الخميس، 21 يونيو 2012

الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(3)



بسم الله الرحمن الرحيم



الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(3)





قصة الحطيئة والنجاشي مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه



كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع الشعراء، عدة حكايات، وقد كان دائما يتصرف تصرف القاضي النزيه، الذي كلُّ همه هو إقامة العدل، وحماية الحقوق.

ونقف، بإيجاز، عند اثنتين من هذه الحكايات، تجسدان النازلة القضائية بكل عناصرها، في أوضح صورة: المدّعي، والمدّعَى عليه، والقاضي، والشهود من أهل الخبرة والاختصاص، وطريقة أو مسطرة التحري والتحقق، قبل إصدار الحكم النهائي.

والحكاية الأولى كانت مع الحطيئة(جرول بن أوس)، والثانية مع النجاشيّ الحارثي(قيس بن عمرو).

وفيما يخص الحكاية الأولى، فقد شكا الزّبرقان بن بدر الحطيئةَ[1] إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وادّعى عليه أنه قد هجاه، وذكر من ذلك قولَ الحطيئة:



دع المكارم لا ترحل لبغيتــها   واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسي[2]



فحاول سيدنا عمر، رضي الله عنه، أن يهوّن عليه وقْعَ كلام الحطيئة، وأن يُفهمه أنه إنما أراد معاتبته لا هجاءه[3]، لكن الزبرقان لم يقتنع، وبقي مصرا على دعواه وشكواه. فأرسل عمر، رضي الله عنه، إلى حسان بن ثابت يطلب رأيه في قول الحطيئة، فقال حسان: "لم يهجه، ولكن سلح[تغوّط] عليه[4]. فحبسه عمر، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين."[5]

وقد ذكر ابن سلام الجمحي أن عمر، رضي الله عنه، كان "يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة."[6] فهو لم يحتج إلى حسّان لأنه لم يكن له علمٌ بالشعر، بل لأنه قاض واجبُه الأول إقامة العدل، وأن لا يصدر حكما إلا بعد التثبت والتحقق. ولم يزل كلُّ قاضٍ يتحرى العدل والإنصاف محتاجا، دائما، لخبرة أهل الميدان، ومعرفة أهل الاختصاص.

فنحن هنا إذاً أمام نازلة قضائية بحتة، يراد فيها تبينُ وجه الحق، والاقتصاصُ من الجاني، وإنصافُ المجني عليه.



وفي الحكاية الثانية أن النجاشي الحارثيّ(قيس بن عمرو)[7] هجا بني العَجْلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "فقال عمر: ما قال فيكم؟ فأنشدوه:



إذا الله عادى أهل لؤم ورقّـــة

                        فعادى بني العجلان رهطَ ابنِ مقبل.



فقال عمر: إنما دعا، فإن كان مظلوما استُجيب له، وإن كان ظالما لم يستجب له. فقالوا: وقد قال أيضا:

قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمــــــة      ولا يظلمون الناس حبّة خــردل.



فقال عمر: ليت آل الخطاب هكذا. قالوا: وقد قال أيضا:



ولا يردون الماء إلا عشيــــة

                           إذا صدر الوُرّاد عن كل منهــل.



فقال عمر: أقل للّكاك[الزحام]. قالوا: وقد قال أيضا:



تعاف الكلاب الضاريات لحومهم

                           وتأكل من كعبٍ وعوف ونهشلِ.



فقال عمر: أَجَنَّ القومُ موتاهم فلم يضيّعوهم. قالوا: وقد قال:



وما سُمّي العَجلانَ إلا لقيلهم     خذِ القَعْبَ[8]واحْلب، أيها العبد، واعْجلِ



فقال عمر: خير القوم خادمهم(وكلنا عبيد الله)؟."[9]

ولمّا رأى عمر، رضي الله، الناسَ مصرين على دعواهم لا يتزحزحون عنها، أرسل إلى حسان-وفي رواية "الشعر والشعراء" أرسل إلى حسان والحطيئة- فسأله، فقال "مثل قوله في شعر الحطيئة"(نفسه)، أي أن النجاشيَ لم يهجهم فقط، ولكن سَلَح عليهم.

"وكان عمر، رضي الله، عنه، أبصرَ الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحدّ بالشبهات، فلمّا قال حسان ما قال، سجن النجاشي، وقيل: إنه حدّه."[10]

وهناك روايات كثيرة تؤكد أن عمر، رضي الله عنه، في مثل هذه الشكاوي، التي يكون فيها الشعراء مدّعى عليهم، كان أحرص ما يكون على أن ينأى برأيه وذوقه وعلمه وحسه الشعري عن الحكومة، وكان يستشهد للفريقين(المدّعي والمدّعَى عليه) رجالا، كحسان بن ثابت، يسلم النظر إليهم، "فرارا من التعرض لأحدهما"[11]، "فإذا سمع كلامهم[أي الرجال المُحكّمين] حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا للفريقين."[12]

ونخلص من كل هذا إلى أن الإسلام، ممثلا في أولياء الأمر، أي المسؤولين الحكوميين بعبارة العصر، لم يتعرض للشعر بما هو فن، ولا للشعراء بما هم شعراء يلتزمون حدود قانون المجتمع وآدابه وأخلاقه. وكل الروايات التي وردت عن عقاب الشعراء، على عهد الخلفاء الراشدين تحديدا، إنما كانت من صميم العمل الواجب على أولياء الأمر تجاه سلوكات إجرامية، من أجل إقامة العدل، وحفظ الحقوق، ورعاية مصالح الناس[13].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






[1] قد أجمعت المصادر على أن الحطيئة كان من أقبح الناس خِلْقة وخُلُقا. قال الأصمعي، فيما أورده صاحب الأغاني: "كان الحطيئة جشعا، سؤولا، ملحفا، دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين."(الأغاني:2/163)
وقال عنه صاحب الأغاني: "وكان ذا شر وسفه، ونسبُه متدافع بين القبائل."(نفسه:2/157).
ووصفه ابن قتيبة بأنه "كان رقيق الإسلام، لئيم الطبع."(الشعر والشعراء، ص199).
ومع هذا الإجماع على وصفه بأقبح النعوت، فإنهم قد اعترفوا له بمكانته الشعرية العالية، حيث وصفوه بأنه كان  "متين الشعر، شرود القافية"(طبقات الشعراء، لابن سلام، ص47)، وأنه "من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم، متصرّف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر والنسيب، مجيد في ذلك أجمع."(الأغاني:2/157).

[2] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص51. والشعر والشعراء، ص203.

[3] الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، دار الثقافة، بيروت،ط8، 1979:ج2/ص186.

[4] لقد كان الحطيئة "بذيئا هجّاء"، لم يكد أحد يسلم من سلاطة لسانه؛ فقد هجا أمه وأباه، بل وهجا نفسه. ومما قاله في هجاء أمه:
جزاك الله شرّا من عجـــــــوز           ولقّاك العقوق من البنينـــــا…
حياتك، ما علمت، حياة ســوء            وموتك قد يسرّ الصالحينــا.
(الشعر والشعراء، ص200. وديوانه، ص186،187)
ومما قاله في هجاء أبيه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي             وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم، لا حيّاك ربـــّي،            وأبواب السفاهة والضــــــلال.
(نفسه. وديوانه، ص168)

[5] الشعر والشعراء، ص203. وفي رواية "طبقات الشعراء"، لابن سلام: "درق عليه" مكان "سلح عليه". تراجع تفصيلات أخرى في هذه القصة في ("الأغاني":2/179 وما بعدها).

[6] طبقات الشعراء، ص51.

[7] "كان فاسقا رقيق الإسلام"(الشعر والشعراء، ص204). ومن فسقه أنه كان يجاهر بالإفطار في رمضان والناس صيام. وقد أُخذ في ذلك، "فأُتي به علي بن أبي طالب، فقال له: ويحك، ولداننا صيام وأنت مفطر، فضربه ثمانين سوطا وزاده عشرين(سوطا)، فقال(النجاشي الحارثي): ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ فقال: (هذه) لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه…"(المصدر نفسه)

[8] القعب: القدح الضخم.

[9] الشعر والشعراء، ص205.

[10] العمدة، لابن رشيق:1/52. وفي رواية ابن قتيبة أنه لم يسجنه، بل هدّده "وقال له: إن عدت قطعت لسانك."(الشعر والشعراء، ص205)

[11] العمدة:1/76. البيان والتبيين:1/240.

[12] البيان والتبيين:1/240.


[13] راجع أمثلة أخرى، في هذا الموضوع، في "باب من استعدي عليه من الشعراء"، في "العقد الفريد"، لابن عبد ربّه الأندلسي(أحمد بن محمد)، الجزء السادس، ص166-173.

الخميس، 14 يونيو 2012

الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(2)



بسم الله الرحمن الرحيم



الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع



(2)



حرية الشاعر الفنان لا تُسقط مسؤولية الشاعر الإنسان



(1)

بأي مقياس-كيفما كان هذا المقياسُ- يُعطي هؤلاء الحداثيون الأديب، شاعرا كان أم كاتبا، الحرية المطلقة، لقول ما يريد، وكيف يريد، وفي أي وقت يريد، وبأي أسلوب يريد؟

أليس للناس حقوق وحرمات؟ أليس للمجتمع مقدسات وقوانين؟ أم أن الأمر قانون، وحريات مشروطة، وحقوق واجبة، ومقدسات مرعية، إلا على الأديب، فإنه غير معني بكل ذلك، لأن الشريعة، والحكمَ بالظاهر، والقوانينَ الجزائية والتأديبية، وغيرَها من متعلَّقات حفظ الحقوق والحريات، ورعايةِ القوانين، وزجرِ المخالفات والجنايات، إنما هي لغيره من الناس؟

مَنْ، في الدنيا، يقول هذا ؟ وبأيّ فهم، أو نظرية، أو حق، أو دين، نُعطي الأديب امتيازَ عدم الخضوع لشريعة مجتمعه، وقواعدِ نظام هذا المجتمع وآدابه وأعرافه؟

مَن أعطاه الحقَّ المطلقَ مِن أيةِ مسؤولية، ليمزّقَ، ويتجاوزَ، ويهدم، ويُفجّر، ويَسخَر، ويدنّس؟

لماذا هذا الامتيازُ بالتحديد للشعر والشعراء، مثلا؟ ومتى كان هذا الامتياز؟ ومن قال به؟

مَن حكمَ هذا الحكمَ الذي لا يقبل الطعن والمراجعة؟ ومن صوّر الشاعر هذا التصوير المُغرق في الوهم والعبث واللاجدوى؟

الذي أعرفه، في حدود اطلاعي وحسب معلوماتي، هو أن الذي قال، وحكَم، وصوّر، وقرّر، وفرَض، هو دينُ الحداثيّة الإديولوجية العنفية المتطرفة، وقراراتُ هذا الدين مطلقةٌ نهائية لا تقبل المناقشة والاستئناف.

كيف يقبل الحداثيون أن تنص المدوناتُ القانونية على أن سبّ رئيس دولةٍ أجنبية، مثلا، يُعدّ جريمة يعاقِب عليها القانون، ولا يجدون في ذلك أدنى حرج، بل يرونَه هو عين الحق والعدل والنظام، ويرفضون، في مجتمع إسلامي، تجريمَ إهانةِ مقدّسات المسلمين، مثلا، أو انتهاكِ حرمات الله، أو الدعوةِ إلى الإلحاد والطعنِ على أصول الإيمان، أو المجاهرةِ بالمعاصي والآثام، والتحريضِ على البغي والفساد؟

كيف تُقبل محاكمة من يتطاول على المبادئ اللائكية(العلمانية) الأتاتوركية للدولة في تركيا ، مثلا، وتُرفض محاكمةُ شاعر أو كاتب أهان اسمَ الله في عمله، أو طعنَ على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

ما هذا الخلطُ الفظيع في الحقوق والواجبات؟

ما هذا الفهم العبثي للقوانين والحريات؟

ما هذا العبث في تقدير مصالح المجتمعات، وحماية حقوق الأفراد والمعتقدات؟



(2)

لقد تكلم الحداثيون، وعلى رأسهم أدونيس، على مجموعة من الشعراء، معدودين ومعروفين بأسمائهم، وزعموا أن الإسلام قد أدانهم، وأن تلك الإدانة لم تكن إلا بسبب فنهم/شعرهم، وأطلقوا هذا التعليلَ، حتى بات عندهم كأنه من الحقائق المطلقة.

أما عند البحث المتأني، والمراجعة الموضوعية الدقيقة، فلا نجد فنّا مرفوضا، ولا أدبا مردودا، ولا حرية مغتصَبة، ولا حقا ضائعا، ولا قمعا مسلَّطا على الشعراء، وإنما الأمرُ، في حقيقته، جرائمُ ومخالفاتٌ يعاقب عليها قانون المجتمع، كما هو الشأن في أي مجتمع منظم ومتحضر.

المجاهرةُ بشرب الخمر، مثلا، في المجتمع الإسلامي جريمة يعاقب عليها القانون. والوقوع في أعراض الناس جريمة، وكذلك التحرّشُ بالنساء والمسُّ بكرامتهن وعفافهن، وإتيانُ الفواحش والمحرمات، وإثارةُ الفتن، وإشعالُ فتيل النعرات العرقية والقبلية والطائفية،… إلى آخر الجرائم والمعاصي والمخالفات التي ينص قانون المجتمع على معاقبة مرتكبيها.

لقد كان هناك في النقد الأدبي القديم ما يشبه الاتفاقَ الضمني على التمييز بين الشعرِ بما هو فن وإبداع في مجال الأدب، وبين الشعر بما هو سلوك اجتماعي مسؤول في مجال القانون والمعاملات، فلذلك وجدنا نقاد الشعر يعترفون ببراعة الشاعر، وجودة شعره، وعُلو شاعريته بين الشعراء، وإن كان فاسقا، رقيقَ الدين، أو خبيثا في هجائه، أو فاحشا في غزله، أو مُغاليا في مجونه وتهتكه وخلاعته.

فالمطلوب، عند من ينقد الشعر من جانب فنيته وبراعة صنعته، هو أن "على الشاعر إذا شرع في أي معنى كان، من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة."[1]

ويذهب قدامةُ بن جعفر، في تأكيده أن الدائرة في نقد الشعر إنما هي على براعة الشاعر واقتداره- يذهب إلى "أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئا وصفا حسنا، ثم يذمه بعد ذلك ذما حسنا"(نفسه،ص66) ، لا تستوجب عيبَه والإنكار عليه "إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي-يقول قدامة- يدل على قوة الشاعر في صناعته، واقتداره عليها."(نفسه)

فالمهم، عندهم، هو قدرة الشاعر على البلوغ غايةَ الجودة في تناول موضوعه، وإن كان هذا الموضوع فاحشا في ذاته، إذ "ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلا، رداءته في ذاته."(نفسه)

لكن، حينما تتجاوز هذه الفحاشة حدودَ الشاعر في ذاته، وتصبح وقوعا في حدّ من حدود الله، أو تطاولا على حقوق الناس، أو مجاهرة بارتكاب المعاصي والمحرمات، فإن الأمر عندئذ يقتضي تدخّل القضاء، لأنه هو الموكّل بحماية الحقوق والحريات، لإرجاع الأمور إلى نصابها، وضمان أمن الناس، والانتصار لأصحاب الحق، والضرب على يد المجرمين المعتدين.

لكن الفوضويّين من أنصار الحداثية الإديولوجية المتطرفة يعترضون على أن تكون نهايةُ حرية الشاعر الفنان عند حدود شريعة المجتمع. فالشاعر، عندهم، أكبرُ من أن يخضع لقوانين المجتمع.



(3)

لقد ذكر أدونيس، في سياق بحثه عن أصول الثقافة الاتباعية في التراث العربي الإسلامي[2]، أسماءَ مجموعة من الشعراء على أنهم قد نزلَ ما نزل بهم من العقاب، لا لشيء إلا لأنهم شعراء. ولم يُشر، ولو إشارة خفيفة، إلى التّهم التي ثبتت عليهم، والتي استحقوا من أجلها أن يُعاقبوا، كسائر أفراد المجتمع، وفق شريعة الإسلام التي هي قانون المجتمع آنئذ. وهذا نص كلامه الذي ختم به الفصل الثالث من الجزء الأول من كتاب "الثابث والمتحول"، قال:

"وبمقتضى هذا المنظور الأخلاقي-الإديولوجي[3] سُجن ضابئ ابن الحارث البرجمي، وضرب أبو شجرة السلمي، وسجن أبو محجن الثقفي لإعلانه في شعره أنه يعارض تحريم الخمرة[4]، ثم نفاه عمر، ومات في منفاه، وقُتل سحيم عبد بني الحسحاس[من قتله؟][5]، ونفي عمر بن أبي ربيعة والأحوص، ونُذر قطع لسان جميل، وأُهدر دمه[من أهدره؟ ولماذا؟]، وحُبس العرجي حتى مات في سجنه، وعُذب أبو دهبل الجمحي، ونُفي ومات في منفاه، وقتل وضاح اليمن. هذا دون أن نذكر الشعراء الذين قتلوا لأسباب سياسية."[6]

وهذا، في رأيي-بعد اطلاعي على أخبار الشعراء الذين ذكرهم، وما عُرفوا به بين الناس، في مجتمعهم، وما تناقله الرواة من روايات، لهم أو عليهم- حكمٌ، من أدونيس، خالٍ من النزاهة العلمية، وأمانة البحث الموضوعي، الذي، من مميزاته التحري والتحقق، وبالتالي، فهو حُكمٌ يندرج في خانة الأفعال الإديولوجية المتعصبة، التي تقوم، أساسا، على الهوى وفرض الرأي الشخصي، ولو على حساب قواعد الاستنتاج النزيه، ومقومات المنهج السليم.

وفيما يلي أمثلةٌ توضح حالاتِ بعض هؤلاء الشعراء الذين قدّمهم أدونيس على أنهم من ضحايا المنظور "الأخلاقي-الإديولوجي"[7] الإسلامي،وثقافته الاتباعية، التي تعارض حرية الإبداع، وتحارب الشعراء المبدعين. ونكتفي بأمثلة فقط، لأننا إذا أردنا أن نوضح كل حالة من حالات الشعراء الذين ذكرهم، فإن ذلك سيقودنا إلى تطويل لا مكان له في هذه المقالة.

1) فهذا أبو محجن الثقفي، "كان مولعا بالشراب مشتهرا به"[8]، وهو القائل، يصف شدة ولعه بالخمرة ومدى تمكن حبّها من نفسه:

إذا متّ فادفِنّي إلى جنب كرمــة

                           تُروّي عظامي، بعد موتي، عروقُها

ولا تدفننّي بالفلاة فإننــــــــــــــــــي

                           أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقهـــــــــــا[9]

وقد كان شاعرا شريفا[10]، لكن شاعريته وشرفَه لم يمنعاه من أن يُقام عليه الحدّ في شرب الخمر مرارا(نفسه) ، لأن الأمر أمرُ شريعة وحدود، لا علاقة له بالفن والإبداع.

ويُروى أن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، حبسه، في معركة القادسية، في القصر معه، فلمّا حمي الوطيس تمنى أبو محجن لو كان في قلب المعركة، وقال في ذلك:

كفَى حَزَناً أن تطرد الخيلُ بالقنا

                       وأُترك مشدودا عليَّ وِثاقيــــــــا

إذا قمت عنّاني الحديدُ وأُغلقت

                       مصاريع من دوني تُصمّ المناديـا

وقد كنت ذا مال كثير وإخــوة      فقد تركوني واحدا لا أخا ليـا

أريني سلاحي، لا أبا لك، إنني

                       أرى الحرب لا تزداد إلا تماديـا.[11]

وقد عاهد أبو محجن المرأة التي كان مقيدا عندها، وهي زبْراء أمّ ولد سعد بن أبي وقاص، لئن أطلقته ليعودنّ إلى قيده بعد انتهاء القتال. وبالفعل، فقد وفّى أبو محجن بعهده، وعاد إلى ما كان فيه من الأسر، بعد أن أبلى البلاء الحسن في المعركة(نفسه).

وقد دخل عليه سعد بعد أن علم بخبره، وقال له: "لا ضربتك أبدا. قال أبو محجن: وأنا، والله لا أشربها أبدا."[12]

فأين هذا الكلام الذي لخصنا به قصة أبي محجن الثقفي المسلم من ظاهر قول أدونيس: "وسُجن أبو محجن الثقفي، لإعلانه في شعره أنه يعارض تحريم الخمرة، ثم نفاه عمر، ومات في منفاه."؟



2) وهذا ضابئ بن الحارث البُرجُميّ، كان "رجلا بذيّاً كثير الشر"[13].

ويُروى في سبب حبسه أنه استعار كلبا من بني نهشل، فلمّا ألحّوا عليه لإرجاعه منه، غضب عليهم وهجاهم ورمى أمّهم بالكلب، ومن ذلك قوله:

فأمكم لا تتركوها وكلبكـم        فإن عقوق الوالدات كبيــــــرُ[14]

"فاستعدوا عليه عثمان، فقال: ويلك ما سمعت أحدا رمى امرأة من المسلمين بكلب غيرك، وإني لأراك، لو كنت على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنزل الله فيك قرآنا. ولو أحدٌ قبلي قطع لسان شاعر في هجاء لقطعت لسانك. فحبسه في السجن."[15]

فالحبس في هذه الواقعة ليس فيه أي مساس بحرية الشاعر، لأن الأمر وقوعٌ في أعراض الناس، وقذفُ امرأة محصنة بالمنكر والباطل، فضلا عن محاولة القتل[16]. وكل ذلك سلوك إجرامي يستوجب العقاب في قانون المجتمع الإسلامي.



 3) وهذا الأحوص بن محمد بن عبد الله، كان "يُرمى بالأبْنَة[العيب في الكلام] والزنا، وشُكي إلى عمر بن عبد العزيز فنفاه من المدينة إلى قرية من قرى اليمن على ساحل البحر."[17]

وحينما حاول جماعة من الأنصار أن يتشفعوا له ليسمحَ له بالرجوع إلى المدينة، سرد عليهم عمرُ بن العزيز، رضي الله عنه، أبياتا من شعر الأحوص تشهد باستهتاره وتطاوله على المحارم[18]، ثم قال: لا جرَمَ، لا رددْته إلى المدينة ما كان لي سلطان."(نفسه)

فسبب النفي هنا أيضا واضح، ولا شأن له بالشاعر من حيث هو مبدع فنان، وإنما له شأن بالأحوص الإنسان، الذي أتى، في أفعاله، ما لا يسمح به القانون.



4) وهذا سحيم عبد بني الحسحاس، "كان شاعرا محسنا"[19]، "حلوَ الشعر رقيقَ حواشي الكلام"[20]. لم يُقتل حدّا، وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية، وإنما قتله مجهولون. وقد رُوي في سبب قتله أنه كان يُتّهم بامرأة، "فأخذوه[فاعلون مجهولون][21] شاربا ثملا، فعرضوا عليه نسوة، حتى إذا مرّت عليه التي يظنونها به أَهْوَى بها، فقتلوه لما تحقق عندهم."[22]

ومن شعره في وصف لقائه بعشيقته:

وهبّت شمالا آخر الليل قـــــرّةٌ

                         ولا ثوب إلا درعها[23] وردائيـــــــا

فما زال بردي طيّبا من ثيابهــا

                         إلى الحول حتى أنهج البُرد باليا.[24]

والذي نستنتجه من هذه الأمثلة الأربعة أن ما نال هؤلاء الشعراء إنما كان بسبب سلوكات ومخالفات يحرمها القانون في المجتمع الإسلامي: شرب الخمر، الزنا، قذف المحصنات، الوقوع في أعراض الناس وانتهاك محارمهم…

فالمسألة إذاً مسألة نظام وشريعة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، أصولٌ ثابتة في شريعة المجتمع الإسلامي، لحماية هذا المجتمع أن تشيع فيه الفاحشة، فتهتز أركانه ويسري الوهن في أوصاله.

التتمة في الأسبوع القادم، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين







[1] نقد الشعر، لقدامة بن جعفر، ص65،66.

[2] "الثقافة الاتباعية"، عند أدونيس، هي النابعة من عقائد الإسلام وأحكامه وآدابه وتشريعاته، تقابلها "الثقافة الإبداعية"، وهي الخارجة على أصول الإسلام، الجاحدة بشرائعه، الغارقة في العصيان والزندقة والإلحاد.

[3] يقصد المنظور الإسلامي الشرعي. وعبارته تشي بنوع من الإصرار على عدم الاعتراف بشريعة المجتمع الإسلامي وقوانينه، لا لشيء إلا لأنه يرفضها ويعارضها ويعتبرها مناقضة لحقوق الإنسان وحريته في التفكير والإبداع والسلوك على هواه، كما يشاء.

[4]هذا ادعاء غير صحيح، لأن أبا محجن اشتهر بتعاطي الخمرة والولوع بها، فكان عقابه بالسجن جزاء له على فعل تجرّمه الشريعة الإسلامية. أما شعره، فلم يكن إلا مرآة لسلوكه وعاطفته ورغبات نفسه.

[5] هذه الزيادات بين المعقوفتين(القوسين المركّنين) هي من عندي.

[6] الثابت والمتحول،(الأصول)، ص172.

[7] اقرأ أمثلة كثيرة من هؤلاء الذين يعتبرهم أدونيس ضحايا قمع الإديولوجية الإسلامية، والذين لا يُخفي تعاطفه الكبير مع قضيتهم، لأنه يقدمهم، دائما، على أنهم كانوا ضحايا قضية الحداثة والإبداع والحريات في التاريخ العربي الإسلامي- اقرأ أمثلة كثيرة من هؤلاء في "الكتاب(أمس المكان الآن)"، لأدونيس، طبعة دار الساقي، الجزء الأول(1995)، والثاني(1998)، والثالث(2002).

[8] الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص272.

[9] نفسه.

[10] طبقات الشعراء، لابن سلام الجمحي، ص103.

[11] نفسه. والشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص272.

[12] نفسه. والشعر والشعراء، ص272.

[13] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71.

[14] الشعر والشعراء، ص218.

[15] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71.

[16] فقد "عُرض أهلُ السجن يوما، فإذا هو[أي ضابئ بن الحارث] قد أَعدّ حديدة يريد أن يغتال بها عثمان…"(طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71، و"الشعر والشعراء"، ص219.) ومن شعره في هذه الحادثة:
هممت ولم أفعلْ، وكدت وليتني
                       تركتُ على عثمان تبكي حلائله.
(نفسه، ص72. والشعر والشعراء، ص219.

[17] الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص345.

[18] كقوله في محارم الغير:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر
                       بأبياتكم ما دُرت حيث أدورُ
وقوله:
الله بيني وبين قيّمهــــا     يفرُّ منّي بها وأتبـــــعُ
(الشعر والشعراء، ص345). والشبهة في مثل هذا الكلام غير خافية.

[19] الشعر والشعراء، ص258.

[20] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص75.

[21] وفي لفظ رواية ابن قتيبة: "سقوه الخمر" بالإسناد إلى مجهولين.(الشعر والشعراء، ص259)

[22] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص76. والشعر والشعراء، ص259.

[23] في رواية بلفظ: "بردها".


[24] نفسه، ص75.