الأربعاء، 29 مايو 2013

القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(4)

بسم الله الرحمن الرحيم


القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(4)
 


ما زلنا في هذه المقالة الرابعة مع "شاهد الذئب".

(4)

محمد بنيس يشهد لأدونيس
الدكتور محمد بنيس، من مواليد مدينة فاس سنة 1948، وهو محسوب على شعراء الحداثة في المغرب، وله تجارب منشورة في هذا الباب، فضلا عن كتابات في النقد والخواطر الأدبية والفكرية. وهو، في رأيي، من تلامذة أدونيس النجباء، وهو يعترف بهذا ويفتخر به ولا يُخفيه، بل يذهب بعيدا في التعبير عن تبعيّته العمياء لأدونيس، بلا أدنى تردد أو تحفظ؛ طبعا، مستوى التلميذ بنيس هو دون مستوى أستاذه بكثير، بل هو في كثير من كتاباته يظل محصورا في دائرة التقليد، بل لا يكاد ينفكّ عن الرجوع إلى هذا أو ذاك من المراجع الأجنبية خاصة، وفي وجهها الحداثي بصفة أخص، ليؤكد لقارئه أنه من أبناء الحداثة "المُعتَبَرين". ويمكن للقارئ المهتم أن يُراجع، مثلا، أطروحَتَه عن "الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها"، التي نال بها شهادة الدكتوراه سنة 1988، والتي كان أدونيس عضوا في اللجنة التي ناقشتها.

التلميذُ المتعلِّمُ يتذكّر
يتذكّر محمد بنيس كيف جرّه سحرُ أدونيس، وهو ما يزال في سنته الأولى من القسم الأدبي في المستوى الثانوي، إلى أن يتتلمذ له، ويذوبَ في عالمه. ومما يتذكره أنه حينما تصفح القصائدَ الأولى من ديوان أدونيس "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار"، في سنة 1966، لمح جسدَه يضيع منه، "وينزل إلى سراديب لن يغادرها أبدا"(أدونيس ومغامرة "الكتاب"، مجلة "فصول، خريف1997، ص257). ثم يذكر كيف تطورت علاقتُه بأدونيس خلال ثلاثين سنة(من 1966 تاريخ أول لقاء، إلى 1996، وهو التاريخ الذي قرأ فيه الجزء الأول من "الكتاب")، حتى ارتقت إلى علاقة صداقة عميقة، "صداقة الشعر والحياة معا"(نفسه). ثم يذكر أن "كل عمل جديد كان يصدر لأدونيس، عبر الثلاثين سنة بكاملها، بالعربية أو مترجما إلى لغات أخرى، كان دليلي إلى فرح جديد وسعادة تتسع أنحاؤها وأسرارها."(نفسه)
ويعترف محمد بنيس بأنه، في أثناء هذه الثلاثين سنة، التي قضاها في صحبة أدونيس، كان يتابع تجربته "منصتا متعلما"(258). ثُم يقول: "وفي أفق معرفيٍّ كريم كهذا، التقيت بحريتي، بقضاياي وأسئلتي. أدونيس علّمني أن طريق الشعر مفقودة، عليّ اكتشافها باستمرار."(نفسه)
ويقول، في شهادة أخرى بالمرجع نفسه: "منذ أكثر من ربع قرن وأنا أنصت إلى أدونيس، وأتعلم مصاحبته. تلك هي الفترة التي تفصلني عن مراهقتي."(أدونيس: الشعر وما بعده، ص368)
وفضلا عن الاعتراف بالتلمذة والملازمة لأدونيس طيلة ثلاثين سنة، فإن (محمد بنيس)، في كتاباته، لا يني يتحدث عن أدونيس ويصف تجاربه الحداثية بعبارات ترفعه إلى الأعالي، في مبالغات لامعقولة، ينقصها، في اعتقادي، كثيرٌ من الذوق والاتزان. وهذه جملةٌ تلخص العشرات من أمثالها؛ فهو في شهادته، في أدونيس، يصفه، من بين أوصاف أخرى، بأنه "كونيٌّ منذ لحظته الأولى التي انقاد فيها نحو مساءلة الشعر والشاعر…كذلك هو أدونيس, يبدأ دائما ليبدأ. في البعيد والغريب، حرا إلا من مغامرة الكتابة"(371)
أقترح على القارئ المستزيد من هذه الأمثلة من كتابات محمد بنيس أن يقرأ، مثلا، ما كتبه عن "أدونيس ومغامرة الكتاب"، و"أدونيس: الشعر وما بعده"، في مجلة "فصول"، خريف1997، وما كتبه في سياق تعليقه على تجربة "هذا هو اسمي"، لأدونيس، في كتابه عن "الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدلاتها"، الجزء3(الشعر المعاصر)، ص191 وما بعدها.

منْ سيّئاتِ التابعِ المقلّد
محمد بنيس، في رأيي، نسخةٌ رديئة ومشوهة عن الأصل الأدونيسي، إلى درجة أني أراه، في بعض الأحيان، يصلح مثالا لنماذج المثقفين اللادينِيّين المُغرَّبِين، الذين شَهَرتْهم الدعايةُ الإديولوجية، والإعلامُ الحداثي الصائح الصادح، صباحَ مساءَ، يَصنعُ "النجوم"، ويلمّعُ الأسماءَ، ويرفع الخاملين، وينفخ في الرداءة، فإذا القبحُ جَمالٌ في أبهى صور الإبداع!!
ومن السيئات التي قلَّدَ فيها بنيس مثالَه أدونيس، وصار على نهجه حذْوَ القُذَّة بالقُذّة، سيئةُ انتهاكِ المقدسات الدينية، والاجتراءِ على الإسلام ورموزه وحرماته بالطعن والتشكيك والعبارةِ المتطاولة؛ وأقول "السيّئة"، لأن التطاولَ على الدين وانتهاك مقدساته، في ثقافتنا الإسلامية، لا يمكن أن يصنف إلا في السيئات والضلالاتِ، ولكلٍّ ثقافتُه ومرجعيّتُه وقاموسُه؛ وسأكون من المُداهِنين إن أنا خاطبتُ إبليس، مثلا، بلقب "أستاذ"، أو "مفكر"، أو "باحث"، أو"ناشط حقوقي"، أو ما شابه هذا من الصفات والألقاب. أنا مسلمٌ، وهذه هي مرجعيتي، لا أفرضُها على أحد: إبليسُ هو إبليسُ، وكفى.
قلت من أمثلة سيئاتِ بنيس، قولُه، في سياق حديثه عن بعض خصائص التجربة الشعرية لبدر شاكر السياب: "وفي الاحتماء بالماء يكون السياب متجاوبا مع بطولته ونبوّته التي لم تعد بحاجة لإله…"، وقوله، في موضع آخر، بصيغة التأكيد: "…إن مفاهيم النبوة والحقيقة والخيال(التخييل) تتفاعل مع مفهوم التقدم في نسج نسق تصور الحداثة…"، وقوله في سياق الفقرة السابقة، وبالعبارة الخبرية التأكيدية نفسها: "…الشعر قولٌ مداره الحقيقة، لا كذب فيه، ما دام الشاعر النبيُّ البطل هو من كتبه…"، وقوله عن الشعر الحداثي عامة: "لقد جاء الشعري، في العصر الحديث، ليعلن عن أحقيته في الكلام باسم حقيقة أخرى للإنسان والأشياء والكون، تختلف عن حقيقة السياسي(والديني الخاضع للسياسي)، تقوده نبوّتُه نحو ما يراه تقدما في ضوء خياله(أو تخييله)".
الشعر الحداثيُّ مدارُه على الحقيقة، وهو مطلقٌ له نبوته وحقيقته، كيف؟ ومن قرَّر هذا؟ وبأي حجة ومنطق؟ وفي أيّ تاريخ؟ وبأيّ مسوّغ، من أدب أو فكر، أو فلسفة؟
ويقول عن الشاعر الحداثي: "…والشاعر نبيٌّ له مسؤوليّته التاريخية في ممارسة "الواجب" الذي يلتقي فيه الشاعر العربي المعاصر مع غيره من كبار الشعراء في العالم." ويقول، في السياق نفسه: "…والشاعر الخالق للغة هو النبيُّ."
ويصر محمد بنيس إصرارا على تكرار المقولات الفلسفية الإلحادية المحفوظة عن فلاسفة الغرب الملحدين، كمقولة "موت الله" أو "اختفائه"-تعالى الله عما يقول الملحدون. فهو مثلا، يصف الشعر المعاصر بأنه "يواجه الموتَ بعد أن اختفى اللهُ عن الشاعر والعالم العربي واعتقلَه الزمن…".(هذه الأقوال كلّها منقولة من كتابه: الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها)
ماذا في مثل هذه الأقوال غير الإسفاف والتطاول والتجديف؟ أين هو الإبداع؟ أين هو النقد الأدبي؟ أين هو جمال الفن عموما؟ أين هي اللغة الشعرية؟
عبارة ساقطةٌ سقوطَ المضمونِ القائم على الوقيعة في ذات الله، تعالى الله وتقدس.
الشعر الحداثيٌّ مطلقٌ له نبوّته وحقيقتُه!
ماذا يتحصل من مثل هذا الكلام في ميزان النقد والتقويم؟

ملْمَحٌ من حداثةِ بنيس المعطوبةِ
لقد بلغت كراهيةُ محمد بنيس للدّين والمتديِّنِين، درجةً جعلته لا يحتمل أن يرى مسلما ملتزما بإسلامه يستفيد من مخترعات العصر ويستمتع بنتاج التكنولوجيا؛ فهو، مثلا، يستنكر رؤية "أصوليِّ يتقن التقنيات المعلوماتية، أو محجّبة تحمل نقالا[يقصد هاتفا محمولا] وتسوق سيارة"(الحداثة المعطوبة، 133)
فالمسلم الملتزم بدينه-طبعا، أنا لا أقصد هنا المتنطّعين ، ولا المتشددين، ولا الغالين في دينهم، ولا الذين يبيحون سفكَ الدماء باسم الإسلام، والإسلامُ من أفعالهم براء، وإنما أقصد المسلمَ الذي يجتهد أن يكون عند السمع والطاعة، في الأمر والنهي، على شرعة ربه وهدْي نبينه، صلى الله عليه وسلم-
هذا المسلمُ المجتهدُ في طاعة ربه، عند محمد بنيس، ليس من حقّه أن يستفيد من مخترعات العصر، وكذلك المسلمة المتحجّبة، ليس من حقها أن تستمتع بما فتح الله به على عباده، مؤمنين وغير مؤمنين، حتى يتخليا عن إسلامهم، أي أصوليتهم، حسب وصف الدكتور اللاديني محمد بنيس. ونعتُه باللادينيّ فيه، من عندي، لطف وتجاوز، وإلا فموقفُه من الإسلاميين، عموما، وما يرميهم به من نعوت مجرِّحة بغير حق ولا حجة، وما يلصقه بهم من تهم باطلة، وما يختلقه عليهم من جرائم وأفعال شائنة، بلا تمييز، كلُّ ذلك يجعله مسلوكا، بامتياز، في الاستبداديّين الإقصائيّين، ويهبط به إلى حضيض الخصوم السياسيين الذي ليس عندهم، لخصومهم، إلا السب والتجريح والعبارة الفاجرة.
وهذا مثالٌ من عباراته، في حداثتِه المعطوبة، في حقّ  الإسلاميين؛ يقول عن الجامعات: "...جامعاتنا اليوم عبارة عن مرسْتانات[تأمل عبارة هذا الأديب!]. على المداخل أشرطةٌ تردد كلُّها الدعوةَ إلى التوبة من كل فكر وإبداع[لاحظ إطلاقَ التهم بلا دليل، إلا الإشاعات والموقف المُبيَّت]. على مداخل الجامعات صفوفٌ من المجلدات[يقصد الكتب الإسلامية] التي هي نقيض المعرفة الحديثة. كتب الدعوات الدينية الجاهرة بعذاب القبر وبمنطق التكفير. هذه الجامعات، التي كان الحديثون[من يقصد بالحديثين؟] أنشأوها لتهبّ عاصفةُ العقل والنقد السؤال، تتحول إلى أقبية فيها يتباهى الجاهلون بالجهل[هذا هو الإبداع، وإلا فلا]. طوائف متلاحقة تمنع الجامعةَ عن الجامعة، تمنع الفكر عن الفكر، تمنع الإبداع عن الإبداع. وفي وسط ساحات الجامعات ومدرجاتها مقاصلُ تقطع الرؤوس كلّ ثانية ليرتفع التهليل بالجهل وحده".انتهى من (الحداثة المعطوبة، ص131).
وفي حداثته المعطوبة دائما(أقصد كتابَه "الحداثة المعطوبة")، نجده، في مقالة بعنوان "أولياء بدون ولاية"، يصف الاتجاه الأدبي الإسلاميّ بأنه "ردّ فعل جاهل بالأدب، وبالأدب العربي، وبالثقافة العربية..."(126)، وأن أنصار هذا الاتجاه إنما هم من "أهل اللاأدب". وفي ينتهي، في آخر المقالة، إلى أن "الذي يجعل من نفسه الأديب الإسلامي في العالم العربي ليس صديق الأدب، ولا صاحبه، ولا قريبه، ولا حليفه، ولا ناصحه. إنه من خارج الأدب يتكلم، جاهلا بأسس ومعرفة، ونحن ساكتون."(128).
لاحظْ، أولا، هذه الجرأةَ في الحكم على الآخر، وهذا التعالمَ والأستاذية المزيّفةَ في النظر إلى مخالفيه ممّن اختاروا غير اختياره، واجتهدوا في غير سبيله، واستندوا إلى غير مرجعيّته وهواه. ولاحظْ، ثانيا، مستوى هذه اللغة والتعابير التي يصوغ بها ضغائنه وسخائم صدره، التي تنزل، في أحيان كثيرة، إلى مستوى الكلام الركيك.
سئل مرة عن الأدب الإسلامي فأجاب بأنه "دعوة إيديولوجية عمياء ومتعارضة مع جوهر الأدب"(من حوار أجرته معه "طنجة الأدبية"، ابريل2010). "رمتني بدائها وانسلّتْ"، مثلٌ عربيّ يُضرب لمَنْ يسبق إلى تعْيير  خصمِه بعيْب هو أولى بأن يُعَيَّرٍ به.
هل يُعقل أن يصدرَ مثلُ هذا الجواب من رجل يزعم أنه "شاعر"، وأنه "منفتح"، وأنه من أهل العاطفة والذوق والوجدان؟
"شاعر حداثيّ"، عند نفسه، وفي الأبواق الحداثيّة الصاخبة الهائجة المائجة، لسانُه حديدٌ ونارٌ على الإسلاميين من أهل المسجد، وقلبُه حنانٌ ورقةٌ و"شاعريةٌ" ناعمةٌ فياضةٌ للخمر، أمِّ الخبائث، وبالطبع، لشرّابها من روّاد الحانات، بالليل والنهار؛ اقرأوا ما كتبه مؤخرا في مقالة بعنوان "الشعرُ والحبّ والنبيذ"(أبريل2013).

نقدٌ فارغٌ إلا من المدح والتبجيل
شهادةُ محمد بنيس لأدونيس إنما هي شهادةُ تابعٍ لمتبوعه، وفرعٍ لأصله، وتلميذٍ مَدين لأستاذه ووليّ نعمته "الحداثيّة"، ليس فيها إلا التنزيه والتعظيم، في لغة تسِفّ أحيانا، وأحيانا ينقصها الذوق والعقل والعدل، فإذا هي لغةٌ بينها وبين الاعتدال والحكم المتزن والنقد الموضوعيّ ما بين السماء والأرض.
كلّ ما قرأتُه لمحمد بنيس في حقّ "مثله الأعلى" أدونيس، يشبه، في كثير من جوانبه، كلاما صادرا من نرجسيّ يتغزّل في ذاته إلى حدّ السَّرَف والابتذال، فعيُنه لا ترى إلا البهاء والجمال والكمال والتناسق والتناسب وغيرها من صفات المدح والغرور والإعجاب.
وهذا مثالٌ مما قاله محمد بنيس عن الكلامِ الذي نشرَه أدونيس بعنوان "هذا هو اسمي"، والذي يبتدئه بقوله:
" ماحيا كل حكمةٍ /
              هذه ناريَ /
              لم تبقَ آيةٌ – دميَ الآيةُ /
                             هذا بدئي /
دخلتُ إلى حوضكِ /
                   أرضٌ تدور حوليَ أعضاؤكِ نيلٌ يجري /
طَفَوْنا ترسّبْنا /تقاطعتِ في دمي قطعَتْ صدركِ أمواجيَ
انصهرت لِنبْدأْ: نسيَ الحبُّ شفرَةَ الليلِ / هل أصــــــــــرخُ
أنّ الطوفان يأتي؟ / لِنبْدأ: صرخةٌ تعرج المدينةَ والناسُ
مرايا تمشي / إذا عبَر الملحُ التقينا هل أنتِ؟ /" انتهى كلام أدونيس.

قال محمد بنيس: "هذا هو اسمي ذو صلة مباشرة وفورية بالقرآن[تأمل هذه الجراءة على مقدسات المسلمين، ومعها هذه التمحّلات في النقد والفهم والتفسير والتأويل] وخاصة "أسماء الله الحسنى". تتحول الأسماء إلى اسم. وهو تحوّل يتدخل فيه قانونُ الحوار الذي أساسُه القلبُ والنفيُ والتعارض، أو المحوُ، كما تعلن عنه السلسلةُ الأولى من النص "ماحيا كل حكمة". يتصدى المحوُ للحكمة فتتغير الآيةُ عن دلالتها الدينية. وفي نهاية المقطع الأول تنضاف القدرة إلى المحو، والقدرة هنا مرتبطة بالتغيير، فلم تعد من أسماء الله الحسنى، "قادر أن أغير"."(الشعر العربي الحديث، ج4، ص191)
وأتوقف هنا توقفا اضطراريا لأسأل، في دهشة وامتعاض، أين هي رائحةُ الإبداع في عبارة "'قادر أن أغير"، التي تكررت ثلاث مرات في كلام أدونيس، وفي اللازمة التي بعدها: "لغم الحضارة- هذا هو اسمي"، حتى تستحقَ كل هذه الفلسفة من التأويلات والتفسيرات التي تفيض مِنَ الوقيعة في المقدسات؟ بل لست أراها، بالمقاييس اللغوية والأدبية المتعارف عليها منذ عدة قرون، وحسب المعايير المصطلح عليها في نقد فنون القول، إلا شذرة من نثر بارد لا حياةَ فيه من أدب أو إبداع، وإلا فإلى أيِّ معيار، من تعبير مثلا، أو تصوير، أو تخييل، أو معجم، أو وزن، يستند الدكتور محمد بنيس وأمثالُه من النقاد والأدباء المعجبين، في إثبات شاعرية مثلِ هذه العبارات النثرية الباردة، في رأيي وذوقي وحكمي، غير الكلام الإنشائي المدافع عن مقولات الحداثية العنفية الهدمية؟؟
وأسأل، حسب رأيي وذوقي ومكتسباتي الأدبية، وكذلك حسب ما انطبع في نفسي من شعور من جرّاء قراءة كلام أدونيس، الذي احتفى به الحداثيّون أيّما احتفاء-أسأل: أين يمكن أن تكون الشعريةُ في مثل قوله-لاحظْ أنه كلامٌ خال من علامات الترقيم، وقد جعل بعضُهم هذا الخلوَّ فتحا من فتوحات أدونيس الحداثيّة:

"أغني
لغة النصل أصرخ انثقب الدهر وطاحت
جدرانه بين أحشائي تقيأت
لم يعد تاريخ ولا حاضر…"

وقوله: "سيجيء الرافضون
        ويجيء الضوء في ميعاده…"

وقوله: "لم يعد غير الجنون"، الذي ولّد منه النقادُ الحداثيّون المعجبون فلسفاتٍ وفلسفات؟؟
أين هو الشعر في هذه العبارات؟
وإني لأجد خطابية فاقعةً ممزوجة بمعجم عاميٍّ نابيٍّ تفوح منه روائح الكراهة والنتانة في مثل قوله:

"عدْ إلى كهفك التواريخُ أسرابُ جرادٍ، هذا التاريخُ يسكن حضن بغي. يجتر في جوف أتان ويشتهر عفن الأرض ويمشي في دودة عد إلى كهفك واخفض عينيك/".

بغيّ، أتان، عفن، دودة،… !!أليس في العربية غيرُ مثل هذه الكلمات للتعبير عن مشاعر الغضب والثورة والرفض إزاء واقع وتاريخ وتراث مسخوط عليه؟
وقوله: "تقدموا فقراء الأرض غطّوا هذا الزمان بأسمال ودمع غطّوه بالجسد الباحث عن دفئه." أليس يذكرنا بعبارة ماركس الحماسية الثورية الشهيرة: "يا عمال العالم، اتحدوا."؟ نثر عادي، وخطاب مباشر يخلو من أي تصوير أو تخييل ذي قيمة في ميزان الإبداع الجميل.
وأين هو حق المتلقي من الحد الأدنى من الفهم في مثلِ قوله: "إذا عبر الملح التقينا هل أنتِ"؟


ويستطرد محمد بنيس في تأويلاتِه البعيدة الحَاطّة على المقدس الديني، ابتذالا وتجريحا وامتهانا، إلى أن يقول: "في المقطع الخامس يُصعّد قانون الحوار صرخة تريد (رؤية ما لا يرى)، ليستمر فعلُ المحو "لأمحو ما يجمع بيني وبينه"، ولا يتوانى التحويلُ عن الفعل، فيكون الكتابُ كفنا ويكون الله[أقول تعالى الله وتنزه عن ابتذالات الغافلين وتدنيساتهم] كالشحاذ مآلُه السقوطُ في "تابوته"."(ص192)
أين هي معالم النقد أو القراءة المتذوقة في مثل هذا الكلام؟
كل ما هناك دفاعٌ غير مشروط عن الأطروحات الأدونيسية الحداثية في صورتيها النظرية والتطبيقية.
تبعيّةٌ عمياء، وخطابٌ حداثيٌّ لادينيّ متطرفٌ حتى النخاع.
وبعد، فهل استوعَبْتَ، أيها القارئ الكريم، مقصودي من "شاهد الذئب"؟
في الجزء الخامس القادم، إن شاء الله، خلاصاتٌ أختم بها مقالة "القرد الفنان ونقّاد آخر الزمان".
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 26 ماي2013

الجمعة، 24 مايو 2013

القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(3)


بسم الله الرحمن الرحيم



القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(3)
 


كانت النيّةُ أن تنتهيَ هذه المقالة بالجزء الثاني، لكني رأيت أن عنوانَها، بإيحاءاتِه  المجازية الغنيّة، يمكن أن يتسع لاستيعاب أجزاء أخرى، تجمعها بالجزأين السابقين فكرةٌ جوهرية تتمثل في فضح هذا الزيف الكبير الذي استشرى في حياتنا الحديثة، وخاصة في جانبها الثقافي والفني،  باسم الحداثة وحرية الإبداع والنقد.
الإعلامُ الحداثيُّ اللادينيّ الغازي المسيطر، وكذلك الفوضى العارمةُ التي تطبع حياتنا في مجالات الفكر والقيم والأخلاق، فضلا عن الصراعات الإديولوجية الطاحنة، التي ما تزال، إلى اليوم، تُهدّد بتمزيق لحمتنا، وتشتيت صفوفنا، وتضييع جهودنا وطاقاتنا، وتُمكِّنُ لمشاعر الكراهية والعداوة والبغضاء في النفوس والعقول والوجدان- هذه العوامل، من بين عوامل أخرى، شكلت المناخَ المواتيَ، إديولوجيا واجتماعيا وسياسيا  وثقافيا، لفرض "النصْب" و"الاحتيال"، متدثِّرَيْن بدِثَار الحداثة والفن والإبداع، على أنهما من الأعمال الإنسانية السوية القيّمة البديعة، التي تستحق التنويه والمجازاة، بل قد تستحق، عند بعضهم، التقديسَ والرفعَ إلى المقامات العليا!!
قلت هذا الجزءُ من المقالة يربطه بالجزأين السابقين رابط الفكرة الأساسية، فكرة نقد هذا الواقع المتردي الذي بات عليه الإبداع الأدبي والفني-إلا ما رحم ربّك- بسبب غلبة العبث والغثاء، وغياب النقد الرصين المسؤول، وطغيان الإمعية والتبعيّة والتقليد إلى حدّ الانبهار والعمى والمسخ والاستلاب.
وبعد، فما زلنا في هذه المقالة الثالثة مع "شاهد الذئب".

(3)
"رسالة الرائي"
من بين الرسائل التي خلفها (رامبو) اشتهرت رسالتان، عند النقاد، باسم "رسالة العرّاف أو الرائي"(Lettre du voyant)، كتبهما سنة1871.
ومع أن نصَّ هاتين الرسالتين، في مجمله، لا يقول شيئا ذا بال، فإنه أصبح، عند كثير من الحداثيّين العرب خاصة، بمثابة نصٍّ مقدس، قولُه هو القولُ الفصلُ، وحقيقتُه هي الحقيقةُ النهائية.
فهذا أدونيس يذكُر أنه وَجَد رامبو في هاتين الرسالتين يؤكد "ما كانت الصوفية العربية قد أكدته تجربةً وكتابةً: في كلّ ما يتصل، على الأخص، بتعطيلِ فعلِ الحواس، بغيةَ الوصول إلى حالة من الشفافيّة في الشخص، تخترق كثافةَ العالم الخارجي المادي إلى شفافيته، بحيث يسمع الشخصُ ما لا يُسمع، ويرى ما لا يُرى."(الصوفية والسريالية، ص232)
وقد تجاوزت المبالغة في العناية بمضمون هاتين الرسالتين كلّ حدّ؛ جملةٌ أو جملتان من مثل قول رامبو: "Je et un autre"، قد تكون وردت عَرَضا في كلامه من غير سابق فلسفة، ولا كبير تأمل وإمعان، وقد يكون قالها وهو لا يعي ما يقول من شدة السكر والحشيش، ثُمّ يأتي النقادُ الحداثيون المسحورون، فيبنون عليها الشواهقَ من النظريات والعجائبَ من التأويلات.
وحتى نتبيّن بعضَ أوجه هذه العناية المبالغ فيها، أقتطف، فيما يلي، فقراتٍ من الرسالتين، تركّز على أهم العبارات التي وردت فيهما في موضوع الشاعر "الرائي".
يقول رامبو من رسالته إلى (جورج إزمبار): "إني أفسد أخلاقي إلى حدّ المستطاع. لماذا؟ أريد أن أكون شاعرا، وإني عامل لأجعل من نفسي "رائيا". لن تفهم شيئا، وأكاد لا أستطيع أن أشرح لك. إن الأمر يتعلق بالوصول إلى المجهول بتعطيل جميع الحواس. الآلام عظيمة، لكن يجب أن يكون المرء قويا، أن يكون شاعرا بالفطرة، وأنا قد وجدت نفسي شاعرا. ليس الذنب ذنبي أبدا. إنه غير صحيح أن يقال: أُفَكّرُ، بل ينبغي أن يُقال: أُفَكَّر["on me pense" في الأصل الفرنسي]. معذرة عن هذا اللعب بالكلمات.
"الأنا شخص آخر. لا شأن لنا بالخشب الذي يجد نفسه قد تحول إلى كمان، والاحتقار للذين لا يعون، ويمارون فيما يجهلونه جهلا تاما".
ويقول من رسالته لـ(بول دميني): "أقول: إن على المرء أن يكون "رائيا"، أن يجعل من نفسه رائيا.
"إن الشاعر يجعل من نفسه رائيا من طريق تعطيل طويل، وهائل، ودُروس، لجميع الحواس. جميع أشكال الحب، والمعاناة، والجنون؛ يبعث بنفسه، يستهلك بداخله جميع السموم، ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر. إنه عذاب لا يوصف، يحتاج فيه إلى إيمان قوي[في الأصل: toute la foi. وأرى أن عبارة "الإيمان القوي" تؤدي المعنى المقصود أحسن من عبارة "كل الإيمان".]، إلى كل القوى الإنسانية الخارقة، حيث يصبح ،من بين الجميع، هو المريض الأكبر، والملعون الأكبر، والعارف الأعلى! لأنه يصل إلى المجهول! لأنه حرث روحه الغنية أصلا، أكثر من أي حدّ! لقد وصل إلى المجهول. وحينما ينتهي، وهو مندهش، إلى فقدان إدراك رؤاه، فإنه يكون قد رآها!…
"إذاً، الشاعر هو، حقا، سارق النار.
"إنه مسؤول عن الإنسانية، بل عن الحيوانات نفسها؛ عليه أن يجعل ابتداعاته مدركةً، محسوسةً، مسموعةً. فإن كان ما يجلب من هنالك له شكل فليثبت شكلا، وإن كان بلا شكل فليثبت اللاشكل. إيجاد لغة[العبارة الأصلية: trouver une langue]." انتهت الفقرات المقتطفة.

يعّد مفهوم الشاعر "الرائي"، كما عرضه رامبو في رسالتيه السابقتين، حجرا أساسا من بين المفاهيم التي بنى عليها أدونيس نظريته الحداثية الشعرية.
وقد انتهى أدونيس، في بحثه في تراثنا العربي الإسلامي، إلى أن هذا المفهوم هو من الركائز التي قامت عليها التجربة الصوفية، ومن ثَمَّ، فهو روح المعرفة الباطنية القائمة على الحقيقة اللامرئية، في مقابلة المعرفة الظاهرية القائمة على اتباع الشريعة وأداء الفرائض والواجبات. وقد زعم أدونيس أن هذه المعرفة الصوفية "الرؤيوية" كانت من الأسس التي انبنت عليها النظرية الحداثية العربية، التي سبقت الحداثة الأوروبية بعدة قرون.
وقد جعل أدونيس، فيما بعد، من مفهوم "الرؤيا" عند رامبو، ثُمّ عند السورياليِّين، ثم في التراث الباطني الإلحادي- جعل منه معيارا حاسما في تقويم الشعر والشعراء.
مثلا، يقول أدونيس محاولا تعريفَ الشعر الحديث: "إذا أضفنا إلى كلمة "رؤيا" بعدا فكريا إنسانيا، بالإضافة إلى بعدها الروحي، يمكننا حينذاك أن نعرّف الشعر الحديث بأنه رؤيا. والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفاهيم القائمة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها."
وفي "الثابت والمتحول" نجده يرفع (جبران خليل جبران) إلى مرتبة النبوة بسبب رؤياه الشعرية الخاصة. "والفرق بين النبوة الإلهية والنبوة الجبرانية هي أن النبيّ في الأولى ينفذ إرادة الله المسبقة، الموحاة، ويُعلّم الناس ما أوحي إليه، ويقنعهم به. أما جبران، فيحاول، على العكس، أن يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء، أي وحيه الخاص."
إن أدونيس، في تبنيه لمفهوم "الرؤيا" الذي جلبه من الثقافة الغربية، ثم اكتشفه، فيما بعد، في تراث الباطنيّة، كان يصدر عن خليط في الفهم، حيث جمع بين مفهومين أو تصورين ليس بينهما إلا التناقض والتباعد والتعارض، فهما مفترقان أبدا، لا يجتمعان في عقل ولا في دين.
أما التصورُ الأول فهو المتعلق بالرؤيا التي يكون مصدرها الإلهام الإلهي، وما يتعلق به من مظانّ الصدق والصلاح والإيمان والبشرى.
أما التصور الثاني، فيخصّ "الأحلام" أو "الأوهام"، أو "الكوابيس"، التي يكون مصدرها وساوس الشيطان وما يدور حولها من مظانّ الشر والفسوق والعصيان.
فالرؤيا، في الاصطلاح الشرعي الإسلامي، لا تكون إلا من الله، وهي دائما مطبوعة بالصلاح والصدق والبشرى، وهي جزء من النبوة، وما كان من النبوة فلا يكذب. وهذه بعض الأحاديث التي وردت في كتاب "التعبير" من صحيح البخاري.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
"الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان".
"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة."
"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
"لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة."
"إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله، فليحمد الله عليها، وليحدّثْ بها. وإذا رأى غيرَ ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لن تضره."
وأدونيس في كتاباته يستعمل اصطلاح "الرؤيا" استعمالا مطلقا بلا تمييز، بل يستعمله بالمفهوم المعارضِ للمفهوم الإسلامي الشرعي. وفرق واسع بين الفتوحات الربانية النورانية، وبين الهرطقات الشيطانية الظلمانية.
وهذا المفهوم الشيطانيّ هو الذي نقرأه في أعمال رامبو وأمثاله من "الملعُونين"، كما يصفون أنفسَهم.
ففي "فصل في الجحيم"، لا يكاد رامبو يفتر عن ذكر الشيطان بمختلف أسمائه وصفاته، كـ: Satan، وdiable، وdémon. وكذلك لا يفتر عن الإحالة، بالأفكار والعبارات والكلمات والأسلوب، على عوالم الشيطنة، والشرور، والمفاسد، والمعاصي، وغيرها من المنكرات المحرّمات بمنظارنا الإسلامي. بل إن العنوان "فصل في الجحيمUne saison en enfer" يُغني في معرفة المضامين. وبِمَ توحي كلمةُ "الجحيم"، عندنا نحن المسلمين على الأقل؟ إنها توحي بالكفر، والشرور، والشياطين، واللعنة، والرجم(بمعنى الطرد واللعن)، وغيرها من المعاني التي تضاد ما توحي به كلمة "الجنة" أو "النعيم".
بل إن رامبو نفسَه يُصرّح في مطلع كلامِه في "فصل في الجحيم"، قائلا، على لسان الشيطان: ""ستبقى ضبعا، إلخ…" صاح الشيطانُ الذي توّجني بخشخاشات غاية في اللطافة: "اربح الموت بكل شهياتك، وأنانيتك، وجميع الخطايا الرئيسية"." الخشخاشُ نبتة يُستخرَج منه مخدِّرُ الأفيون.
ثم يخاطب الشيطانَ قائلا: "عزيزي إبليس، أتوسل إليك…وفي انتظار بعض تخاذلاتي الصغيرة التي تأتي متأخرة، أنت الذي يحب في الكاتب غيابَ قدراته الواصفة أو التعليمية، فإني أفْصِلُ هذه الوُرَيْقات القبيحة من دفتري، دفتره اللعين."
فرامبو قد كفانا بكلامه الصريح، وبألفاظه وتعابيره ومضامينه، التي تحيل على مختلف المرافق في دنيا الشيطنة والشياطين- لقد كفانا عبءَ التأويل والتكلف في التسويغ والتخريج، كما نقرأ عند أدونيس وأمثاله من الحداثيين الهدّامين المتطرفين.
ثُمّ نسأل أدونيس ومن يذهب مذهبَه في فلسفة سلوكِ السكارى، وتأويل هلْوسَات الحشّاشين: ما علاقة التصوف باللواط والحشيش والخمر وسائر السموم والممنوعات؟
وإذا كان قد بَدَر من رامبو، الفاشل، المريض، اليائس، المَهين، توقُّحٌ على المقدسات الدينية، فما بالنا نحن نسعى للنسج على منواله، ونشترط على الشعراء، ليكونوا حداثيّين، أن يتوقّحوا كما توقّح، ويسبّوا كما سبّ، ويدنسوا المقدسات كما دنّس؟
وإذا كان رامبو قد ورِث حبَّ تدنيس المقدسات عن أجداده، كما صرح هو بعظمة لسانه، في "جحيمه"، فما شأننا نحن المسلمين الذين ورثنا عقائد التوحيد والعدل والتراحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان؟
وقد كفانا رامبو أيضا عبءَ تقويم أعماله وحياته. فقد قوّم نفسه بنفسه، في كثير من كلامه. فهو القائل في قطعة "الوداع" الأخيرة في "فصل في الجحيم" "…لقد أبدعت جميع الأعياد، جميع الانتصارات، جميع المآسي. حاولت أن أخترع ورودا جديدة، كواكب جديدة، لغات جديدة. اعتقدت أني اكتسبت قوى خارقة للطبيعة. وبعد! عليّ أن أدفن خيالي وذكرياتي! مجد جميل لفنان وقاص مخطوف(emporté).
"أنا! أنا الذي حسبت نفسي ساحرا أو ملاكا مُعفى من كل مسؤولية أخلاقية، قد رجعت إلى الأرض، من أجل البحث عن واجب، ومعانقة الحقيقة المرة! يا فلاّح؟ أأخطأت؟ أيمكن أن تصبح الرأفة، عندي، شقيقة الموت؟
"وأخيرا، أعتذر عن كوني تغذّيت بالأكاذيب. فهيّا بنا.
"لكن ليس بيد صديقة! ومن أين لي بالنجدة؟"
وقد كتب أحدُهم معلقا على هذه القطعة: "في سن التاسعة عشرة كان رامبو قد دخل في خريف عمره."
وهذا الإخراف قبل الأوان كان إيذانا بالانزواء، وكان يعني، فيما يعنيه، بلوغَ ذروة اللاّشَيْئِيّة التي ليس بعدها إلا الانتحار. كان هذا الإخراف الرامبوي إيذانا بقرب الإمساك عن الكلام. وكذلك كان، فقد وجد الرجلُ في نفسه مُسْكَة من شجاعة الاعتراف، فأعلن الانقطاع عن الكلام وأخلد للسكوت.
أما أدونيس ومن على شاكلته، ومن يدور في مداره، فقد أعرضوا عن كلِّ هذا، عَمُوا عنه وصمّوا، وتمسكوا بعبارات تفيد أن (رامبو) لم ينزو حتى أكمل عمله "الضخم"، ورأوا في إشراقاته تتويجا "لمشروعه الشعري في تحرير الإنسان بإعادته إلى ذاته، إلى طبيعته الأصلية "ابنا للشمس"."(الصوفية والسريالية، ص254)
ولمثل هؤلاء يقول الدكتور عبد الغفار مكاوي، في ختام حديثه عن رامبو، تحت عنوان "حكم أخير":
"…لم يكن شذوذُ شعره وغموضه واضطرابُه سوى نوع من تقديم فروض الطاعة للمرحلة التاريخية التي عاشها وتعذّب بها.
"وعندما وصل إلى الحد الذي أدرك معه أن شعرَه الذي شوّه العالمَ والأنا قد بدأ يُشوه نفسه ويدمرها، وجدَ في نفسه الرجولة والشجاعة الكافيتين للإخلاد إلى الصمت المطلق…
"وليت الذين فتنوا به وحاولوا أن يقلدوه تعلموا منه هذا الدرس. ليْتَهم عرفوا متى يصمتون في اللحظة المناسبة…وليت الثرثارين من أشباه الكتاب والشعراء عندنا يتعلمون فيصمتون طويلا قبل أن تنتابهم شهوةُ الكتابة والكلام…"(ثورة الشعر الحديث، ج1، ص159-160)
للكلام تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
فاس: 20 ماي 2013

الاثنين، 20 مايو 2013

القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(2)



بسم الله الرحمن الرحيم


القردُ الفنّان و"نقّادُ" آخر الزمان(2)
 


ردٌّ على طَلَب
بعض القراء، سامحهم اللهُ، شكّكوا في "قصة القرد الفنان"، وأضافوا إلى الشكّ أشياء أخرى تفصح عن معدن شِنْشِنَتِهم. وهؤلاء يُؤسفني أن يكونوا من قراء كلامي، لأني، بكل صدق وصراحة، لا أكتب لهم. وطالبني آخرون، بحسن نية فيما أظن، بنشرِ لوحة القرد (شيتا) حتى تكتمل القصةُ ويكونَ لكلامي مصداقية. ولهؤلاء، وللقراء الجادّين أقول إني ذكرت لكم، في مقالتي، اسمَ الصحافي/المحقق/المغامر، وذكرت اسمَ المجلة التي كان يعمل لها، وذكرت تاريخَ نشر الفضيحة، باليوم والشهر والسنة، وما على المهتم المستزيد إلا أن يباشرَ البحث بنفسه عما يريده بالتحديد. وأنا أؤكد لكل مَنْ كان مِنَ القراء جادّا وصبورا في طلبه، أنه سيجد في الشبكة العنكبوتية الجوابَ الشافيَ عن طلبه، وسيتمتع بالنظر إلى صورة القرد (شيتا) مع صاحبه الصحافي (صلاح محفوظ)، كما سيتمتع بالتأمل فيما أبدعه عبثُ القرد على وجه اللوحة من تلطيخ الألوان وتخليطها وبعثرتها، وسيقرأ مزيدا من التفصيلات والتعليقات عن مقالات "النقاد" المفضوحين. أتمنى للقراء الكرام الجادين بحثا مفيدا وممتعا، وأنتقل إلى الجزء الثاني من المقالة.
في الجزء الأول من هذه المقالة لخّصت قصةَ "القرد الفنان"، التي فضحَت المستوى الذي تردّى فيه الحداثيّون عموما، والمبدعون والنقاد بصفة خاصة، حين تواضعوا على عدم الاعتداد بالقواعد والمعايير والشروط والقيود الضرورية في كل الصناعات، وفرضوا من عندهم، بهوَاهم ومزاجهم، نوعا من الممارسة الفنّية، التي لا سبيل فيها إلى تمييز الفنّ مِنَ العبث، ولا موازينَ سليمة وواضحة لمعرفة فَرَادة صنْعة المبدعين مِنْ "خَرْبَشَة" المُنتحِلين العابثين، وذلك بإسقاط كلِّ التّكاليف التي تجعل من هذا أو ذاك من الناس فنانا معروفا بلمْسته المتميزة، ولونِه المتفَرّد؛ أسقطوا كلَّ الحدود والقيود والمقاييس، فإذا بالفن يصير نهْبا لكلّ بَطّال(من البطالة)، بلا موهبة ولا مؤهلات، لم يجد عملا يشتغل به، وإذا بالحمى تستبيحه الأعشابُ الغريبة الطفيلِيّة، وإذا بالمستوى الفني الإبداعي يهوي إلى الحضيض.

(2)
شاهِدُ الذئب
في المثل الشّعبيّ: قيل للذئب: من سيشهَد لك؟ قال: ذَيْلي(ذَنَبِي).
وإيرادُ هذا المثل في هذا السياق إنما هو للإشارة إلى هذه العصابات التي تكوّنت اليوم، وتنظّمَت، وأصبح لها منابر وأَعلامٌ وإِعلامٌ وخطابات وشعارات، تحتكر الحديثَ باسم الفن، وتحتكر مع هذا الحديث، أيضا، سلطةَ النقد والتقويم، وتصنيفِ الفنانين إلى مقبولين ومرفوضين، وإلى "حداثيِّين" إبداعيِّين مُقرَّبين، وإلى "أصوليِّين" اتّباعيِّين مُبعَدِين.
عصاباتٌ تجمعها إديولوجية متطرفة، وأفرادُها متضامنون متناصرون متحالفون، يشهد بعضهم لبعض، زورا وبهتانا، وتعالُما واحتيالا، لا يرْعوُون، ولا تعرف الزواجرُ الأخلاقية، بلْهَ  الدينيّةَ، إلى نفوسهم سبيلا.
فهناك اليوم أسماء مشهورة في دنيا الشعر العربي، قدْ تمَّ فرضُها فرضا على المتلقي العام والخاص، بالإعلام والإشهار والدعاية المُرهِبة الدائمة، على أنها منارات للاهتداء، ومرجعيّاتٌ للاقتداء، ومقاييس للتقويم وإصدار الأحكام.
وإذا كانت لغةُ الخطوط والألوان والظلال، في الفن التشكيلي، تترك للفنان والناقد معا هامشا واسعا للمراوغة والمناورة، والتفسير والتأويل والتبرير، وخاصة عندما يكون المتلقي من غير المتخصصين، فإن هذا الهامشَ، في فن الإبداع بالكلمات، يضيق كثيرا إلى درجة أن المدعيَ العابثَ المحتالَ سرعان ما ينكشف عواره، فيصبح مفضوحا بلا غطاء.
إننا نقرأ اليوم في بعض أعمال مَن ينتحلون "نقدَ الشعر" تحليلاتٍ لبعض النصوص هي، في ادعاءاتها وهذيانها ولغْوها وتلفيقاتها، أفظعُ وأبشع مما قرأناه لـ"نقاد" اللوحة القرْدية في الجزء الأول من هذه المقالة.

أدونيس يشهد لـ(رامبو)
امتازت حياة الفرنسي(جان أرتور رامبو) القصيرة(1854-1891) بأنها كانت عبارة عن شذوذ في شذوذ، وفشلٍ بعد فشل. فهو لم يعرفْ حياة عائلية طبيعيةً مستقرة، ولم ينجحْ في دراسته، لأنه انقطع عن المدرسة قبل الباكالوريا. وقد سلك طريقَ المغامرة، فطلب الشهرةَ والحظوة من طريق الأدب، فرجع بخُفّيْ حُنَيْن. ثم هاجر طلَبا للمال، فاشتغل في (الحبشة)، ثم في (عدن)، فانتهى به الأمر إلى الاشتغال بتهريب السلاح. وقد رجع من رحلته التي استغرقت قريبا من عشر سنوات، خاليَ الوفاض، يجرّ ذيول الخيبة واليأس والمرض. وقد طبع حياتَه، في مغامراته الفاشِلة، التسكّعُ وإدمانُ شُربِ الخمرة وتعاطي المُحرّمات والمخدرات، كالحشيش والشذوذ الجنسي، وخاصة في علاقته اللوطيّة المشهورة مع صديقه (بول فرلين). وقد انتهى به المطاف إلى المرض، ثم إلى دخول المستشفى حيث قُطعت إحدى رجليه. وقد عاش بعد ذلك ستة أشهر، تقريبا، (من ماي إلى نونبر)، قبل أن يقبض اللهُ روحه في العاشر من نونبر من سنة 1891.
أما الأعمال الكتابيّة التي تركها (رامبو)، فهي عبارة عن مقطّعات شعرية موزونة، وأخرى غير موزونة، ومجموعتين نثريتين، الأولى: "فصل في الجحيمUne saison en enfer وقد نُشرت في حياة رامبو سنة 1875، ببروكسل، والمجموعة الثانية: "إشراقاتIlluminations"، التي جُمعتْ وعُنونَت وطُبعَت بعد موته. وله مع هذه الأعمال رسائلُ اشتهرت منها رسالتا "الرائي": الأولى كتبها إلى (جورج إزمبار)، يوم 13 ماي من سنة 1871، والثانية إلى (بول ديمني)، يوم 15 ماي 1871.
هذه الترجمة الموجزة مستقاة من عدة مصادر، أخص منها بالذكر كتابَ "رامبو"، لسمير الحاج شاهين، والكتابَ الجامع لأعمال رامبو، بالفرنسية:
(Rimbaud, Poésies, Une saison en enfer, Illuminations- Préface René char, Editions Gallimard, seconde édition revue, 1984, p.218-224).
لقد حفَلَت كتاباتُ الحداثيِّين بمقالات وشهادات في حق (رامبو) مادحةً رافعة، مأخوذةً بسحر صنيعه، رازحةً في أغلال "إشراقاته" وشياطين "جحيمه"، حتى وجدنا أدونيس يرفعه إلى مرتبة التصوف الإسلامي-طبعا، كما يرى أدونيس هذا التصوفَ ويفهمه-في دراسة بعنوان: "رامبو-مشرقيا، صوفيا"، وهي منشورة في كتابه عن "الصوفية والسريالية"، ووجدناه يفسّر شذوذه، ومغامراته، وسياحاته التجارية، وتجاربَه الكتابيّةَ، بمنظار صوفي، حتى أصبحت كلُّ غريبة من غرائب رامبو، وكلُّ منكر من سلوكاته وكلامه، لها ما يقابلها في التجارب الصوفية المشرقية، وفق المنظور الأدونيسي الخاص الشاذّ المبتدَع المُشَوّه للتصوف. وقد تحدثت بشيء من الاختصار عن "صوفية أدونيس" في مقالاتي عن "الوجه الآخر لأدونيس".
ويذهب أدونيس، في دراسته، إلى أن خصائص النص الرامبوي(نسبة إلى رامبو)، الذي "يتمثل تعيينا في "فصل في الجحيم" و"إشراقات"…هي نفسها الخصائصُ التي يتصف بها النص الصوفي."(ص238)
ويذكر من هذه الخصائص "...أنه نص مبهم…والسر في ذلك أنه ينقل تجربة في المجهول، شأن النص الصوفي، الذي ينقل تجربة في الباطن الخفي(caché)."(نفسه) ثم يبني أدونيس على هذه الخاصية "أن الشعر الحق ليس الوضوح والبداهة أبدا، وأنه، على العكس، دخول في عتمة العالم"(239).
ومن هذه الخصائص أيضا، حسب مزاعم أدونيس، "أن النص الرامبوي يتجاوز الثنائية الديكارتية (الذات/الموضوع)(sujet/objet) …ومن هنا لا بد من دفعة ما اصطلح عليه بـ"القلب"…لا بد من رؤيا شفافة للعالم تتبطن أغواره، فيما وراء العقلانية ومنطقها، وفيما وراء الذاتية والموضوعية"(نفسه). وعلى هذا تكون "المعرفة الشعرية صوفية: هي الحدس بما لا نراه، بالعالم غير المرئي، بتلك الحالة البدئية التي لا انفصال فيها بين الأنا والوجود، والأنا والنحن."(نفسه) ومن ثَمَّ "لا بد لفهم النص الرامبوي من قراءته بالطريقة نفسها، التي يقرأ بها النص الصوفي: قبل أن نفهم العبارة يجب أن نفهم الإشارة…وقراءته إذن لدنيّة، نوع من المسارّة والتلقن."(نفسه)
وخاصية أخرى يشهد بها أدونيس لنموذجه الحداثيّ "هي أن النص الرامبوي يكشف عن موقف رؤيوي نبوي، شأن النص الصوفي…فالوجود ليس مجرد قضية عقلية، وإنما هو رسالة. وفي هذا يتجلى معنى النبوة التي هي، جوهريا، غير غربية"(241).
وأنا أسأل، بعد قراءة عبارات أدونيس المستوحاة من جحيم رامبو، أسئلةً بسيطة وواضحة بعيدا عن لغة الأضواء وصخب الأصوات، التي رفعت رامبو إلى قمة الشعراء العظماء، والمبدعين السحرة، والصوفيين الرائين:
أين هو السحر والانخطاف الصوفي؟ أين هو الشعر؟ بل أين هو الذوق الأدبي، ابتداءً، في مثل قوله من قطعة من "فصل في الجحيم"، بعنوان "دم فاسد":
"إن لي من أسلافي الغاليين(Gaulois) العينَ الزرقاء الفاتحة، والدماغ الضيق، وعدم المهارة في القتال. إني أجد طريقة ملبسي وحشية كطريقتهم. لكني لا أدهن شعري بالزبدة.
"الغاليون كانوا سالخي حيوانات، وحارقي أعشاب، من أشد الناس حمقا في زمانهم.
"عنهم ورثت: عبادة الأوثان، وحبّ انتهاك المقدسات(sacrilègeآه ! جميع الآفات، غضب، فسق –الفسق العظيم- وخاصة الكذب والكسل."
أين هو هذا الحدس؟ أين هي هذه الرؤيا الشفافة للعالم؟ أين هو المعنى، أيُّ معنى، في مثل قوله من قطعة "كيمياء الكلمة" في "فصل في الجحيم":
"اخترعت لون حروف العلة ! A سوداء، E بيضاء، I حمراء، Oزرقاء، U خضراء. –ضبطت شكل جميع الحروف الصوامت وحركتَها، وبإيقاعات غريزية، أعجبت باختراع فعل شعري يكون سهل المنال، في يوم من الأيام، على مختلف الحواس. احتفظت بالترجمة.
"لقد كان الأمر في البداية دراسة. كنت أكتب سكوتات، لياليَ، أسجل الذي لا يعبّر عنه. كنت أركز نظري في المتاهات."

ماذا نقرأ لرامبو، وخاصة في مجموعتيه: "فصل في الجحيم" و"إشراقات"؟
نقرأ اللاموضوع، واللامعنى، والتيه في مضايق الشذوذات النفسانية، ومتاهات الغرائب الوهمية. قل إننا نقرأ كل شيء، إلا الكلام الذي يُراد به التواصل مع الناس. إنه، في جملة، عملُ/كتابةُ اللاتواصل واللاتفاهم.
"A سوداء، E بيضاء، I حمراء، O زرقاء، U خضراء…". ماذا يصلني، أنا القارئ –أسأل: ماذا يصلني؟ بلا فلسفة، ولا تأويلات مغرقة في الغموض، كما عند بعض النقاد-ماذا يصلني من هذه الألفاظ المحشورة حشرا في سياق لا يرمي إلى إقامة مبنى ولا إلى إقامة معنى؟ ما هو حظي من هذه القراءة؟ بل أين هو حقي لدى الكاتب المتكلم؟ هل يجني القارئ من مثل هذا الكلام غير الإساءة والحقارة والعناء؟ أين هو حق اللغة المشتركة؟ أين هي الحدود الدنيا للفهم والتفاهم والتواصل؟
وبعد هذا يأتي أدونيس ليقول في هذا الصدد، في تفلسف وهذيان: "ما يسميه رامبو بـ(كيمياء الكلمة) ليس إلا الوسيلة التي يمكن بها ابتكارُ أشكال تعبيرية في مستوى السر أو المجهول. هذه الطريق التي يصفها رامبو هي نفسها، في اللغة الصوفية، ما يُسمّى بمعراج السلوك إلى المعرفة. والمعرفة هنا رؤياوية، ولا شأن للعقل بها، وهي خارج المألوف والعادي."(الصوفية والسوريالية، ص245)
ثم يتحدث عن مهمة الشاعر قائلا: "مهمة الشاعر، بعبارة ثانية، هي إعادة كتابة العالم، وفقا لفهمه تلك الكتابة السرية. هكذا يُسمي العالمَ من جديد. وفي هذا الأفق نفهم كلامَ رامبو عن (كيمياء الكلمة)، وإعطاءَه الحروف ألوانا، وذلك من أجل أن تكون اللغة قادرة على التطابق مع الأشياء التي يكشف عنها، أي لكي تكون في مستوى تسميةِ العالم وأشيائه تسميةً جديدة.
ما هذا الهُراء؟ الانحرافُ والفساد يتحول في منظار أدونيس المتطرف إلى استقامةٍ وصلاح، والموتُ والفراغُ ينقلب بفعل شهادة الزور إلى حياة وعمران!!؟
فإذا تعاطى رامبو الحشيش والمسكرات، وغاص في أوحال الشذوذ، فلأنه يريد، بذلك-حسب شهادة أدونيس- أن يصل إلى المقامات التي وصل إليها الصوفية، إلى المجهول. "وتتبع قصيدتُه "صباح السكر"(إشراقات)[كما يفهّمنا أدونيس] مراحلَ الطريق التي يملكها المريد العارف: التضرع إلى الكائن الأسمى(الله)، شراب السمّ(الحشيش)، أي الدخولُ في السكر الذي يعطل الحواس، رفض القيم الثنائية(الخير والشر)، وأخيرا نشوةُ الفرح والتطهر(الفناء)."(242)
  إننا نجد أدونيس، وهو يدرس أعمال رامبو، أو يقوّمها، أو يسعى لإثبات ميزتها الجمالية الشعرية، يقف على بعض الكلام الناضح بلاشيئيته، ومع ذلك يصر على أن هناك شيئا ما. لماذا؟ لأنه شاع في الدنيا وترسّخَ وتقدّسَ أن كلام رامبو، كيفما كان، لا يمكن أن يكون من أجل اللاشيء. فهو من أجل شيء ما ، ولو كان هذا الشيء فراغا في فراغ، وألوانا مكدّسةً على غير تنسيق ولا نظام، وأصواتا "نشازا" مختلطة تتوالى على غير لحن ولا إيقاع؛ إن كلام رامبو، عند الحداثيين المتطرفين، لا بد أن يقول شيئا ذا قيمة، ولو كان هذا الشيءُ من قبيل وسوسات الشياطين، وغَمْغَمات العُصابِيِّين، ونَفثَات المجانين المهْلُوسين. من معاني المهْلوس، في اللغة، مسلوب العقل.
وإذا ضاقت بأدونيس المسالكُ في تقويم بعض كلام رامبو اللاشيئي قال: لا بد أن يكون هناك شيء، إنه الفعلُ "الرؤيوي"! إنها المعرفةُ التي تأتي من طريق الحدس الباطني! إنها الإشراقات الصوفية! إنه الانخطاف والمحو! وقال غيرَ هذا من العبارات والأسماء والاصطلاحات "الكبيرة"، التي لا يمكن أن ننتهيَ منها إلى طائل.
فإن قال رامبو مثلا:"Je est un autre"(الأنا شخص آخر)، قام أدونيس مفلسفا ومؤولا، واعتبر هذه العبارةَ من رامبو(أنا هي آخر)-كما يترجمها أدونيس- بمثابة إعلان "الحرب على الثنائية العقلانية الديكارتية، التي تؤسس للمعرفة الموضوعية-العلمية في الغرب"(248). فرامبو يعارض بقوله"Je et un autre" الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". "ويمكن-يقول أدونيس-أن نصوغها[أي قولة رامبو] بقولنا: أفكر، إذن أنا لا أنا، كما يقول المتصوف."(نفسه)
والتكلّف في مثل هذا التأويل، في نظري، ساطع لا يحتاج إلى بيان.
ثم يستطرد أدونيس قائلا: "والشعر هو هذا الرحيل من المجهول حيث تغيب الأنا في نشوة الانخطاف، وتصبح هي الوجود، والنحن، والهو: تصبح أنا لا أنا."(239-240)
ويوضح هذا الهذيان الحداثي في موضع آخر، فيقول: "المظهر الأول لانفجار الأنا عند رامبو هو أن وعي الوجود ووعي اللاوجود يتجليان معا وفي الآن نفسه. فالكوجيتو الرامبوي، إن صح هذا التعبير، نقيض للكوجيتو الديكارتي. إنه، بالأحرى، كوجيتو صوفي.
"الأنا آخرJe et un autre. وهذا يعني[لاحظ هذه الجرأةَ على الفهم والتأويل وفلسفة الخواء] أن الوجود يمكن أن يكون من الناحية الذاتية شيئا، وأن يكون من الناحية الموضوعية شيئا آخر نقيضا. فالوجود هو نفسه وغيره في آن، كمثل الأنا، الذي هو أنا وآخر معا."(248) إلى آخر ما استنبطه أدونيس من "فلسفة" و"معارف باطنية" و"علوم لدُنّية" كامنة في عبارة بحجم: "الأنا آخر"!!
تتمة الكلام في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فاس: 20 ماي2013