــــــــــي لا ألام
فإن يك أصبحوا وثوَوا نيامـــــــــا//فقلْ قوموا فقد حان القيــــــامُ



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

السبت، 14 ديسمبر 2013

حوارٌ مع بعض القراء



بسم الله الرحمن الرحيم



حوارٌ مع بعض القراء




بعض قرّاء مقالاتي، ومنهم إخوة أعزاء أحترم رأيهم، وأتقبل نقدهم بكل أخوة وصدر رحب، فهموا من كلامي أني أدعو جماعة العدل والإحسان إلى الدخول تحت العباءة المخزنية، والمشاركة في الحياة السياسة التي يتحكم النظام في كل خيوطها من الألف إلى الياء.

أنا لم أدْعُ قطّ إلى أن تتخلى الجماعةُ عن مبادئها وتنخرطَ في العمل السياسي بشروط الدولة المخزنية، ومقالاتي بين أيديكم شاهدة، فليس فيها، ولو عبارة واحدة يُفهم منها صراحة ما فهمه بعضُ القراء الكرام.

نعم، قد يفهم الناسُ من بعض عباراتي وانتقاداتي أني ألمح إلى ذلك، ولكن هذا فهمهم واستنتاجهم وقراءتهم. أما أنا، فعندما أنتقد الادعاء بأن العملَ خارج المؤسسات هو أجدى نفعا على الجماعة من العمل من داخلها، فإني لا أقصد، بالضرورة، الدخولَ إلى البرلمان أو الحكومة أو غيرها من الأدوات الخاضعة لإرادة النظام المخزني، وإنما قصدي، في جوهره، يرمي إلى تبيان أن وضعية الجماعة الحالية تجعلها جماعةً بعيدة عن الناس، لأنها مضطرة أن تعمل في الـ"السرية" أو ما يشبه السرية، ومن ثَمَّ تصبح الدعوة معرضة لأَنْ تتقاذفها الأمواج المتلاطمة في سواحل البحر المخزني اللجيّ، وتذروَها الرياحُ العواصف في صحاري دولة الاستبداد.

أكسيجين الدعوة، أيِّ دعوة، هو الحرية، وإلا فهي إديولوجيا صائرة، بالرغم عنها، إلى انحسار وانكماش وانغلاق.

بعبارة أخرى، السياسةُ أداة لخدمة الدعوة، وأي عُطْل أو عطب أو صدأ أو تلف أو ما شابه يصيب هذه الأداة، هو راجع لزوما على الدعوة بالأثر السلبي؛ ويمكن أن أفسر هنا عطل الأداة/السياسة أو عطبها أو صدأها أو تلفها بالآفات التي يمكن أن تطرأ على الاجتهاد السياسي، كالجمود في الفكر، والغلو في الرأي، والتشدد في المواقف، وما إليها من النقائص والأمراض، تكون، في عاقبة الأمر، وبالا على جسم الدعوة، وعثراتٍ في طريقها، وخنقا لحريتها.

فإيجابيّات العمل من داخل المؤسسات- وهي في أصلها وحقيقتها مؤسساتُ الشعب والمجتمع- لا حصر لها، وقد ذكر بعضَها الأستاذ مرشد الجماعة، رحمه الله، في مواضع كثيرة من كتاباته، وخاصة في حديثه عن اختيار المشاركة في الانتخابات، بما هو اختيار ممكن، حينما تضطر الأنظمة المستبدة، لسبب من الأسباب، أن تفتح للناس طريق العمل الديمقراطي، وتسمح لهم بحرية الرأي والتعبير والاختيار.

سيحاجّني بعضُ القرّاء بأن المخزن، عندنا، يسد جميعَ الطرق في وجه تنظيمات المعارضين على شاكلة جماعة العدل والإحسان، ولا يسمح لأحد منهم بالتنفس، فأحرى أن يسمح لهم بالتنظيم والتعبير والاختيار بحرية، ومن ثَمَّ، فإن المراهنة على هذا الطريق مراهنة خاسرة، لا محالة.

وجوابي على هذه الحجة في عنوانات ثلاثة:



العنوان الأول: نيّةُ التعشّي تبرِّر واقعَ التغذّي

في منطق الناس-وهو المنطقُ الغالب في السياسة- أن الذي يعلن في وجهك أنه ينوي التعشّيَ بك، يعطيك المسوّغَ الكافيَ لتبادر إلى التغذّي به.

وهذا هو المنطق الحاصل اليوم بين الجماعة وبين النظام المخزني؛ فجمود جماعة العدل والإحسان عند اجتهاد مرشدها السياسي الأصلي يعني أنها تقول للنظام إنني لا أقبل بأقلَّ من رأسك، ومن ثَمَّ فهي ترفض أي شكل من أشكال التعامل مع النظام، لأنه نظام جبريّ حقّه أن يزول ليفتح الطريق لإقامة الخلافة الثانية الموعودة.

وطبيعي، وخاصة في دولة عاشت قرونا تحت سلطان النظام الملكي، أن يكون جوابُ الدولة المخزنية على موقف الجماعة هو القمع والمنع والحصار، لأن هذه الجماعة باتت، في نظر النظام الحاكم، كيانا يعمل خارج القانون، وهدفه الصريح المعلن هو القضاء على الدولة القائمة.

طبيعيّ ومنطقيّ، حينما يتحول الصراع السياسي إلى صراع وجود، إمّا أنا وإمّا أنت، أن نرى من الدولة ما نراه تجاه معارضيها الثوريين، الذين لا يخفون أن هدف نشاطهم السياسي هو إنهاء وجود النظام الملكي، الذي ينظرون إليه على أنه الشر المحض، الذي لا خير يُرجى مع وجوده.

طبعا، أنا هنا لا أبرر القمع المخزني الواقع على المعارضين الثوريين، وإنما أصف الأشياء كما يفرضها منطق الصراع السياسي حينما يتحول إلى معركة كسر العظم، أكون أو لا أكون. الجماعة تعلنُ، حسب ما رسمه المرشد في اجتهاده السياسي، أنها تريد رأسَ النظام، والنظام يردّ بما تمليه عليه غريزة البقاء السياسي، بالقمع والمنع والحصار، مستندا هو الآخر إلى الشرعية والقانون، بمفهومه وتأويله وممارساته.

باختصار، المخزنُ يسعى جاهدا ليتغذّى بالجماعة قبل أن تتعشّى هي به.



العنوان الثاني: الدرس الإيراني

لقد أعلن مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في كتاباته أن مشروع القومة الإسلامية التي بسطه في اجتهاده السياسي لا يمكن أن يبلغ غايتَه إلا بزوال النظام الجبري، أي بزوال النظام الملكي، لتبدأ مسيرةُ بناءِ دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.

لكنه، رحمه الله، بحكمته السياسية، ترك للناس، في أرض الواقع والمِراس، فجوةً للتهوية السياسية، لأنه كان يعلم أن الشروط والظروف والأحوال قد لا تكون دائما مواتية للسير في طريق القومة الذي رسمه في اجتهاده.

لقد كتب الرجلُ، رحمه الله، في القومة ما كتبَ، في ظروف كانت تمتاز، في البلاد العربية والإسلامية، بالانقلابات العسكرية، والثورات الشعبية، والصراعات الإديولوجية، تؤطرها، دوليا، من قريب أو بعيد، الحربُ الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي الغابر.

كان خطابُ الثورة/القومة يومئذ خطابا شعبيا مطلوبا، وخاصة في أوساط طلبة الجامعات وشرائح واسعة من المثقفين والمفكرين، تغذّيه نجاحاتُ الانقلابات والثورات والصراعات هنا وهناك. وإن من التخشّب والجفاف الفكري، عندي، أن يظن ظانٌّ أن الأستاذ عبد السلام ياسين لم يكن متأثرا بالأجواء التي كانت تفرضها تلك الانقلابات والثورات والصراعات.

ترك في اجتهاده فجوةً، بل فجوات للتهوية السياسية، حتى لا تتعرّض الدعوة للاختناق. لكن الجمود والتقليد يُعمي ويُصمّ، ولهذا لم يُعر الناسُ، وخاصة من أصحابه من أهل الغناء والسابقة، اهتماما كبيرا لما قاله المرشدُ، بالعبارة الصريحة، وهو قليلٌ، وبالتلميح بين السطور، وهو كثير، في سبل التصرف والاجتهاد السياسي في مواجهة أنظمة الاستبداد والقهر.

قرأ الناسُ الاجتهادَ السياسيَّ لمرشد الجماعة حرفيّا-وما يزالون يفعلون- بمنظار المُريد الذي لا يرى فيما يصدر عن مرشده إلا تجلياتٍ لعطاءات ربّانية لا يمكن تقويمُها ووزنُها وتقديرُها حقَّ قدرها بموازين السياسة والترجيح والعقل والرأي، التي تعارف عليها الفضلاء والعقلاء من أهل الرأي والسياسة والفكر، وإنما حقُّ هذه التجليات، بمنظار المريد المجذوب، أن تُحتَضن بالتصديق والتسليم وانتظار اليوم الموعود.

أنا مسلم أؤمن بأن لله أولياء، وبأن الله قادرٌ أن يختص بعضَ  عباده بما يشاء  من فضله، سبحانه، في العلم والفهم والفقه والرأي والنظر البعيد، وأن يجعلهم مُسدَّدين في النظر والاجتهاد. والأستاذ المرشد عبد السلام ياسين كان، رحمه الله، واحدا من هؤلاء المسدَّدين، يشهد له بهذا سيرتُه وتراثُه وعطاؤه الثرّار الذي سيظل معينا فياضا إلى ما شاء الله.

أنا، في نقدي، لا أقترب من شخص المرشد المربي العالم المفكر، رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له العطاء جزاء ما وفّى وقدّم، وكتبه عنده من المقرّبين الأبرار (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).

ولست أحتاج أن أثبت حسن نيتي وصفاء سريرتي تجاه رجل خبَرت سيرته طويلا، بل كنت من السبّاقين إلى الكتابة عنه، وكان لي مشروع كبير في هذا الباب لولا الظروف والموانع الطارئة. 

أنا، في نقدي-ومقالاتي شاهدة- لا أقترب من شخص الرجل، وإنما أركز على اجتهاده السياسي، الذي حوّله الأصحابُ إلى صنم مُقدس، والذي ما فتئ المرشدُ نفسه، في حياته، يقدّمه على أنه عصارةُ ما وصل إليه علمُه وفهمُه وفقهُه، لم يدّع له، كما يفعل الأصحابُ اليوم، مكانةً فوق المراجعة والنقد والنقض والتعديل والتطوير، بل كان يحذر أن يصير رأيُه الاجتهاديُّ، من بعده، سدّا تتجمد عنده العقول والأفهام والإرادات.

وإني لمضطر، مع الأسف، أن أكرّر هذا كثيرا، لأن بعض الناس ما يزالون مصرين على ألا يفهموا من كلامي إلا ما يريدون، بل منهم من يذهب بعيدا في تقويل كلامي ما لا يقوله، وهذا من الظلم الذي لا أجد له مبررا، سامحهم الله.

وأرجع إلى السياق الذي كنت فيه.

من الفجوات التي تركها الأستاذ ياسين، في نظره السياسي، للتهوية والتصرف تجاه الأحداث المتقلبة والاجتهادِ وفق مستجدات الوقت، وما يجري به الزمان من تطورات وتحولات ومفجآت- من هذه الفجوات المتروكة حديثُه، رحمه الله، عن تجربة الثورة الإسلامية في إيران، بل اعتبارُه، في بعض كلامه في "المنهاج النبوي"، "أن مستقبل الإسلام رهين باستيعابنا لدرس إيران...".

وما هو هذا الدرس الإيراني الذي جعل الأستاذ ياسين مستقبلَ الإسلام رهينا باستيعابنا له؟

ملخص هذا الدرس أن علماء إيران قبلوا في دستور1906 أن يتعايشوا، مؤقتا، مع الديكتاتورية الشاهنشاهية، فنجحوا في فرض بعض القيود على سلطات الشاه. وكان هذا التقييد الدستوري بداية لمسيرة طويلة انتهت في سنة 1979 بنجاح الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، رحمه الله.

وكأن الأستاذ ياسين، رحمه الله، كان يقصد بهذا الدرس الإيراني أن التعايشَ مع الاستبداد والتعاملَ مع مؤسساته ممكن عند الضرورة، من غير أن يعني هذا التعايشُ والتعاملُ استسلاما لسلطان المستبد، ولا تفريطا في المبادئ والثوابت، ولا فتلا في حبل دولة الظلم والطغيان، وإنما الضروراتُ تبيح المحظورات، كما تقول القاعدة الأصولية.

هذا هو ملخص الدرس. ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأ استنتاجاتي وتعليقاتي على هذا الدرس في الفقرة الأخيرة من مقالتي "عن الدستور والإصلاحات الدستورية في خطاب جماعة العدل والإحسان" على الرابط التالي:




العنوان الثالث: بين القانون والسياسة

إن التشبث باختيار القومة، في صيغته الحرفية كما وردت في منهاج الأستاذ ياسين، فرضَ على الجماعة أن تعيش في دوّامة من التناقضات لا سبيل من التخلص منها، في رأيي، إلا بتبني خطاب سياسي رسمي واضح، أولا، وبمراجعة اجتهاد المرشد بكل شجاعة ومسؤولية.

توضيحُ هذا أننا نرى، من جهة، أن الجماعةَ لا تفتأ تكرر أنها جماعة قانونية، وهي تعتمد، في هذا، على بعض الأحكام الصادرة عن المحاكم المغربية من مختلف الدرجات. ومن جهة ثانية، نراها تؤكد دائما أن قضيتها مع النظام ليست قانونية وإنما هي سياسية مائة في المائة.

فإن كانت القضية في أساسها سياسية، فلماذا المناورة بالورقة القانونية؟

مطلبُ الوضوح في هذا الموضوع يقتضي الخروجَ من هذا التناقض، لأن المخزن والجماعة كليهما يعرف أن الصراع بينهما منذ بدايته كان دائما صراعا سياسيا لا علاقة له بالقانون.

فالطرفان، الدولةُ والجماعة، متناكران متدابران متنافران متصارعان سياسيا، وما الورقة القانونية التي يلجأ إليها هذا الطرف أو ذاك، لتثبيت حجته وإضعاف موقف خصمه، في حقيقتها، إلا أداة من أدوات الصراع السياسي "الوجودي" المحتدم بين الاثنين.

فحينما يصف الخطابُ المخزني الرسمي الجماعة  بأنها محظورة قانونيا، فإنه يستغل القانون لهدف سياسي واضح. وكذلك الجماعة-ولنكنْ واضحين في هذه المسألة، ولنكفَّ عن لغة المناورة والتخليط والتلبيس- فإنها أولُ من يعرف أن قضيتها مع النظام قضية سياسية، وما الاحتماء بالشرعية القانونية إلا وسيلة من وسائل الدفاع والهجوم، و"الحرب خدعة"، كما في الحديث الصحيح.

الجماعةُ تريد رأسَ النظام، فكيف يُعقل أن يسمحَ هذا النظام بأن يكون لمَنْ يريد رأسَه وجودٌ قانونيٌّ يحميه ويحمي نشاطه ويحمي تنظيمه، بل يساعده على التقوّي والتوسع والانتشار؟!!

وهناك من يحتجّ بأن هناك أنظمة ملكية-في بريطانيا مثلا- تسمح بوجود أحزاب تعارض الملكية، وتدعو إلى نظام جمهوري. والحقيقة هنا أنْ لا قياسَ مع وجود الفارق، لأن النظام الملكي الذي يسمح بوجود معارضين له هو نظام ديمقراطي يحتكم فيه الناس إلى القانون، وصوت الأمة هو الفيصل في الانتخابات، والملكُ فيه-أو الملكة- لا يملك سلطات تنفيذية مطلقة أو شبه مطلقة، كما هو الحال في الأنظمة الملكية التي تسود وتحكم بيد من حديد في بلادنا العربية الإسلامية.

الاحتجاج بهذه الحجة يشبه، في معناه والغاية منه، الاحتجاج بالشرعية القانونية، لأن القصد، في النهاية، هو استعمال كل الوسائل التي يمكن بها إضعاف الخصم وتسجيل بعض النقط عليه، يمكن استغلالها في المنابر الإعلامية والمحافل الحقوقية.



وبعد،

فالحجّة القائلة بأن المخزن يسدّ جميع المنافذ إلى العمل السياسي القانوني الطبيعي في وجه الجماعة، يردُّ عليها خصومُ الجماعة بأن الجماعة هي التي تسدّ على نفسها الطريق إلى الحياة السياسية القانونية، لأنها ترفض التعامل مع مختلف مؤسسات الدولة، وفي قلبها النظام الملكي، الذي تسعى الجماعة لزواله.

ولا بد من التذكير، في خاتمة هذه المقالة، أن مؤسسات الدولة أمرٌ واقع، اعترفت بها الجماعة أم لم تعترف، بل إن الجماعةَ مضطرة إلى الاعتراف بهذه المؤسسات في حياتها الاجتماعية العادية، وإن ظلّت ترفضها في خطابها الإديولوجي.

أما النظامّ الملكي، وهو أمُّ مؤسسات الدولة وقلبُها في المغرب، فهو، في اعتقادي، عُقْدَة العُقَد في الاختيار السياسي لجماعة العدل والإحسان. وفي تقديري أن هذه العقدةَ، في العمل السياسي، لا بد لها من حلّ، طال الزمن أم قصر. أما التعنت والتشدد والتطرف في المواقف، سواء من جهة الجماعة أو من جهة النظام، فليس يزيد الصراع إلا تأججا واستفحالا، وهو ما يبقي حياتنا السياسيةَ رهن الاعتقال والاختناق إلى أجل غير مسمّى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين








الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

أيّ خارطةٍ سياسيّةٍ لجماعة العدل والإحسان؟

بسم الله الرحمن الرحيم

أيّ خارطةٍ سياسيّةٍ لجماعة العدل والإحسان؟


بعضُ إخواني-حفظهم اللهُ ووقاني وإياهم عثرات الطريق ومنزلقاته، وفتحَ أعيننا جميعا على أخطاره ومفاجآته- يذهب بهم الظن، حينما أكتب منتقدا الأساسَ الذي يقوم عليه الاختيار السياسي لجماعة العدل والإحسان، إلى أنني أصبحت أسوِّغ قبولَ دولة الاستبداد والفساد، وأنني تركت وراء ظهري كلَّ ما كتبته في نقد النظام المخزني وفضح مخازيه.
هذه هي الإديولوجية الصمّاء، دائما، لا تعرف شيئا خارج الأبيض والأسود؛ فإما أنت معي، وإما أنت ضدي. إما أن تكون مع العدل والإحسان، في كل ما تأتي وما تدع، وإما أنت مسلوك في المدافعين عن الاستبداد ودولته!!
الذين يفزعون إلى معانقة هذه الإديولوجية في حجاجهم لا يطيقون أن يناقشوا الرأيَ المخالف حق النقاش، لأنهم، في اعتقادي، لا يريدون أن يذهب الناسُ معهم بعيدا في تقليب النظر في الأسس التي يبنون عليها آراءَهم ومواقفهم،  ويرجّحون بها اختياراتهم.
إن الاحتماءَ بمنطق (إما أبيض، وإما أسود)، في نقاش فكري سياسي، يقوم، في أصله، على تعدد الرأي واختلاف زوايا النظر، وتنوع أدلة الحكم وقرائن الترجيح، هو عندي نوعٌ من القمع والترهيب، لا يركبه إلا الضعفاء الذين ليسوا متمكنين من أدوات المناظرة والحجاج والحوار.

محجةٌ لاحبةٌ أمْ مَأْزِقٌ سياسيّ!؟

(1)
في البداية، نظريا على الأقل، كانت المحجّةُ لاحبةً، وكان الطريق نهجا مستقيما واضحا. لكن الانتقالَ من الكتابة النظرية إلى التطبيق العملي كان مشروطا؛ وأذكّر هنا بأمر قلّما انتبه إليه من تناولوا منهاجَ جماعة العدل والإحسان بالدراسة والتحليل، والنقد والتقويم، وهو أن الأستاذ المرشد، كاتبَ "المنهاج النبوي"، رحمه الله، قد جعل تنزيلَ مضامين المنهاج إلى أرض الواقع مرهونا بتحقّق واحدٍ من شرطين: إما أن تتبنى الدولةُ نفسُها المنهاجَ، وتحملَ على عاتقها تنفيذَه وتحقيقَ مقاصده، وإما أن ترفع عن الجماعة يدَ القهر والظلم والقمع والمنع، وتُمكنَها من كل حقوقها في الدعوة والرأي والتعبير والتنظيم، كسائر التنظيمات السياسية المرضيّ عنها.
قال مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب "المنهاج النبوي"(ط3، 1994، ص9):
"مخططُ التربية والتنظيم الذي نقدّمه لا يمكن تطبيقُه إلا في إحدى حالتين:
"1. إن أصبح الحكام منطقيين مع مبادئهم المعلنة عن إعطاء الحريات العامة فيقبلوا وجود حركة إسلامية علنية معترف بها إلى جانب الحركات والأحزاب السياسية الأخرى. وأقلُّ ما يُطلب من حكام المسلمين أن يعترفوا بحق الشعب المسلم في ممارسة إسلامه دون وصاية الحكومة.
"2. إن أدرك الحكام خطأهم في اضطهاد الإسلاميين وعقدوا نية صالحة لدعم الحركة الإسلامية، ليتصالحوا مع الله ومع الشعب المسلم، وبرهنوا عنها بميثاق يصوت عليه الشعبُ يعقدون فيه مع الله ومع المؤمنين الرجوع إلى الحكم بما أنزل الله بعد فترة انتقالية يعطون فيها المؤمنين كامل الحرية وكامل الدعم لبناء كيان إسلامي سياسي تتهيأ به انتخاباتٌ إسلامية ودستور إسلامي وحكومة إسلامية."انتهى كلام الأستاذ ياسين من مقدمة "المنهاج النبوي".
لم يُتحْ للمنهاج النظريّ أن يعرفَ طريقَه إلى واقع التنفيذ إلا في شكل اجتهادات على هامش الأصل. وسارت الجماعةُ مسيرتَها تحت ضربات القمع والمنع والحصار المستمر، تعيش حياةً تنظيمية استثنائية، بكل ما في الكلمة من معنى، لغياب شروط العمل الطبيعي، في ظل الدولة المخزنية المستبدة الظالمة.
ورغم الظروف الاستثنائية التي أحاطت بالجماعة منذ ظهورها في الساحة السياسية المغربية، فإنها ظلت متشبثة، حَرْفيّا ومِنْ غير أدنى مراجعةٍ أو تعديل، بمرتكزات الاختيار السياسي الذي بسطه الأستاذُ عبد السلام ياسين في منهاجه، والذي لا يرى من سبيل إلى الخلافة الثانية على منهاج النبوة إلا سبيلَ القومة على أنظمة العض والجبر. وترجمةُ هذا الاختيار، في حالة المغرب، أن مستقبلنا وانعتاقنا وحريتَنا لا تتحقق إلا بزوال النظام الملكي الوراثي الجبري، ومن ثَمّ فإن عدمَ الاعتراف بالنظام، ورفضَ كل أشكال التعامل والتواصل معه بات اختيارا استراتيجيا في عمل الجماعة، وإن كان هذا الاختيارُ في أصله، الذي تبلور في السبعينيات من القرن الماضي، اجتهادا مظروفا بحوادث زمانه، وأحوال الناس في هذا الزمان، وتطورات الصراعات الدولية، التي كانت تتحكم فيها الحربُ الباردة بين المعسكرين العظيمين، الشرقيِّ بزعامة الاتحاد السوفييتي، والغربيِّ بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأنا أعتقد أن الذين يُصرّون اليوم، إما عن اجتهاد واقتناع، وإما عن تقليد واتباع، أن الاختيارَ السياسيّ للجماعة، وإن كان في أصله اجتهادا للأستاذ المرشد، هو اختيار من صميم الدين، ومِنْ ثَمَّ فهو اجتهاد قائم على أسس إيمانية تربوية، لا يمكن التعامل معه تعاملَنا مع الاجتهادات الصادرة عن العقل السياسي الخالص، المنقطع عن النبع الإيماني الرباني الديني-
أنا أعتقد أن الذين يُصرون على هذا الفهم، اقتناعا أو اتّباعا، واهمون، بل مخطئون، لأنه لا أحد ادّعى أن المجتهدَ السياسي، وقتَ اجتهاده وفي أثناء إعمالِ عقله، يكون منقطعا عن الدين، بل قلت وأكرر أن المجتهدَ المسلم في القضايا السياسية الظنية-وليس عندنا هنا قطعيات دينية-لا بد أن يستحضر مقاصدَ الإسلام الكبرى، وأن يرجّح المصالح المعتبرة في الشرع، وهو يجيل نظرَه، ويعمل عقله، ويبسط رأيه، فإن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
إن السبب الجوهري وراءَ هذا الفهم الخاطئ، في اعتقادي، هو أن الجماعة، ممثلةً في قيادة الصف الأول، تفرضُ التعامل مع فكر المرشد ورأيه واجتهاده تعاملا غيرَ عادي، وتعتبر هذا الفكر والرأي والاجتهاد تجليا من تجليات شخصية الرجل المربي الرباني، التي لا تقوّمُ بمعايير العقل والسياسة وحدها، وإنما تقويمُها الحقيقيُّ يفرض، لزوما، عدمَ استبعاد المكانة المحورية لشخصية المرشد الإرشادية التربوية.
طبعا، هذه المطابقةُ بين شخصيّة المرشد المربي وبين ما صدرَ عنه من آراء وأفكار، لا نقرأها واضحةً في أدبيّات الجماعة المنشورة، لكنها مفهومة ومحسوسة لمَنْ يُحسن قراءة ما بين السطور، ولمَنْ جرّب الحياة داخل الجماعة، وعاش، ولو لبعض الوقت، أجواء مجالسها التربوية والتعليمية، وأجواءَ لقاءاتها التأطيرية والتواصلية العامة.
إن استمرارَ الأصحاب، ومنهم أعضاءُ القيادة الحالية للجماعة، في النظر إلى آراء المرشد السياسية على أنها مِنْ طينة ربّانية تختلف عن الاجتهادات البشرية العادية، وأنها، لهذا السبب، مستعصية على التغيير والمراجعة والتعديل، لأنها آراءٌ لا يؤثر فيها الزمان وما يجري فيه من تغيرات وتحولات وتطورات، سيؤدي، لا محالة، إلى وضعٍ تصبح فيه الجماعة بلا مشروع سياسي حقيقي، وقد تصبح بعيدة عن الواقع السياسي بكل تشعباته ومستجداته وتحدياته، وهو ما سيفرض عليها، شيئا فشيئا، أن تتحول إلى "طريقة" من الطرق التربوية، بوسائل عصرية، ليس لها في السياسة إلا ذكرياتُ الأيام الخالية، وإلا ما هو محفوظٌ في كتابات المرشد من اجتهادات وآراء وأفكار، أراد لها صاحبُها، رحمه الله، أن تكون مفتاحا للتجديد والتطوير والتنوير، فاستحالت، بفعل الجمود والتقليد والتكرار، إلى صنمٍ مقدس مِغْلاَقٍ لكل عقل وإبداع.
المنهاجُ، كما تصوره مرشدُ الجماعة، وخطّط له ورسمَ معالم تطبيقه، لم يُكْتبْ له أن يرى النور في شروط طبيعية، وظروف مواتية، كما كان يتمنى المرشد. ومع الأيام، وفي ظل قمع مخزني دائم وشامل، تراكمت، بفعل الضرورة وغريزة حبِّ البقاء، ممارساتٌ واجتهاداتٌ على هامش الأصل المنهاجي، امتازت بالرؤية القصيرة والمعالجة المرتجلة للقضايا الآنية، وإن كان خطابُ الجماعة الرسمي لا يفتأ يدّعي عكس هذا، بل ما يزال قياديو الجماعة يؤكدون في جميع المناسبات أن الجماعة سائرة نحو أهدافها المسطرة بهدوء واطمئنان، تُطبّقُ برامجَها المرسومةَ في مخططاتها، لا تؤثر فيها الأحداث الهادرة حولها، ولا تشوّشُ عليها الاستفزازات المخزنية المتواصلة، ولا يَحْرِفُ قافلتَها عن وجهتِها المقصودة نُباحُ الكلاب وعُواءُ الذئاب.
نعم، قد يكون عند الجماعة مخطّطَاتٌ، ومكاتبُ دراسة، ومختبراتٌ للتحليل والتقويم والبرمجة، ومشروعاتٌ قيد الإنجاز قائمة على تصور مستقبلي، وأطرٌ محترفة ومتمكنةٌ في كذا وكذا من العلوم والمعارف والتخصصات. لكن، ماذا يفيد كلُّ هذا إن بقيَ سجينَ الأوراق ورفوفِ المحفوظات؟ ما الفائدة من طاقات ومواهب وعبقريات فذة لا يُسمعُ عنها إلا في اللقاءات الخاصة المُغلقَة، والمجالس التنظيمية "شبه سرية"؟ ما الفائدةُ من كنوز في الخطابات والأوراق، لا يكاد يُعرف لها أثرٌ في حياة الناس، وفي حلِّ مشاكلِ الناس، وفي معالجةِ معاناة الناس؟
وواضح أني هنا أتحدث عن الوجود الفعلي بين الناس، في شكل مشاريع وبرامج ومخططات واقعية، لا عن حضور عددي، في هذه النقابة أو تلك، أو حشْدٍ بشري كمّي في هذه المسيرة أو تلك.

(2)
كانت المحجةُ لاحبةً، ثُمّ بدأ الطريق في الانعراج والانحدار والضيق، ثُمَّ الانشعاب إلى بُنيّات موحشة، بلا معالم ولا دليل ولا أنيس.
مِنَ "المحجة اللاحبة" إلى بُنَيّاتِ "ميثاق الفضول"الضيّقة، وسُحُب حركة "20فبراير" الخادعة العابرة، ثُمَّ الخروج إلى مأزق سياسي لا تخطئه عينُ المراقب المهتم المتتبع. وفي كل مرة، حينما يُواجَهُ أحدُ المسؤولين القياديين في الجماعة بسؤال صحافي حول الوضعية السياسية الحرجة للجماعة، لا يكون الجواب إلا بالإنكار ومعانقة لغة الخَشَب، مع الأسف، في خطاب "سِيزِيفِي" يبعث على الشفقة. الوصفُ "سيزيفي" من أسطورة "سِيزِيف" المشهورة عن المعاناة والعبث الأبدي.
وإنْ سألتَ قيادةَ الجماعة، المُمَثَّلَةَ أساسا في مجلس الإرشاد، جوابا واضحا شافيا عن أسئلة من قبيل:
ما هي خريطتُكم السياسيّةُ بعد خروجكم من حركة 20فبراير؟
ومَنْ هُمْ الآن حلفاؤكم، بالأسماء والأرقام، من الفضلاء المدعوين لغد "الميثاق الجامع" الذي ما زلتم تنادون به؟
هل عندكم تصور واضح عن الطريق السياسي العملي لتغيير موازين القوى لصالح القوى المناهضة لدولة الاستبداد والفساد؟
هل قمتم، من جانبكم، بمبادرات فعلية، ولو جنينية، للتقارب والتواصل مع قوى اليسار، الذين يُعتبرون شركاءكم الحقيقيين في معارضة النظام المخزني، ورفضِ الانصياع لدولته اللاديمقراطية، والذين يُتَوقّع أن يشكلوا طرفا ذا وزن في الميثاق الذي تدعون إليه؟
هل من تواصل سياسي، كيفما كان، بينكم وبين القوى السياسية المشاركة في اللعبة المخزنية؟
هل من تنسيق بينكم وبين غيركم من فصائل الإسلاميين في الساحة، وخاصة وأن هؤلاء هم أقرب الناس إليكم، وأقرب أن يكونوا أول المستجيبين لدعوة "الميثاق"؟
هذه أمثلةٌ من أسئلة يمكن التعرّف من خلال الأجوبة عنها على مستوى النشاط السياسي الحقيقي، وليس الوهمي، للجماعة، وكذلك حجم حضورها وتأثيرها فيما يخص العلاقات العامة، والعلاقات التواصلية مع مختلف مكونات المجتمع السياسي.
وأنا لا أتردد في الجزم بأن أجوبةَ الجماعة على الأسئلة المطروحة ستكشف عن وجود سياسيٍّ للجماعة يمتاز بالهامشية والانعزالية وتضخّم الأنا وانعدام العلاقاتِ التواصلية العادية مع الهيئات السياسية النشيطة في الساحة.
الذي يتحدثُ عن "ميثاق جامع" في المستقبل، لا بد أن يهيّئَ أسبابَه ومقدماتِه في الحاضر، وهذا ما لا نرى له أثرا في الواقع.
الذي يتحدث عن ضرورة العمل من أجل تغيير موازين القوى لصالح القوى المعارضة للدولة المخزنية، يتوجب عليه أن يتخذ للأمر عُدّته، وأن يمهد بنسجِ علاقات سياسية طبيعية، ثُمّ تحالفات، مؤقتة أو  استراتيجية، وفق خطط وبرامجَ مدروسة، ومطالبَ وأهدافٍ واضحة. فأين الجماعةُ من كل هذه التمهيدات الضرورية؟
الذي ما يزال متشبثا بخيار "القومة"، كما هو مبسوط في اجتهاد الأستاذ المرشد، رحمه الله، في المنهاج، عليه أن يُثبت، في الواقع المحسوس، وفي الحياة السياسية الحقيقية، وليس الافتراضية، أنّ هذا الخيارَ ما يزال ممكنا وقابلا للتطبيق، وأنّ الإعدادَ له سائر في الطريق المرسوم، وأنّ تعاطف الجماهير المسلمة وتجاوبَها معه يزداد ويتسع ويترسخ يوما بعد يوم، وهذا ما يشهدُ بضده الواقع المعيش، ويكذّبه الوضعُ الاستثنائيّ الاستنزافيّ الذي بات بلا نهاية، وكأنه الوضعُ الطبيعي للجماعة، والذي يُكلّف الجماعةَ، وخاصة في القواعد، الكثيرَ، فلا تكاد تتخلص من مُشكل، حتى تجد نفسها حاصلةً في مشكل آخر، وهكذا في دوّامة من المشاكل والشواغل الهامشية، التي تستنزف الجهود، وتكلف الناسَ فوق ما يطيقون. ويا ليت هذه الجهودَ والتكاليفَ الباهضة كانت من أجل أهداف واضحة، وثمار تستحق ما يُلاقَى في سبيلها من عناء وبلاء ومشقة.
الجهودُ والطاقاتُ تُستنزَف وفقَ سياسة ماكرة مدروسة جرّب النظامُ المخزني أنها سياسة ناجحة، وأن لها آثارا فعّالة على المديَيْن القصير والطويل، حيث تظهر الجماعةُ غارقةً في الهامِشِيَّات التي تُجَرّ إليها جرّا. ثم ماذا بعد هذه "الاشتباكات" و"المناوشات" المتكررة بين الدولة والجماعة، هنا أو هناك؟ يمر يومٌ أو يومان، ثم يُطوى الحدثُ ويصير من العاديات المَنسيَّات على هامش الحياة السياسية، التي يُنشّطها المَخزنُ ومنْ يدور في فلك نظامه من سياسيِّين وإعلاميِّين واقتصاديِّين ومفكِّرِين وفنانِين وغيرهِم من أرباب الفكر والقلم والمال والأعمال.
أنا أزعم أنه لو كان للجماعة خارطة سياسيةٌ حقيقيةٌ تُناسب واقعَنا السياسي، ومقاصدُ واضحةٌ في مضامينها ومعالمها، لَمَا انشغَلَتْ بهذه الهوامش، التي تستنزف الجهدَ بلا طائل، وتعرقل السيرَ، وتشتّت البال، ولمَا كان عندها وقت تضيّعه في حوادث طارئة على الطريق.
الحدثُ السياسيُّ اليومَ، شئنا أم أبينا، يصنعه الذين خرجوا فائزين من امتحان الربيع العربي المغربي، في مقدمتهم النظامُ المخزني، يتبعُه حلفاؤه وصنائعُه وتوابعُه. والأخبارُ السياسيّةُ اليومَ، إن كنا واقعيين وموضوعيِّين ومنصفِين، تدور حول تجربة حزب العدالة والتنمية في حكومة النظام المخزني، وهي تجربة ما تزال الأضواءُ مسلَّطَةً عليها من كل جانب، من جانب الخصوم، ومن جانب المحللين، ومن جانب الخبراء والمهتمين من القوى الخارجية.
 هذه التجربة/الفلتة تستحق، سياسيا، أن تكون موضوعا شاغلا للرأي العام السياسي، وشاغلا للإعلاميين وأقلام الصحفيين، وشاغلا للاقتصاديين، في الداخل والخارج. ولا يكفي هنا أن نقول إن الحكومة في النظام المخزني لا حول ولا قوة لها، وأن الفاعل الحقيقي في الدولة هو الملك وما يتبع له من مؤسسات ومستشارين، وما يتمتع به من صلاحيات وسلطات، تجعله فوق المؤسسات وخارج المتابعة والمحاسبة؛ لا يكفي الهروب بترديد هذه الحجة كلما تعلق الأمر بالنظر في أمر الحكومة، أو أمر البرلمان، أو غيرهما من مؤسسات الدولة، المنتخبة وغير المنتخبة.
نعم، ما يزال للنظام المخزني، بروحه الملكيّة المستبدّة، اليدُ الطولى في شؤون الدولة، لكن الوضعَ اليوم هو غيره قبل ثلاثين سنة، مثلا، بل هناك أمور لا بد أن يأخذها السياسي الواقعي بعين الاعتبار، منها، على سبيل المثال، أن الساحة  لم تعد موسومة بذلك الاختناق الذي كان يميزها قبل زمان الربيع العربي، وإن كنا ما نزال بعيدين عن تحقيق الحلم الديمقراطي المنشود.
السياسيّ المسؤول هو من يشمّر ويخوض في المخاضة من أجل أن يساعدَ على إيجاد أوضاع وأسباب وظروف وشروطٍ تساعد على  جعل موازين القوى تميل لصالح الحريات والديمقراطية الحقيقية ودولة المؤسسات المستقلة المسؤولة، لا أن يعتصم بالرفض المطلق، ويجلسَ في قاعة انتظار قد لا ينتهي.
ليس من السياسة الحاضِرة الفاعِلة الشاهِدة المؤثِّرة أن نرفض كل شيء، وأن نقول: لا شيء تغيّر، فلنرجعْ إلى مراقدِنا وأبراجنا، ولْنَسْتَغْشِ ثيابَنا، ولْنَنْنَظِرِ وقوعَ المُعجِزة!
وقد أشرت في المقالة السابقة التي عبرت فيها عن رأيي في الوضعية التي عليها جماعة العدل والإحسان اليوم، بعد سنة من وفاة مرشدها(http://majdoubabdelali.blogspot.com/2013/12/blog-post.htmlأن الحديث عن ممارسة السياسة من خارج المؤسسات، وفي دولة كالمغرب، هو حديث عن الأحلام والأوهام، إن لم يكن حديثا عن العبث واللامعقول. وإذا أضفنا إلى هذا ما تمتاز به مواقف المعارضة، في غالبيتها، أو على الأقل في جزء معتبر منها، من تشددٍ وتطرف في المطالب والمواقف، ومن سفسطةٍ وصراخ وتخليط وتهويش ومبالغةٍ ومغالطة في نقد الحكومة وتقويم أنشطتها وتحركاتها وسياساتها وقراراتها، عرفنا السببَ وراء هذا المشهد المضطرب المختلط الغامض المحتقن، الذي يلخص أزمتنا السياسية، والذي يمكن أن يؤديَ، لا قدر الله، إلى انفجار غير متحكم فيه، قد يأتي على الأخضر واليابس، إن لم يتدارك العقلاءُ الوضعَ، ويحاولوا نزعَ الفتائل، والرجوعَ بالأمور إلى نصابها، حتى ينقشعَ هذا الضبابُ الكثيفُ الذي يُخيّم على الآفاق، فتتضحَ الرؤيةُ، وتزولَ أسبابُ هذا الاحتقان السياسي والاجتماعي، وترتقيَ العلاقاتُ بين مختلف الفاعلين السياسيين، في مقدمتهم النظامُ المخزني الفاعلُ الرئيسُ، إلى مستوى إيجابي معقول، تُقدَّمُ فيه المصالحُ العامة على المصالح الخاصة، وتحترمُ إرادةُ الشعب وسيادتُه وكرامتُه، ويُطبق القانون على الجميع بلا تمييز، وتصانُ الحرياتُ والحقوقُ، وتسودُ قواعدُ التنافس النزيه، والنقد الباني، والتداول الحقيقي.

لنتكلّمْ بطلاقة وصراحة ومسؤولية
إن عُقْدة العُقد في المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان هو الموقفُ من النظام الملكي الحاكم في المغرب منذ قرون.
في اجتهاد مرشدِ الجماعة، رحمه الله، كانت المحجةُ لاحبةً، وهي محجة تسير في خط مستقيم متصاعد ينتهي بالزحف على النظام الجبري، لينطلق السيرُ نحو بناء دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
كانت المحجة لاحبةً في تصوّرٍ نظريٍّ دوّنَه الأستاذُ المرشد في كتاب "المنهاج النبوي"، اجتهادا منه لزمانه، الذي امتاز بظروفه ورجاله وأحوال مجتمعاته وصراعاته، الإقليمية والدولية، وغيرها من المميزات والخصوصيات.
فأين هي الجماعة اليوم، في إطار الاستعداد والإعداد، عمليا وواقعيا وتنفيذيا،  للقومة التي تصوَّرها المرشد، رحمه الله، في كتاب المنهاج؟
كلنّا مع سقوط دولة الاستبداد والاستعباد. كلّنا مع سقوط دولة العض والجبر وما في حكمها من الدول القائمة على الديكتاتورية والفساد.
لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه دائما هو: كيف نسير إلى الهدف المرسوم، ونمهدُ الطريقَ إلى الخلافة الموعودة؟
ما هي خارطة طريقنا السياسية اليوم، بعد أن لم يعد الطريقُ الذي رسمه الأستاذُ المرشد في المنهاج سالكا؟
ما هي خططُنا(أ، ب، ج، د...) لمناهضة الاستبداد، وبناء العامل الذاتي، وتكوين الموجة العارمة، بطلائعها وجنودها وجمهورها وأنصارها، لإسقاط الاستبداد؟
أربعون سنة، تقريبا، مرت بعد ظهور البيان الأول لجماعة العدل والإحسان، الذي جسدته رسالة "الإسلام أو الطوفان"، فماذا تحقق من مشروع القومة على الأرض السياسية، بالأرقام والمعطيات والممارسة في الواقع؟
سبيلُ إسقاطِ الاستبداد لا يخرج عن واحد من ثلاثة، وقد ذكر هذا مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في أكثر من موضع في كتاباته: إما مِن طريق الانقلاب، وإما من طريق الثورة/القومة على شاكلة زلزال الثورة الإيرانية، بتعبير المرشد، وإما من طريق الانتخابات.
أمّا طريق الانقلاب العسكري، فقد بات اختيارا مكروها ومرفوضا ومدانا، وإن كان ما يزال له عشاقه ومؤيدوه في بلاد المسلمين، والانقلابُ العسكري الذي حدث في مصر العربية الإسلامية يوم 3 يوليوز2013 خير شاهد في هذا الباب.
أمّا الثورة الشعبية العارمة الكاسحة، فطريقُها هو الآخر لا يظهر أنه سالك، وعواصفُ الربيع العربي التي مرت في المغرب قد أكدت أن الشعب المغربي، فضلا عن أحزابه ونخبه وأحزابه وجماعاته الثورية المعارضة للدولة المخزنية، ما يزال أمامه طريق طويل قبل أن يبلغ النضجَ السياسيَّ الثوري المطلوب. وهذه الحقيقة الحارقة التي يشهد بها الواقع يرفضها السياسيّون الديماغوجيون السوقيّون (الشعبويون).
أما طريق الانتخابات، وهو من السبل التي لم يستبعدها الأستاذ ياسين في اجتهاده السياسي، بل جعلها من الوسائل التي يمكن بها الوصول إلى السلطة ومن ثَمَّ الانقضاض على دولة الجبر، فقد بات اليوم، عند الجماعة، طريقا مرفوضا؛ فقيادةُ الجماعة التي بيدها زمام الحلّ والعقْد، ترفض كلَّ أشكال التعامل السياسي مع الدولة القائمة، بنظامها ودستورها وحكومتها وسائر مؤسساتها. الرفض، ثُم الرفضُ، ثُم الرفض، ثُم تزعم الجماعةُ أنها في قلب العمل السياسي!
فأي ممارسة سياسية هاته التي تكون مع الرفض المطلق؟
وأي ممارسة سياسية هاته التي تكون بلا خارطة طريق؟
نعم، المسلمون جميعا يؤمنون بأن الله، تعالى، قادرٌ أن يجعل عاليَها سافلها في عشية أو ضحاها، وقادر، جل جلاله، أن يخلق الحي من الميت، كما خلق الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي في تونس الخضراء، التي لم يكن أحد يتوقع أن يكون منها ما كان. لكن هذا الإيمان شيء، والعمل السياسي الذي نحن بصدد الحديث عنه شيء آخر. فنحن في واقع يفرض على السياسيِّين التشميرَ، والاجتهاد، وتقديمَ مشاريع وتصوراتٍ وخارطةَ طريق واضحة المعالم، يعرف الناس فيها مبدأ الأمر من منتهاه.
الإيمانُ بوعد الخلافة الثانية على منهاج النبوة شيءٌ، والسيرُ إلى هذا الوعد في منعرجات السياسة، وخُدعها، وعويصاتها، وضروراتها، وممكناتها، وإكراهاتها، وألاعيبها، وتحالفاتها، وظنونها، ومجاهلها، وضلالاتها، شيء آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.