الاثنين، 19 أغسطس 2013

عبثٌ في عبث

بسم الله الرحمن الرحيم

عبثٌ في عبث


(1)
لقد وصفتُ في أكثر من مناسبة، في مقالات سابقة، وأكرر اليوم وصفَ حياتنا السياسية التي يهيمن عليها النظامُ المخزنيُّ بأنها عبثٌ في عبث، وليس وراء العبث من طائل، مهما حاول الظهور بمظاهر الجد، ومهما رفعَ من شعارات.  
في اعتقادي، السببُ وراء هذا العبث السياسي المتفاقم عندنا أن غالبية النخبة، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وفنانين، تنشغل بالفرعي الثانوي، وتنسى بالمرة، عامدةً أو جاهلة أو منافقة، الأصليَّ الرئيسي، الذي مِنْ رَحِمه تخرج الأسبابُ، وعنه تصدر العوامل والمؤثرات.
نظامٌ مخزني استبدادي مهيمن، وأحزابٌ سياسية خاضعة تابعة مهرِّجة في (سيرك) الاستبداد، ومجتمعٌ مدني منافق مداهن منحرف؛ هذا الثلاثي يشكل، بطبيعته وممارساته، روحَ العبث القاتل الذي بات مستشريا في أوصال حياتنا، وخاصة في مظاهرها السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.
النظام المخزني، وفي قلبه النظامُ الملكي الوراثيُّ، لم يتغير شيءٌ من طبيعته وجوهره وفلسفته بعد إقرار الدستور الممنوح في طبعته الأخيرة في فاتح يوليوز 2011. كلُّ شيء في هذا النظام ما يزال كما كان دائما، في روحه وطقوسه، أمّا ما يمكن رصدُه من تغيرات وتحولات وتطورات، فهو، في حقيقته، لا يعدو الشكليات التي تستدعيها ترميمات الوقت، والتكيّفاتُ التي تفرضِها الخطاباتُ والشعاراتُ المرفوعة.

(2)
احتج الناسُ قبل أسابيع على العفو الملكي الصادر، بمناسبة عيد العرش، في حق مجرم إسباني اغتصب أطفالنا، وانتهك حرماتنا، وداس أخلاقنا، ولوث سمعتنا، وكأنهم لا يعرفون أن الدستورَ الذي طالما طبّلوا له وزمّروا، وذهبوا في مدحه والمبالغة في تقريظه كلَّ مذهب، هو الذي يضع بِيَد الملك سلطاتٍ شبه مطلقة، تجعله فوق جميع قوانين الدولة ومؤسساتها، ومن ثَمَّ فهو بعيد عن أي شكل من أشكال المتابعة والمحاسبة، وما سلطة العفو إلا واحدةٌ من السلطات العديدة التي يمارسها الملك بلا رقيب ولا حسيب، كيفما كان هذا الرقيب وهذا الحسيب.
ثم رأينا بعض هؤلاء الناس يحتجون على حفل الولاء وما يتميز به من طقوس المذلة والعبودية، وخاصة في المشهد الذي يكون فيه المشاركون مجبرين على ما يشبه الركوع أمام الملك وهو يمتطي جوادا.
هل الأمر يتعلق بركوع مذلة وخضوع، أم بانحناء تحيةٍ وتجديدِ بيعة، أم بعرف من الأعراف، وتقليد من التقاليد، لا شأن له بعقائد الناس، ولا بإنسانيتهم وكرامتهم؟
لست أرى أهمية في إثارة مثل هذه النقاشات ما دام معظم المناقشين لا يجرؤون على التصدي لأصل البلاء، ويكتفون بالوقوف طويلا عند الشكليات والفرعيات.
أصلُ البلاء أن عندنا دستورا ممنوحا يفرض على الناس أن يقبلوا ما يكون من المؤسسة الملكية من غير أن يكون لهم رأي أو اعتراض، ومن غير أن يكون منهم رفض أو انتقاد.
ثُمّ ماذا ننتظرُ أن يقع، بعد أن احتج الناسُ وأدانوا وتظاهروا؟
لقد أصدر القصرُ بيانا في شأن ما كان من عفو عن المجرم الاسباني، يتبرأ فيه من قرار هو المسؤول الأول عن صدوره، مهما قال المفسرون والمبررون والمنافقون من دوائر المخزن وتوابعه وحواشيه وأبواقه، ثم أتبعه بقرار ثان، في الأسبوع نفسه، يتراجع فيه عن العفو الصادر عن مغتصب الأطفال المجرم الذي هُرِّبَ بليل خارج المغرب، ويأمرُ وزارة العدل والحريات بمعالجة المسألة مع السلطات الاسبانية المختصة.
ثم ماذا بعد هذين القرارين "الساميَيْن"؟
لن يكون هناك شيء، لأن الناس سيرجعون إلى عاداتهم، وينسون، عن قريب، ما حصل، وسيبقى الملك هو رئيس السلطة التنفيذية، وهو أمير المؤمنين، وهو "الكل في الكل".
الناس، وفي مقدمتهم السياسيّون، يتكلمون في الهوامش، ويسكتون عن صميم الموضوع.
بأيّ حق يُعطي الدستورُ الممنوح كلَّ تلك السلطات والصلاحيات الواسعة للملك، من غير أن تكون هناك ولو شبه إمكانية لمتابعة الملك ومحاسبته إن هو أخطأ أو أخل بما عليه من واجبات ومسؤوليات؟
بأيِّ حق يمارس الملكُ سلطة العفو من غير أن يكون للحكومة، ولا لوزاراتها المعنية حقُّ المراجعة والملاحظة والانتقاد والتحفظ؟
بأيِّ حقٍّ يتعامل القصرُ مع الحكومة ووزاراتها وسائر مؤسساتها على أنها عونٌ عليه السمع والطاعة والتنفيذ، مهما كانت الأوامرُ، وكيفما كانت التعليمات؟
بأي حق يجوز للملك أن يمارس، من خلال مستشاريه والعديد من المؤسسات والمجالس واللجن والهيئات التابعة له، صلاحياتِ جميع الوزارات، من غير أن يكون لهذه الوزارات حقُّ الاعتراض أو الرفض أو الاحتجاج؟
بطرح هذه الأسئلة وأمثالها نكون في صميم الموضوع.
وسنظل في الهوامش والجزئيات إن لم نطرح مثلَ هذه الأسئلة بكل قوة ووضوح.

(3)
لقد وشّح الملكُ مؤخرا أحدَ رجالات الصهيونية العالمية بوسام ملكي سام؛ فهل نجد عذرا للملك، مرةً أخرى، بأنه لم يكن على علم بحقيقة الرجل المُنعَم عليه، وهواه السياسي الصهيوني، ودفاعِه القوي المستميت عن جرائم الصهاينة، وعن القدس عاصمة لدولتهم المغتصِبة الظالمة، ونُحمّلُ كامل المسؤولية لمصالح القصر المكلفة بالتشريفات والأوسمة؟
وقبل أشهر، قامت وزارةُ الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي تعمل تحت السلطة المباشرة للملك أمير المؤمنين، بإغلاق دور للقرآن من غير أيِّ سندٍ قانونيٍّ مفهوم ومعقول، كما بيَّن ذلك المهتمون من ذوي الاختصاص، فكيف سيتصرف المظلومون المتضررون من هذا القرار، وهم يرون ويسمعون أنه قرارٌ صادر عن إدارة تتصرف باسم إمارة المؤمنين، أي أنه قرار لا يجوز في حقه الطعنُ والاعتراض، ولو سلك أصحابُ الحق المظلومون كلَّ السبل الممكنة في سبيل استرجاع حقهم.
وهذه جمعياتٌ مدنية تدعي الدفاعَ عن الطفولة وحقوقها المغتصبة، لكنها، بمجرد صدور البيان الملكي بخصوص موضوع العفو عن المجرم الاسباني، ركنَت إلى السكوت الشيطاني، وانطلقت في تمجيد بيان القصر، وتمجيد الملك.
وعلى نفس الإيقاع، وفي نفس التوجه، سارت أحزابٌ وشخصيات وجمعيات، انطلاقا من أن الملكَ لا يمكن أن يأتي منه إلا الخير والصواب، وما يمكن أن يحصل من أخطاء أو انحرافات أو قرارات ظالمة، فينبغي أن يُبحث عن سبب حصوله بعيدا عن الملك، الذي هو مُنزه، بالطبيعة، عندهم، عن مثل هذه الأخطاء والعيوب والانحرافات.
هذه هي مصيبةُ المصائب عندنا، وهذا هو الداءُ القاتل الذي يسري في أوصال حياتنا السياسية، فيحيلها حياةً مخنوقة مشلولة تغرق في العبث واللامعنى.
رئيسُ الحكومة يعجز أن يتكلمَ في صميم الموضوع، بل هو واحد ممّن كرسوا ثقافةَ الحديث في الهوامش والجزئيات بدفاعه عن الملك وسلطاته، والسكوتِ عن سبب معضلتنا السياسية الدائمة. إنه رئيس حكومة بالمقاس المخزني المطلوب، لأنه صُنِع صنعا في مطبخ المخزن، وكذلك أصحابُه وتلامذته النجباء من الوزراء المختارين الذي يستجيبون للمعايير المطلوبة للقبول ضمن رجالات دولة المخزن ونسائه. إنهم لا يفتأون يدافعون عن القصر ويبرئونه من أيّ مسؤولية، ولو بسيطة، فيما يجري في الساحة السياسية، وهم يقبلون عن طواعيّة أن يتلقوا الضربات والانتقادات، بل هم مستعدون عن رضا منهم أن يُقدَّموا أكباش فداء باتهامهم وإبعادهم، كما جرى بخصوص فضيحة العفو عن المجرم الاسباني، حين تم تحميل المندوب السامي للسجون، وهو من رجال المخزن الأمناء الأوفياء، مسؤولية ما جرى، وتقرر إعفاؤه من مهامه بقرار مخزني فوقي لا نعرف شيئا عن المسطرة أو القانون أو العرف التي تم اتباعه في اتخاذ قرار الإعفاء.

(4)
مجتمعٌ مدنيٌّ لا يرى إلا بعين واحدة هو مجتمع أعور لا يمكن أن ننتظر منه شيئا كبيرا.
تقوم قيامة هذا المجتمع المدني حسب أهواء المتحكمين فيه وفي تنظيماته وأمواله وسائر إمكانياته ومقدراته. فقد عرفنا في المغرب فضائحَ عديدة من عيار العفو عن المجرم الاسباني، ومن عيارات أكبر وأخطر، لكنها لم تحرك ساكنا في هذا المجتمع المدني المتحكم فيه، الذي يُراد له أن يكون مجتمعا ديكوريا يزين المشهد السياسي، ويعطي الانطباع بأننا نعيش، حقا، في دولة الحقوق والحريات.
مثلا، قضيةُ الظلم الواقع على جماعة العدل والإحسان منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو ظلمٌ تجلّى، وما يزال، في عدة أشكال وألوان ومظاهر، منها الاعتقالات التعسفية، والمحاكمات الصورية، والممارسات القمعية فضلا عن صور المنع والحصار الدائمة؛ فأين هو هذا المجتمع المدني، الذي يُقيم الدنيا اليوم بسبب العفو عن المجرم مغتصب الأطفال، إذا استثنينا أصواتا قليلة وضعيفة كانت لها مواقف تستحق التنويه؟
ماذا يفيدنا مجتمعٌ مدنيٌّ له موقف مبدئي معاد للإسلاميين، ولا يني يشارك في الحرب الضروس المشنونة عليهم؟
وها هي ذي الديمقراطية والحريةُ والشرعية الانتخابية والسيادة الشعبية وسائر حقوق المواطنين، يُنكَّل بها في مصر العربية الإسلامية، على مرآى من العالم ومسمعه، في مذابح فظيعة يندى لها جبين الإنسانية، وفي انتهاكات سيسجلها التاريخ عارا على الديمقراطيين، الأصلاء والأدعياء، لا يمّحي أبد الدهر؛ فأين هي مجتمعاتُنا المدنية، التي ما فتئت تقيم الدنيا دفاعا عن حقوق العواهر والزنادقة والملحدين وغيرهم من المرضى والمنحرفين وذوي العاهات في مجتمعاتنا الإسلامية؟
أين هي حقوقُ المواطنين وإرادتُهم وأصواتهُم وحريتهم في الاختيار والقرار والانتخاب؟
أين هي حرية الإسلاميين في الرأي والتعبير والتنظيم؟ أم أن هؤلاء الإسلاميين لا يناسبهم إلا المذابح والسجون!؟ أم أنهم ليسوا من بني آدم، ومن ثَمَّ فهم لا يستحقون منكم أدنى ذرة من تأثر أو تعاطف أو تضامن!؟
ومن هذا العبث  أن نرى قيامةَ مجموعةٍ من التنظيمات المحسوبة على المجتمع المدني-وهي تنظيمات ليس لها، في الغالب، إلا الاسم- تقوم حينما ردّ أحدُ الإسلاميين، قبل أيام، على واحدة من وقاحات امرأةٍ محسوبة على الديمقراطيين والحداثيين-والديمقراطيةُ والحداثة منها بريئان، وهي امرأة لا تشرّف، في تقديري، بنات حواء، وإنما هي عارٌ وفضيحة، بسبب نقائص في عقلها وطريقة تفكيرها وأسلوب حجاجها ومستوى علمها وفجور خصامها-
قامت قيامتُهم، لأن الرجلَ كتب يرد برأيه-وليس أكثر- على ما جاء في كلام المرأة/الفضيحة في حقّه من افتراء وباطل وتلفيق ولغة جارحة لا تليق بامرأة تتصدى للشأن العام. قامت قيامتُهم، لأنهم، في رأيي، بطّالون ليس لهم موضوع جاد يشتغلون به، وإنما الجدُّ عندهم، بمقاييسهم العوجاء المتهافتة، هو التربص بخصومهم ومخالفيهم وإحصاء كل صغيرة وكبيرة في خطاباتهم وسلوكاتهم ومواقفهم، وانتقادها والتعامل معها بحسب أهوائهم ووفق منهجهم في التزوير والتشويه والتلفيق والافتراء.
هل هذا هو المجتمعُ المدني الذي نأمل أن يكون شريكا في تخليصنا من قبضة الاستبداد، وشريكا في بناء دولة الحريات والحقوق والمؤسسات المسؤولة؟
لا كان، أصلا، هذا المجتمعُ الذي يفتل في حبل الاستبداد، ويعادي جزءا من المُواطنين المدنيين المسالمين لهم قوة في المجتمع معتبرة، ولهم تنظيمات معروفة، وآراء واجتهادات ومواقف منشورة ومشهورة؛
لا كان هذا "المجتمعُ  الإقصائي الاستئصالي الاستبدادي الظالم"، الذي يعادي جزءا من المجتمع عداء ليس له من سبب  إلا لأن أفراده إسلاميون، مرجعيتهم الإسلام في تفكيرهم وآرائهم واجتهاداتهم ومواقفهم وسلوكاتهم وأخلاقهم.
وبعد، فلم يكن لهذا "المجتمع العبثي"، الذي يوصف في الإشهار بأنه مدني، أن يظهر لولا العبثُ العامُّ الذي يحتضنه، العبثُ الذي يغزو حياتنا السياسية وما يرتبط بهذه الحياة من مؤسسات وسياسات وقرارات وممارسات.
وهل نطمعُ أن يخرج من رحِم العبث غيرُ العبث!؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


21 غشت2013