الأربعاء، 24 أغسطس 2011

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(7)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(7)
هَبَاءٌ وغُثاءٌ وجُفَاء

(1)
لقد حاولتُ في المقالات الستّ السابقة أن أعرض مقابحَ الوجه الآخر لأدونيس، الذي يُراد لنا ألاّ نراه، وألا نعتبره في تقويم أعمال أدونيس والحكمِ عليها.
وليس الوجهُ الأدبيُّ المشهورُ لأدونيس بمنآى عن مقابح الوجه الخفيّ، بل إن تجلّيات مقابحِ هذا الوجه الخفيّ على قسمات وجه أدونيس الشاعر، في شكل تشوهات وشوائب، لا تخفَى على القارئ المسلم العارف الواعي الذكي، بل تحيله، في نظر هذا القارئ، وجها في غاية البشاعة، تُنكره الأذواق المهذبة، وتنفر منه الفطر السليمة.
الوجهُ الآخر لأدونيس أنه ملحدٌ مناضلٌ يقوم "دينُه الحداثي الوثني" على أساس معارضة الدين ونفيه ونقْضه، وفرض الإلحاد حقيقةً "متعالية" ومسلّمةً وجودية، حيث ينتفي الله-جلَّ اللهُ وتعالى وتقدس وتعظّم- ويحل مكانه الإنسان/الإله، الإنسان/النبيّ، الإنسانُ الخالق الصانع المبدع.
أدونيس، في وجهه الآخر، هو صاحبُ مشروع، ورائدُ فكر ومدرسة، وزعيمُ دعوة، وإن لم يكن له، حسب علمي، تنظيمٌ ولا حزبٌ ولا جمعية-بالمفهوم المتعارف عليه- ولا غير أولئك من أشكال التجمع والنضال ووسائل تصريف النظريات والأفكار.
إن الملحدين "الملتزمين"، مثل أدونيس، سيظلون يقاتلون إلى آخر نبض في حياتهم، ما دام هناك في الدنيا إيمان وإسلام.
إن الشيطان لا يتقاعد، وكذلك أولياؤه وجندُه، فهم في حركة ونشاط دائبين، مادامت السماوات والأرض، وما تعاقب الليل والنهار.
نشاط دائب لا يعرف الفتور؛ فها هو أدونيس، ومعه حفنةٌ من حواريّيه الملحدين، ومجموعةٌ من تلامذته التابعين، يصدر مجلة فصلية جديدة بعنوان "الآخر". وقد ظهر العدد الأول منها في يونيو2011 الماضي، ومن المشاركين في هذا العدد الأول (حورية عبد الواحد)، التي حاورت أدونيس في كتاب (نظرة أورفي). وقد أشرت، في إحدى المقالات السابقة، إلى أن هذه المرأة، من خلال أسئلتها ومناقشاتها وتعليقاتها في حوارها مع أدونيس، كانت تبدو تلميذة معجبة بأستاذها الملحد، ليس لها في حضرته إلا أن تكرر أفكاره بصيغ مختلفة. وهذه المرأة أيضا هي من مترجمي بعض أعمال أدونيس.
إنها المدرسة الحداثية الأدونيسة، التي قوامها أنْ لا إبداع ولا تقدم ولا مستقبل مع الدين والإيمان والإسلام.

(2)
لقد أبى أدونيسُ، والربيع العربي في عنفوانه، إلا أن يكون له رأيه المتميز فيما يجري في البلاد العربية الإسلامية من ثورات واحتجاجات واعتراضات على الظلم والاستبداد.
الجماهير التي خرجت من المساجد منتفضةً على أنظمة الجور والطغيان، وثائرةً على حكام الاستبداد والفساد، ليست على شيء، في نظر أدونيس.
ما وقع في تونس ومصر ليس ثورة، في نظر "الشاعر الحداثي الكبير"، المتغرّبِ المتنعّم المطمئن في حضن أمّه فرنسا، والذي ليس له للمسلمين، وهو في برجه العاجي، إلا اللسانُ الحديدُ واللفظ السليط، والنظرُ العدمي العبثي، والمشروعُ الإلحادي الضارب في ظلمات التيه والضياع.  
الثوراتُ القائمة اليوم في بلادنا العربية الإسلامية ليست بشيء، وحتى يرضى عنها الشاعرُ الوثني "الكبير"، ويسلكها في الثورات الحقيقية، كما يراها هو، وكما يحددها هو، وكما يعترف بها هو، وجب عليها أن تكون ثورات لادينية.
هذا هو باختصار رأيُ أدونيس فيما يجري في بلادنا من انتفاضات واحتجاجات وثورات، والذي نقرأه واضحا، مثلا، في لقاء أجرته معه "أخبار الأدب" المصرية، في يوليوز2011، وفي لقاء مع جريدة "الرأي" الكويتية، في الشهر الحالي(غشت2011).
تأمل، أيها القارئ الكريم، هذا الفهمَ العبثيَّ، وهذه الثقافة المتعجرفةَ، وهذا التعاليَ والتعالمَ والوصايةَ على الشعوب.
يا معشر الثائرين المسلمين، لن تكونوا ثوارا، في دينِ أدونيس، حتى تتجردوا من معتقداتكم، وتنسلخوا عن ذواتكم، وتكونوا لادينيين، وإلا فأنتم استبداد سيخلف استبدادا، لا أقل ولا أكثر.
إن الحقيقة التي يستيقنُها قلبُ أدونيس، لكنه يجحدها، هي أن الثورة يمكن أن تتولد في رحم المرجعية الدينية والثقافة الإيمانية.
الدينُ، عند الملحد المناضل المعاند المتكبّر، لا يمكن أن يأتي منه خير. هذه هي المسلمة الأدونيسية، التي انبنت عليها كلُّ أطروحات أدونيس، وكلُّ أفكاره وآرائه، في الفكر والسياسة والأدب. ألم نقرأ له أن كبار الشعراء في الإسلام كانوا ملحدين؟ أليس هو القائل دائما إن الإبداع الحقيقي، لا يبدأ إلا بنقض الأصول الدينية، وتقويض البنى الإيمانية التقليدية؟
أليس هو الذي يجعل سبّ الأنبياء علامة من علامة الحداثة والإبداع؟
يقول في "فاتحة لنهايات القرن"، ص148: ""كلنا يعرف من هو المسيح، ولعلنا نعرف جميعا كيف خاطبه (رامبو): "يسوع، يا لصّا أزليا يسلب البشر نشاطهم(…)حين تصل جرأة الإبداع العربي إلى هذا المستوى، أي حين تزول كل رقابة، يبدأ الأدب العربي سيرته الخالقة، المغيرة، البادئة المعيدة...".
أي حين يتجرأ أدباؤنا على سبّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما سبّ (رامبو) المسيحَ، عليه وعلى نبينا أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم، نكون قد أصبحنا أعضاء كاملي العضوية في نادي الحداثيين الكونيين.
الثوارُ على الأنظمة الجبرية الاستبدادية ليسوا على شيء حتى ينضووا تحت راية اللادينية. لا نجاح يُرجى من ثورات الربيع العربي إلا إذا نبذت الدين، واتخذت لها "اللادين" شعارا وهدفا. وماذا إذا كانت الشعوب مسلمة؟ وإنْ، لأن خلاص هذه الشعوب إنما هو في ترك دينها، واعتناق اللادينية!!

(3)
ينتقد أدونيس كثيرا أصحابَ ما يُسمّيه "الحداثة التلفيقية الأزيائية"، الذين يكتفون من الحداثة الغربية بمظهرها "التقنوي-الآلي"، ويُعرضون عن "المبادئ العقلية" التي ولدت تلك الحداثة.(الشعرية العربية،ص92). "إنها[أي الحداثة التلفيقية الأزيائية]حداثةٌ تتبنى الشيءَ المُحدث، ولا تتبنى العقلَ أو المنهجَ الذي أحدثه. فالحداثة موقف ونظرةٌ قبل أن تكون نتاجا."(نفسه،84).
والمبادئ العقلية الغربية التي يشير إليها أدونيس هي مبادئ قائمة على المذهبية اللادينية، بكل أشكالها الإلحادية واللائكية.
والردّ البسيطُ والقويّ على أدونيس في هذا الشأن هو أنه لا يستطيع أن يثبت أن الإلحادَ هو الذي كان وراء مخترعات العصر المادية، وأن الزندقة والكفرَ بالله واليوم الآخر هي التي تسببت في الثورات العلمية التكنولوجية المتتابعة. بل الثابت المشهور هو أن نبذَ الدين والتماديَ في المعاصي والجحود، كان، وما يزال، هو السبب وراء شقاء الإنسان، وتمزقه، وضياعه، وحيوانيته الدّوابية، في الغرب وفي غير الغرب.
فالحداثة العمرانية الماديةُ لم ينتجها الإلحادُ، وإنما أنتجتها العلومُ التجريبية القائمة على الصبر والمصابرة، والتأمل، والتتبع، والإحصاء، والاستقصاء، والسؤال المفيد، والافتراضات المحفزة، وما إلى ذلك مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وعقائده وفرائضه وواجباته. بل إن الإسلام قد جعل طلبَ العلم من بين فرائضه الواجبة على كل مسلم ومسلمة.
إن الحداثة "العلومية" العمرانية لم تكن قطُّ مقترنةً بالحداثة الفلسفية اللادينية، كما يزعم أدونيس. فقد تجد من بين أساطين الباحثين في العلوم التجريبية والتطبيقات التكنولوجية متديّنين راسخي القدم في العلم الإيماني الغيبي، لا يستشعرون أيَّ تناقض أو تنافر بين عواطفهم الدينية وأبحاثهم العقلية والتجريبية.
إن الفلسفة العقلانية اللادينية الرائجةَ اليوم في ثقافتنا العربية المعاصرة إنما هي فلسفةٌ تمّ نقلُها إلى البلاد العربية الإسلامية وغرسُها ورعايةُ نبتتها في ظل مؤسسات الاستعمار والتعليم الأجنبي. وقد تولّت منابرُ التغريب، بكل أنواعها ومختلف أساليبها، مهمةَ الإشراف على تخريج أفواج من أبناء المسلمين، متشبعين بالثقافة الغربية، متضلعين في فلسفاتها ولغاتها ونظرياتها، ومختلف جوانب حضارتها. ومعلوم أن الحضارة الغربية، في شقها العقدي الفلسفي، قد انتهت، بعد قرون من الصراع والتطور، إلى تبني المذهبية العقلانية اللادينية. وهذه المذهبية اليوم هي المعدن الذي تصدر عنه الثقافة الغربيةُ في مختلف المجالات الإنسانية.
لقد سرت فينا آثارُ هذه المذهبية اللادينية من طريق مثقفين مُغَرَّبين، من أبناء جلدتنا، كانت بضاعتُهم، وما تزال، هي الترجمة عن الغرب/الأصل، الغرب/الحضارة، الغرب/الحداثة.
ولم يكد ينتهي الربعُ الأول من القرن العشرين حتى كانت البواكير الأولى للتعليم التغريبي الاستعماري تملأ دنيا المسلمين بالخصومة والحجاج والجدال والتصارع بين فكرٍ روحُه القرآنُ وعقائد الإسلام، وفكرٍ متصل، في حياته، بالفلسفة الغربية اللادينية. وليس أدونيس وأمثالُه من المثقفين الملحدين المناضلين إلا ثمارٌ مرّةٌ من ثمار طاحون التعليم التغريبي.

(4)
لا نجد، فيما وصلنا من تراثنا العربي الإسلامي، نظريةً في الإلحاد متكاملةً في تصوراتها ومفاهيمها وأطروحاتها، متراصةً في مبادئها ومباحثها ومسائلها، كُتب لها الانتشارُ، وفي العلن، من طريق الأتباع والأنصار، وحُفظت مقالاتُها وكتاباتُها كاملةً من غير نقص أو تشويه، واستمر نفوذُها وآثارها، عبر التاريخ، إلى عصرنا الحديث.
نعم، لقد عرف تاريخُنا العربي الإسلامي حركاتٍ فلسفيةً إلحادية، وتيارات زندقية، كالباطنيّة، والخُرّمية، والقرمطيّة، والنُّصيرية، والعُبيديّة، كما عرف ملاحدةً صنفوا التصانيف، ونشروا المقالات، واكتسبوا الأنصارَ، وتزعّموا الدعوات، وأشعلوا الفتن، وخاضوا الحروبَ، لكنها حركاتٌ وتيارات لم تُعمّر طويلا، وكانت آثارُها في المجتمع الإسلامي محدودة، بل منها ما مات في المهد، ومنها ما اختار ركوبَ مراكب النفاق والاحتيال والعيش في ظلام السريّة والتقية.
ولقد كان من أسباب انحسارِ هذه الحركات والتيارات واندحارها في تاريخنا العربي الإسلامي أن العقائدَ الإسلامية كانت، في مصادرها وأصولها، من القوة ووضوح الحجّة وسطوع البرهان، بحيث لم تستطع المقولاتُ الإلحاديةُ والفلسفات التشكيكية أن تنال منها في قلوب المسلمين، أو في مجادلات المتكلمين الأوائل، الذين اجتهدوا كثيرا في الرد على شبهات مختلف طوائف الزنادقة والمتفلسفة من أهل الضلال والأهواء. وكذلك أبلى علماءُ الأمة البلاء الحسنَ والكبير، بالتربية الإيمانية والحِجاج العلمي والوعظ التعليمي، في نقض عقائد الملحدين، وتفنيد شبهاتهم، وفضح دجَلِهم.
 وبهذه المقاومة القوية الصامدة الراسخة لم تستطع هذه الفلسفاتُ أن تذهب بعيدا في الأوساط العلمية، باستثناء أفرادٍ قلائل. أما في أوساط العامة، فلم يكن وصولُ هذه الفلسفات إليها بالمتيسِّر، نظرا لصعوبة انتشار الكتابِ بوسائل الاستنساخ المتاحة في ذلك الزمان، وكذلك بسبب التحفظ واليقظة والتحري، الذي كان يطبع سلوكاتِ المجتمع الإسلامي إزاء العقائد الوافدة والفلسفات الأجنبية الطارئة. هذا إلى جانب مقامع السلطان التي كانت تقعد لهؤلاء الزنادقة المارقين كلَّ مرصد، فلا تكاد عيونُها تُفلتُهم.
أما تصانيفُ هؤلاء الفلاسفة الملحدين، فقد ضاع أغلبُها، وما وصلنا منها فهو عبارةٌ عن نتف ومقالات متفرقة، وحكاياتٍ منثورة هنا وهناك في مصادر متعددة، وخاصة في المصادر التي تصدّت للردّ على هؤلاء الملحدين، حيث يتطلب الردُّ حكايةَ مقالاتِهم وسردَ شبهاتهم.
والمهمُ من هذا الكلام أن تاريخنا العربي الإسلاميَّ لم يعرف نضجَ فلسفات إلحادية، في شكل نظرياتٍ عاشت وتداولَها الناس، واستمرت إلى يومنا هذا. وإنما الذي بلغَنا عن تلك الفلسفات، كما ذكرت، شذراتٌ وإشاراتٌ ومقتطفاتٌ، لا ترقى أن تُكوِّن لدى القارئ فكرةً واضحةً عن معالم نظرية إلحادية متكاملة. يُضاف إلى هذا أن هذه البقايا/الأطلال، التي حفظتْها لنا المصادرُ، لا يكاد يطّلعُ عليها ويدرسُها إلا أهلُ الاختصاص، أو من همْ في مرتبتهم من الباحثين المؤهَّلين للفهم والاستيعاب.
ولعل أدونيس من أشهر الكتاب المعاصرين، الذين أحيَوْا فكرَ الزنادقة والملحدين من مدافِن التاريخ العربي الإسلامي، وأشادوا به ورفَعوه إلى درجة الفكر الثوري التحرري الإبداعي الحداثي، وجعلوه في مرتبةٍ تُقابل التراثَ الدينيَّ بأصوله وعقائده وشرائعه، التراثَ "التقليديَّ" "الاتباعيَّ" "الأصوليَّ"، كما يعبر أدونيس.
فما من ملحد زنديق، في التاريخ العربي الإسلامي، أو فاسقٍ ساقطٍ، أو شاعرٍ ماجن متهتك، أو ثائرٍ ظالم خارج على شريعة المجتمع ــ في جملة، ما من إنسان متلبسٍ بشبهة تَمُتّ بشيء إلى معارضة الإسلام، أو مناقضته، أو الخروج على أحكامه، أو غير ذلك من شبهات الزندقة والإلحاد، والمعاصي والآثام، إلا وتجد أدونيس متعاطفا معه، بل مدافعا عنه، ومنتصرا لاختياره وسلوكه.
نقرأ هذا في كل ما كتبه أدونيس-أقول "كل" من غير استثناء- وخاصة في تجاربه الحداثية، وأسمي منها، على سبيل المثال، تجربته التي اختار لها عنوان "الكتاب" بجزأيه، حيث خصّص هوامش وتعليقاتٍ كثيرةً لذكر هؤلاء المعارضين الثائرين العاصين، والإشادة بهم بأسلوب وعبارات تنم عن التعاطف والتضامن والتأييد. ولهذا نجد أدونيس يصنف هذه التيارات الإلحاديةَ التاريخيةَ في خانة الثقافة الإبداعية في تراثنا، تقابلها الثقافةُ الاتباعية، ويردّ على من يتهمه بأنه يرفض التراث جملة وتفصيلا، بأن قراءة عنوان كتابه، الذي هو مثار هذه التهمة، كافٍ لدحض ما يُرمى به؛ قال: "فهذا العنوان هو: (الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. أي أنني أبحث في الإبداع عند العرب، وأتبناه، وأدافع عنه. فكيف يُقال، بعد ذلك، إنني أرفض التراث."(فاتحة لنهايات القرن، ص274)

(5)
وبعد، فإن الذي نعرفه، نحن المسلمين على الأقل، أن الإلحادَ لم يكن، في يوم من الأيام، قيمةً إيجابية مطلوبة في سعي الأفراد والأمم والمجتمعات. وما عرفنا أن الإلحادَ، بذاته وصفاته ومتعلَّقَاته، كان وراء اكتشافات علمية، أو اختراعات تقنية، ارتقت بالإنسان وحضارته فوق الأرض، وحسّنت ظروفَ معيشته، وخفّفت من آلامه، وساهمت في زيادة سعادته وتقليل شقاوته.
إنما المعروفُ الذي يحفظه التاريخُ أن ما ينعم فيه الإنسانُ اليوم من تطورات تكنولوجية هائلة، كان ميلادُ نبتته الأولى في أحضان التديّن. واقرأ في سِيَر العلماء العظام  والعباقرة الأفذاذ، الذين تركوا بصماتهم ناصعة في مجالات البحث العلمي والاختراع التقني، تجدْ أن البيئة الدينية كانت هي حاضنتهم الأولى، التي في جوّها تفتّقت مواهبُهم وأثمرت جهودهم.
وهل يستطيع عاقلٌ اليوم أن ينكر-إلا أن يكون من طينة أدونيس- أن الإلحاد اليوم يوجد في مقدمة أسباب تعاسة الإنسان وضياعه وانحداره في دركات البهيمية وحضيض اللاإنسانية؟
ثم ما علمنا أن الكفرَ رفعَ من قدر أحد من الناس، وإنما الذي نعرفه، نحن المسلمين-وأكرر وأؤكد "نحن المسلمين"، حتى نبقى في دائرة الدين الإسلامي، والمجتمع الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والتراث الإسلامي-
الذي نعرفه، نحن المسلمين، أن المسلم الذي يتنكر لدين آبائه وأجداده، ويتخطى هذا ليعلنَ إلحادَه الصريح، ويفتخرَ به، إنما يكتسب إثما وسُبَّةً تتبعه في الدنيا، وفي الآخرة، التي يجحد بها الملحدون.
الذي نعرفه من ديننا وثقافتنا الإسلامية أن تنكرَ المرء لإسلامه لا يكسبه تشريفا ولا تقديرا ولا تعظيما، وإنما هو فعلٌ لا يجني منه فاعلُه إلا الحقارةَ والذكر السيء. أما أن يمدحَه مَنْ هو على شاكلته، ويرفعَه من هان عنده دينُه، ويُشيد به من لا دين له، ويزكّيَه ويناصرَه من ديدَنُه محاربةُ الدين، أيِّ دينٍ بصفة عامة، والإسلامِ بصفة خاصة، فذلك لا يُغير من الحقيقة شيئا، وهي أن الإلحادَ في ميزان الإسلام، وفي الثقافة الإسلامية، وفي المجتمع الإسلامي، وفي الأعراف الإسلامية، ليس له إلا المكانةُ الحقيرة، والهامش المُهمَل. ولهذا تجد الملحدين المناضلين في مجتمعاتِنا الإسلامية لا يجرؤون على الكشف عن حقيقة معتقداتهم، بل تراهم يجتهدون في الخلْط والتلبيس والمغالطة والجدل والتأويل لتغطية وجوههم الحقيقية، مخافةَ أن يُعرفُوا على حقيقتهم فيُنبذُوا ويُهجَرُوا ويُدفَعُوا إلى الحقارة والنسيان.
اُنْظرْ إلى أساليبهم وطرقِ اشتغالهم؛ فهم يسعون ليفرضوا، في مجتمع المسلمين، حقَّ الملحدِ في إعلان إلحادِه والدعوةِ إليه وجمعِ الناس وتنظيمِهم حوله، لكنهم يفعلون تحت لافتات مستعارة، وشعارات تمويهية، وواجهات كاذبة خادعة، كلافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وشعارات المواطنة والدولة المدنية والدفاع عن المرأة والأقليات، وواجهات الفنون والثقافات الشعبية. ولهم أساليب متعددة غير هذه، لبث عقائد الإلحاد، والتشكيك والطعن في أصول الإسلام، والتجريح في أعلامه ورموزه، وركوب التلفيق والباطل والتزوير في الحكم على تاريخه وتراثه.
يعرفُ الملحدون الجاحدون أنهم مرفوضون ومكروهون ومطرودون إن هم أظهروا للناس وجههم الحقيقي.
وأدونيس نفسُه، لم يكشف عن وجهه الحقيقي، بلا روغان ولا تقية ولا تمويه، إلا بعد أن استقر في حضن أمّه فرنسا، وسكَن في مدينة "الأنوار" باريس، وأصبح مسكونا بأن يظهر للأوربيين بالوجه الذي يرضونه ويقبلونه ويطمئنون إليه. ولم يتحقق له هذا إلا باتخاذ الإسلام وعقائده وشرائعه وأخلاقِه وتاريخه وتراثه هدفا لسهام طعونه وانتقاداته وأباطيله وافتراءاته وتزويراته وأفكاره العابثة الهادمة التائهة.
وقد أصبح حريصا، في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أن أصبح مرشحا لـ(جائزة نوبل)، على أن يظهر بمظهر المثقف الملحد، الذي ليس عنده للإسلام والمسلمين إلا مقالاتُ النقد والتجريح والتشكيك والاستهزاء، وفي الوقت نفسه هو المثقف العربي اللاديني المتسامح، إلى أقصى الحدود، مع سائر الملل والنحل، ومنها الصهيونية، في مختلف ألوانها وأشكالها، الإسرائيلية والعالمية.
إنه لمْ يُحفظ عنه أنه قال أو كتَب، ولو كلمة واحدة، في التهجم على اليهودية أو النصرانية، بل إنه حينما يتحدث عن دين اليهود والنصارى، فإنه يكون في غاية التأدب والاحترام، يختار مفرداته بعناية خاصة، حتى لا يُحسب عليه أنه قال ما يسخط اليهود والنصارى.
وقد عمل الإعلامُ المتخصص في صناعة الوجوه والرموز على إبراز الجانب الأدبي الشعري الحداثي من وجه أدونيس، والسكوت شبه الكلي عن أدونيس الملحد، الذي يدعو المسلمين لمعانقة التحرر والحداثة والتقدم والمستقبل بترك دينهم، والارتماء في أحضان اللادينية، التي تعد بكل خير، وتعصم من كل شر.
هكذا يفكرون، وبهذه الأساليب يمكرون ويتسللون وينفثون السموم. (بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط) (والله متم نوره ولو كره الكافرون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 24 غشت 2011

الخميس، 18 أغسطس 2011

الوجهُ الآخر لأدونيس(6)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخر لأدونيس(6)
أدونيس أبو (نينار)

(1)
(نينار إسبر) هي ابنة أدونيس الثانية، وُلدت ببيروت سنة 1971، و(إسبر) هو الاسم العائلي. ولنينار أخت أكبر منها اسمها (أرواد). وأمّ (نينار) و(أرواد) هي الكاتبة الناقدة السورية (خالدة سعيد)، التي تعرفت على أدونيس في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه النصراني اللبناني أنطون سعادة سنة 1932، وتزوجا سنة 1956.
اسم (خالدة سعيد) اليوم خاملٌ تغطّيه شهرةُ زوجها أدونيس، فهو لا يكاد يظهر إلا في المناسبات الأكاديمية، أو في بعض اللقاءات الإعلامية. وقد اشتهرت المرأة، أول أمرها، بمقالاتها النقدية في مجلة "شعر"، التي أسسها يوسف الخال بتعاون مع أدونيس. وقد كانت في البداية تكتب باسم (خزامى صبري) المستعار.
يقول أدونيس متحدثا إلى ابنته (نينار): "هل تعلمين أني لم أكن أرغب في الأولاد. لقد جئتما[أي (نينار) وأختها (أرواد)] من طريق الخطأ".(محادثات مع أدونيس أبي،86)
فتجيبه نينار: "أعلم هذا". ويطول الحديث بين الأب وابنته عن الوجود والخلق والإنسان والأولاد والنسل والحفاظ عن الجنس البشري، فلا تقرأ إلا الجفاف في الأفكار والعواطف، ولا ترى إلا الكلوح والخواء في الأفهام والعبارات، ولا تستشعر إلا التفاهة والضياع في الأحلام والأمنيات.
الأب يعترف لبنته بأنها قد جاءت إلى الدنيا خطأ، وهي تسايره في جفافه العاطفي، بل نجدها، في بعض كلامها، تنقم على وجود الجنس البشري كلّه!
ولنقرأ، مثلا، المقتطفَ التالي من حديثهما، (نينار هي المتحدث الأول):
-        عمْري اليوم ثلاثٌ وثلاثون سنة، وليس لي أولاد. أنا لا أرغب في الإنجاب، لأني لا أريد أن ألد مخلوقا سينتهي إلى الموت. عندي قطتان أحبهما، ولا أريد أن أرى ملامحي فيهما، وفي بعض الأحيان يخيل إلي أن هناك شبها قد بدأ يظهر بيني وبين القطتين...
أنا فضولية كثيرا فيما يخصّ موضوع العلاقة بالأولاد. لو افترضنا أنني أصبحت في يوم من الأيام أّمّا لطفل، فإنني قد أكون غير مرتاحة أن أرى فيه ملامحي...
وبعد مرور بعض الوقت، تسأل نينار أباها:
-        هل تؤمن بأهمّية أخْذِ الأبناء عن الآباء؟
-        لا.
-        إنه ليس مهما؟
-        نظريا، أحبذ أن يكون أبنائي مخالفين لي، وأن يكونوا متميزين فيما يفعلون. ولا يهمني مطلقا أن يكونوا مثلي...
-        ألا تورّثهم بعضَ القيم؟
-        لا، أنا لا أفرض عليهم شيئا. الشيء الذي يهمني هو أن يكونوا متفوقين في عملهم، وفي مستواهم المهني، مهما يكن العمل الذي يزاولونه...
-        هل لتوريث شيء للأولاد علاقةٌ بالخلود؟ فإن أنت بقِيتَ حيّا من خلالي، مثلا، بأن ظَلِلْتُ أبلِّغُ ما لقّنْتَنِيه، فأنت لن تكون موجودا للاستفادة من هذا...فأنا لا أرى فائدة في إنجاب الأطفال لمجرد أن جزءا منا سيجعلنا نبقى أحياء. أنا لا أهتم بهذا، لأني لن أكون حية لمعرفة ماذا سيقع بعد موتي...أما من جهة الأولاد، فإن لهم دورا آخر غير أن يكونوا فقط خلَفاً لسَلَف...إني أجد الأمر مضللا ومؤسفا. نعم، ورغم كل هذا، فمعظمُ الناس لهم أولاد، وإن لم يكن لهم، أحيانا، رغبةٌ فيهم، أو من غير أن يفكروا؛ إنه نوعٌ من التقاليد...
-        الأهمّ هو إيصال أفكار إلى الأبناء بدل التشابه الخِلْقي الشكلي.
-        أنا متفقة معك على طول الخط، إلا أن هناك كثيرا من الناس ليس لهم من هدف وراء الإنجاب إلا الإنجاب!
-        نعم، لأنه ليس لهم أمرٌ آخر يشتغلون به على الإطلاق. إنهم يعتقدون أنهم سيخلدون بفضل خصائصهم الجسمانية. في قريتي، كان الناس يقولون عن الطفل الذي يكون هو وأبوه، في الشبه، مثل قطرتين من الماء: "إنه بُصَاقُ أبيه".
-        نعم، إنهم يعتقدون أنهم سيدومون بواسطة عَقِبِهم!
-        بعض الناس لهم نقط ضعف...
-        فلماذا الإنجابُ إذن؟
-        أساسا لإعادة إنتاج النوع البشري. لأن الناس كلهم لو فكروا كما تفكرين، لانقرض النوع البشري في الأجيال المقبلة.
-        نحن اليوم ستة ملايير ونصف مليار إنسان فوق الأرض!
-        إن فكرتْ هذه الملاييرُ الستةُ مثلما تفكرين، فلن يكون هناك، بعد سنوات، طفلٌ فوق الأرض.
-        هذا يعني أن الإنسان ينجب لأسباب اقتصادية؟
-        من أجل البقاء، من أجل الاستمرارية...
-        الاستمرارية؟ لأية غاية؟ الأرض نفسُها ستموت في يوم من الأيام، وكذلك الشمس!
-        هذا موضوع آخر لا علاقة له بحفظ النوع البشري.
-        نعم، ولكن لماذا هذا الإصرار على حفظ النوع البشري؟
-        هل تريدين إنهاء الجنس البشري؟
-        نعم(ضحِكٌ)
-        إذن، قولي هذا بصراحة(ضحِك)
-        بجدّ، أنا أريد أن أعرف لماذا؟
-        لأن المخلوق البشري هو أجمل الأنواع الحية؟
-        أجل...
-        ليس هناك أجمل منه، لذا وجبت حمايته...(انتهى المقتطف،ص82-86)
فماذا في هذا الكلام غيرُ القَحْط الروحي والضحالةِ الفكرية؟

(2)
يلاحظ المتتبّعون لسيرة (نينار) أن هذه المرأة تشتغل في  مجالات فنية متنوعة، لكنها ليس فنانة بارعة في أي مجال؛ فهي موجودة في المسرح، في الرقص، في الاستعراض، في الرسم، في التصوير، في السينما، في الكتابة، لكنها فاشلة، بالمعنى الفني المهني، ومِنْ ثَمّ، فهي اسم مجهول، فنيا ومهنيا، لولا اسمُ أبيها، ولولا شهرةُ أبيها، ولولا محيطُ أبيها ونفوذه.
ظهر اسمُ (نينار) إلى الجمهور الواسع بصدور كتابِها "محادثات مع أدونيس أبي"، الذي ظهر في طبعته الفرنسية الأولى في مارس2006.
لقد خرجت البنتُ إلى دنيا الناس والإعلام والشهرة متدثّرةً باسم أبيها، وإلا، فماذا عندها من علم أو فن أو إبداع حتى تُسلَّط عليها الأضواءُ، وحتى تستدعيها مؤسساتٌ ووزاراتٌ وجمعيات في بعض الدول، وحتى يتم الاحتفاءُ بها والرفعُ من قدرها واستقبالها بالتبجيل والمدح والتعظيم؟
ليس عند المسكينة شيء، إلا أنها بنتُ أبيها، التي عرفَت، في دنيا الأضواء والإشهار والموضة والألوان، وهي التي تعرف شيئا عن فن التمثيل والاستعراض، كيف تستغل اسم أبيها لترتقي إلى مكانة هي أبعد وأضعف من أن تنالها لو رجع الأمر إلى نفسها وعملها بمعزل عن أبيها.
وقد كان المغرب من الدول التي استدعت (نينار) لعرض كتابها، ضمن أنشطة الدورة الرابعة عشرة لمعرض الكتاب بالدار البيضاء، في فبراير 2008.
وكتابُها هذا "محادثات مع أدونيس أبي"، كما أشرت سابقا، هو عبارة عن أحاديث دارت بينها وبين أبيها في جلسات متفرقة، جمعتها وطبعتها في كتاب. وهذا يعني أن (نينار)، في الحقيقة، لا علاقة لها بالفكر والكتابة والأدب، وأن هذا الكتاب الذي قدمته في معرض الدار البيضاء، في رأيي، لم يكن ليكتسب قيمةً لولا كونُ صاحبته هي ابنة أدونيس أولا، ولولا الجراءةُ على مقدسات الإسلام والمسلمين التي طبعت فقراته من أوله إلى آخره ثانيا، ولولا ثالثا، وفي رأيي دائما، لوبيات أصحاب الإعلام ودور النشر والتوزيع ومن ورائهم يدٌ تسعى، وستظل تسعى، من أجل أن يتردى المسلمون في حضيض الزيغ والضياع واللاهُوِيّة.
وقد نَظّم بيتُ الشعر، تحت رعاية وزارة الثقافة، لقاءً لمناقشة كتاب (نينار)، حضره مجموعةٌ من الشعراء والنقاد والفنانين. وقد تقدم، في هذا اللقاء، الكاتب الناقدُ عبد الرحمن طنكول بعرْض نوّه فيه بالكتاب وصاحبته، وأشاد بالجرأة التي تَميز بها في طرح كثير من القضايا المتعلقة بالدين والجنس والأسرة والسياسة، من غير أن يقول كلمةَ نقد واحدة ترفض وتحتج وتدين انتهاك مقدسات المسلمين، وتكذيب كلام الله، والاستهزاء بشرائع الإسلام وآدابه.
الكتابُ طافح بالمزاعم والافتراءات والأباطيل في حق دين المسلمين، والرجل الناقد المسلم، وكأنه لا يرى ولا يشعر ولا يغار ولا يغضب لدينه، يمدح الكتاب، بل يراه كتابا يمثل نوعا أدبيا جديدا، وهو "الحوارات"، لم يجد من النقاد ما يستحقه من الاهتمام.
عن أي "نوع أدبي" يتحدث السيد طنكول؟
الكتاب عبارة عن أحاديث غارقة في الكلام العادي، مصوغة بلغة شبه عامية، فلا أدب، ولا جمال، ولا خيال، ولا أي شيء.
والغريب أن الناقد طنكول ذكر في عرضه أن أدونيس، في أحاديثه مع ابنته، لم يكن معنيا بتقديم أجوبة نهائية على الأسئلة التي كانت تطرحها عليها (نينار)، لأنه، بصفته مبدعا، يُحول الأسئلة إلى أسئلة أخرى أكبر. وكأن الأستاذ طنكول لم يقرأ الكتاب، ولم يقرأ أجوبة أدونيس الواضحة الكاملة على كثير من الأشياء، وفي أكثر من موضوع، وخاصة في الموضوعات التي لها علاقة بالإسلام والمسلمين.
ألم يكن أدونيس واضحا حين كذّب القرآنَ، وحين زعم أن وصفَ القرآن لفترة ما قبل الإسلام بالجاهلية إنما هو من عمل المؤرخين المسلمين(ص171)؟
ألم يُنكر ما رواه القرآن الكريمُ عن عادة وأد البنات في الجاهلية(ص171)؟
ألم يجب على سؤال واضح لابنته بأنه ملحد لا يؤمن بدين(ص107)؟
ألم يصرح في حديثه أن كبارَ الشعراء في الإسلام كانوا ملحدين(ص146)؟
ألم يكن صاحبَ رأي واضح حينما زعمَ أن فكرة الله هي من اختراع الإنسان(ص163)؟
هذا مثال من أمثلة كثيرة. أليس أدونيس في هذا الكلام صاحبَ رأي وموقف واضح من الإسلام ومقدساته؟
ألم يكن أدونيس، في محادثاته مع بنته، متكلما مجيبا عن كثير من الأسئلة بما يوضح رأيه، ويكشف عن سربه، ويفضح حقيقةَ معتقداته؟
ثم يأتي الناقد المغربي، المنبهر الضعيف أمام بنت الحداثي الكبير، ليحدثنا عن أدونيس المبدع الذي لا يجيب عن الأسئلة، وإنما هو يولّد من الأسئلة أسئلةً أكبر منها، وذلك لإيهامنا بأننا أمام بشر لا كسائر البشر، وأننا بحضرة الإبداع المطلق، الذي يجب أن يعامل بطقوس خاصة؟
لقد كان الكتابُ بمضامينه الواضحة في واد، وعرضُ الناقد عبد الرحمن طنكول في واد آخر، وكأن اللقاء كان للمدح والتنويه والاحتفاء بالمرأة الضيفِ(ويقال أيضا ضيفَة) الكبير، لأنها ابنة أدونيس، ولا شيء غير ذلك. 
ثم تكلم، في هذا اللقاء، الذي خصص لبنت أدونيس وكتابها، الشاعرُ حسن نجمي، وهو يومئذ رئيسُ بيت الشعر، وسار على منوال الأستاذ طنكول، مادحا ومنوها بالكتاب وصاحبته،  وذاكرا أن من محاسن الكتاب ومزاياه أنه أسقط الطابوهات وخلخل المفاهيم الخاطئة.
ولا أحد من المتكلمين في هذا اللقاء النقدي تجرأ على نقد الكتاب نقدا حقيقيا مركزا على ما جاء فيه، بالعبارة الصريحة، من افتراءات وأحكام ظالمة، وأفكار وآراء مطبوعة بكثير من العبث واللاموضوعية.
لقد عرضت (نينار) كتابها في الدار البيضاء، كما عرضته في أماكن أخرى، وسألها السائلون، وناقشها المناقشون، وقام لها المعجبون وصفقوا، لكن كلَّ ذلك كان بناء على شيء يعتبر عندهم من المسلّمات، وهي أن من حق أيٍّ كان أن يقول  ما يريد، وبالطريقة التي يريد من غير قيد ولا شرط ولا حدود، ومن حقه- وهذا هو الأساس الذي لا حداثة عندهم بدونه- أن يتناول الدينَ والمتدينين- والإسلامُ دائما هو المقصود طبعا- بكل الأساليب الطاعنة الجارحة المشككة المستهزئة، وإلا فهو الإرهابُ وقمع الحريات ومنعُ الحقوق إلى غير ذلك مما نحفظه في صراخات الحداثيين المتطرفين من طينة أدونيس ومن ذهب مذهبه في الزندقة والإلحاد.
وقد كنت كتبت، في فبراير من سنة 2008، مقالا بمناسبة مجيئها إلى معرض الكتاب المذكور، عرضت فيه رأيي في الكتاب وصاحبته وأبيها. وسأورد هنا مقتطفات من هذا المقال أراها مناسبة لسياق الحديث وموضوعه.

(3)
لقد قرأتُ كتابَ (نينار) بمنظار يختلف جذريا عن منظار التلامذة الخاضعين المنبهرين المدّاحين. قرأته بمنظار يُسلط الضوء على المادة الأساس التي تشكل العمود الفقري لأحاديث الكتاب، والتي لا يُعيرها قراءُ الكتاب ونقادهُ والمتحدثون عنه، حسب ما علمت وقرأت، أدنى اهتمام. ولا أشك أن الإديولوجية اللائكية(اللادينية) لها دور كبير في مثل هذه القراءات النقدية التي تسكت عن جوهر محادثات الكتاب، وتشتغل بالهوامش من أجل تسجيل مزيد من المدح والإعجاب بالشاعر "الحداثي الكبير" وابنته التي ليست كسائر بنات حواء.
مضمون الكتاب كله، بأسئلة البنت وأجوبة الأب، يصب في اتجاه واحد وهو التشكيك في الدين، والطعنُ في  أصوله الإيمانية وشرائعه وآدابه وأخلاقه، ومحاكمةُ الإسلام والإسلاميين محاكمة كلها ظلمٌ في ظلم، وتلفيق في تلفيق، وباطل في باطل.
والكتابُ أيضا هو انتصار للمذهبية الحداثية المتطرفة بوجهيها الإلحادي والعبثي، وانبهارٌ واحتفاء لا حدّ له بالفكر اللاشيئي الذي يجسد في صورة ناصعة مأساويةَ التّغَرّب والضياع والمسخ الميئوس منه.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الكتاب، على طوله، يبيّن الدرك الذي تردّت فيه العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة العربية المسلمة على يد حداثيين لادينيين لا يؤمنون بأصول، ولا بشرائع، ولا بأخلاق، ولا بآداب، ولا بأعراف؛ بل الأصل عندهم في الأشياء هو اللاأصل، واللامعنى، واللاقصد، واللاهدف؛ عبث في عبث هي الحياة في هذه الرؤية، بل هي مأساةٌ أعمقُ وأثقل من مأساة الدهريين الذين يحدثنا القرآن الكريم عنهم وعن مصيرهم. ظلام في ظلام، والعياذ بالله.
لا بد أن أتكلم ههنا بهذه اللغة القوية والعبارة المتفجرة والإحساس الجيّاش، لأن واقعَ هذا المسخ الثقافي والعبث الفكري لا يحتمل لغة المجاملة، ولا عبارات "السادة" المثقفين في الصالونات المغلقة؛ إذن، فلتُسمّ الأشياءُ بأسمائها، وليعذرني القارئ الكريم.
من صفات هذا التردّي في علاقة الأب بأولاده، كما في هذا الكتاب، أن تسأل البنتُ أباها عن رأيه في جسدها، في خصوصيته الأنثوية، وفي جانبه الشهواني، بل وفي أكثر من ذلك مما لا يليق، في أخلاقنا وآدابنا وأعرافنا، إلا بأبناء "الزنقة" الذين لا ضابط لهم ولا وازع ولا ذوق. بل تصل الوقاحة والإسفاف والسفالة والعهارة مداها حينما تسأل البنت أباها إن كان يقع له في بعض الأحيان أن يشتهي جسدَها، أو أن يتصور المرأةَ التي يحلم بمضاجعتها على صورتها؟ وتسأله، أيضا، إن كان يأخذه إحساس ما بالغيرة حينما يتخيلها في أحضان رجل آخر، وهو أبوها الذي "خلق" جسدها، والذي طالما لمس هذا الجسد وداعبه؟ (ص58-59 وص96-104).
وعلى هذا النمط من الجرأة في حديث البنت مع أبيها لا تجد (نينار) حرجا أن تصرح بتعدد علاقاتها الجنسية مع الرجال، وبأنها لا ترى ضيرا على المرأة أن تتنقل من عشيق إلى عشيق، لأن المهم عندها هو أن تحسن هذه المرأةُ اختيار "أصحابها"(ص58). أما أبوها أدونيس، فليس يرى مشكلةً في تعدد مُضاجِعي ابنته، والمهم عنده أن تعتنيَ بنتُه بجسدها وألا تحتقره، وأن تعمل لتبدو دائما جميلة، وألا تسلّم جسدها لأي كان، ولكن تسلمه للرجل الذي يستحقه(ص99-100).
وفي سياق حديثها عن الطابوهات المتعلقة بموضوع "الجسد" و"الجنس" أو "الحب"، تذكر أنها كانت تعتقد أن هذه المحرمات مقصورة على بلاد المسلمين، لكنها في يوم من الأيام، وفي نيويورك الأمريكية، فوجئت بأن ذلك ليس صحيحا؛ فقد كانت هي وعشيق لها يسيران في أحد شوارع منهاتن، ومن حين لآخر كانا يتعانقان ويتبادلان القبل، فإذا ببعض الناس في سياراتهم يقفون وينهرونهما ويطلبون إليهما أن يستترا وأن يذهبا لأماكن مخصصة لما يفعلون، وكأنهم يقصدون دور البغاء(58-59). ولم يعجب البنتَ طبعا أن تجد في أمريكا من ينهرها وينكر عليها المجاهرةَ بما تسميه هي مشاعر "الحب"!!
كيف تعيش هذه المخلوقة (نينار)؟ كيف تنظر إلى الحياة؟ إلى الموت؟ إلى فكرة الأمومة والإنجاب؟ إلى الإيمان والكفر والإلحاد؟ إلى الدين؟ إلى الحجاب؟ إلى غير ذلك من الموضوعات الكثيرة التي أثارتها في أحاديثها مع أبيها؟
تقرأ أسئلةَ البنت وأجوبة الأب وما كان يدور بينهما من نقاش، ولا تجد إلا تكريسا لما أشرت إليه، قبل قليل، من تهجم سافر على الإسلام والمسلمين، وإصدار أحكام مبيتة ملؤها الجهل والحقد والتعالم والتردي في حداثية متطرفة غارقة في ظلام لا صباح له.
وأزيدك شيئا؛ فمن حين لآخر، والحديثُ جار بين الأب وبنته، كان الأب أدونيس يرفع كأسَ الخمر ويقرعه بكأس ابنته قائلا: في صحتك(ص91). هكذا يكون رضا الوالدين، وإلا فلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويظهر ضياعُ البنت ومأساة وجودها أكثر حينما تصرح لأبيها بأنها لا تريد أن تصبح أمّا- وهل هي متزوجة أصلا؟ فواضح من سياق كلامها أنها تتحدث عن الإنجاب خارج مؤسسة الأسرة الطبيعية. لا تريد البنتُ (نينار) أن تصبح أما، لأنها، حسب تعليلها الحداثي البائس، لا تريد أن تنجب مخلوقا سينتهي إلى الموت(ص82). وبدل أن تكون أمّا عَزَبَة لمخلوقات آدمية، اختارت أن تكون أمّا لقطتين توليهما من عطفها وحبها الشيء الكثير(ص82).
ولا أدل على ضلال هذه البنت وخبالها من أن تتمنى أن تُحرق جثتها بعد موتها، وأن يذرّ رمادها في البحر المتوسط، لأن هذا الفعل، حسب عبارتها، له دلالة رمزية(ص125)!!
ألا تستحق هذه البنتُ منا الشفقة والرثاء؟
هل تركت هذه البنتُ شيئا لتستحق أن تكون النموذج المثالي للجالية العربية المسلمة المغَرّبة التائهة الضائعة في دخان الحضارة الغربية الحداثية اللادينية؟

(4)
لا يُخفي الوالدُ أدونيس موافقته لابنته في كثير من جهالاتها وزندقاتها وهرطقاتها؛ فلا خلاف بينهما على الإطلاق في التنكر للدين، وكذلك في المجاهرة، في كل مناسبة، بالكراهية والعداء للإسلام وشرائعه وآدابه وتقاليد أهله. أليسا معا حداثيين؟ أليسا ينتميان إلى صنف من البشر، ويحتلان مكانة فوق البشر، ويفهمان أكثر من البشر؟ باختصار، أليس هو أدونيس، وهي ابنته نينار؟
وأكتفي، فيما يلي، بإطلالة سريعة ومقتضبة على بعض المقولات الأدونيسية الإلحادية والعبثية الواردة في أثناء أحاديثه مع ابنته.
يُعجِبُ الأبَ العجوزَ كثيرا أن يتحدث في كل مناسبة عن لقبه (أدونيس)- وهو اسم لأحد الآلهة في الأساطير الوثنية القديمة- ويشيد بما أكسبه إياه هذا اللقب من المعنى الإنساني الكوني ، فضلا عن الشهرة. فهذا اللقب، يؤكد أدونيس مفتخرا، هو الذي أخرجه من ضيق الطائفية الإسلامية التي كان يسجنه فيها اسمُه (علي) إلى  سعة الهوية العالمية التي لا حدود لها. وحينما تلاحظ ابنتُه بأن اسم (علي) له دلالة إسلامية بخلاف لقب (أدونيس) الراسخ في الوثنية، فإنه يردّ بسرعة بأنه مع المعنى الوثني(ص46). وهذا ردّ طبيعي، وخاصة إذا علمنا أن أدونيس قد صرح في مناسبات عديدة بأنه وثني في معتقده. بل هو يذهب بعيدا لإثبات الأصل الوثني لاسمه الإسلامي حينما يزعم أن اسم (علي) مشتق من (EL ) وهو اسم الإله الأعظم عند السومريين...(ص46).
وهل يُخفي أدونيس إلحادَه؟ وهل يتردد الرجل في إعلان عدم إيمانه بأي دين؟
في(ص107) تسأله بنتُه: هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا حدود وبلا دين؟ فيجيبها بالحرف: "هناك كثير من الناس يعيشون بلا دين، وأنا واحد منهم. إني لا أؤمن بدين". وتعقب (نينار) قائلة: "وأنا كذلك. إذن، يمكن للإنسان أن يعيش مستقلا عن الدين..."
وتسأله عن علاقته بطائفته العلوية في سوريا، فيجيبها بأنها علاقة محصورة في الجانب الاجتماعي والتاريخي(ص187).
والدين عموما، عند أدونيس، ليس فيه ما ينفع الناس اليوم.
وحتى لا أثقل على القارئ الكريم بالتكرار، يمكن مراجعة ما أوردته في المقالات السابقة من آراء أدونيس الإلحادية وافتراءاته على الإسلام وأصوله وتاريخه.
والإسلام كما يرى الملحدُ أدونيس كان في عصوره الأولى "متسامحا"؛ ففي عهد العباسيين كان اللواط مقبولا ومعترفا به(ص174-175). وعند هذه النقطة تغمر البنتَ نشوةٌ، وهي تسمع أباها يعرض عليها هذه "التفاهات"، فتقاطعه من السعادة صائحة: "ممتاز! إنه أمر عظيم Bravo! C'est génial! !"(ص175).
أما عن الخمار الإسلامي، فلأدونيس فيه تفسيرٌ عجيب فضلا عن إنكار أصله القرآني؛ فهو يرى أن المرأة لمّا كانت هي المنافس الوحيد لصورة الإله، فإن الرجل ارتأى أن يغطيَها(ص158). وقد عبر أدونيس عن موقفه من المسلمات الفرنسيات المتحجبات أثناء المعركة السياسية والقانونية والحقوقية التي اندلعت في فرنسا بهذا الشأن. وقد كتب مقالة في الموضوع كان فيها مَلكيّا أكثر من الملك، لأنه تطرف إلى أقصى حدّ في التشنيع على المواطنات الفرنسيات المتحجبات، واتهامهن في إيمانهن ونياتهن، وأنهن لم يردن بالتزام الحجاب إلا السوء لجمهورية الأنوار والإخاء والمواساة..!!
في جملة، قد تسأل أدونيس عن جميع أشياء الدنيا، وجوابُه دائما هو هو، يرجع بك، في نواته الصلبة، إلى أن الإلحاد هو معدن النور والحداثة والإبداع، وأن الدين هو أصل كل الشرور وكل أشكال القيود والمظالم والنقائص على وجه الأرض.
هذا هو (أدونيس) الأب، وهذه هي بنته (نينار)، في محادثاتهما "الحداثية" إلى أقصى حد.
المقالة القادمةُ، إن شاء الله، ستكون خاتمةَ مقالاتي عن الوجه الآخر لأدونيس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 18 غشت 2011

الجمعة، 12 أغسطس 2011

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(5)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(5)
"الصّوفيّةُ" في ميزان العلماء الأثْبات


(1)
لقد أجمع علماءُ الأمة المعتَبَرون من الفقهاء والمحَدّثِين والصوفية، رغم اختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم ومناهجهم، وكثرة خصوماتهم-أجمعوا على التصدّي للمُتفلْسِفَة والمبتدعة والزنادقة والغلاة ممّن تسموا باسم الصوفية، تحلّوا بحِلْيتهم في الظاهر والباطنُ منطَوٍ على المخالفة والجرأةِ على شرع الله.
لقد كان العلماءُ على قلب رجل واحد في التشدد والإنكار على أهل الأهواء، عامة، من "نواب إبليس وشرطه"، كما ينعتهم ابن قيم الجوزية، رحمه الله، ومنهم طوائفُ التصوف الفلسفي الإلحادي.
وعلى هذا، فإن المتصوفة نوعان: الأولُ متصوفة أقرّ علماء الإسلام طريقَهم وشهدوا لهم بالصلاح بما هم "مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرُهم من أهل طاعة الله"، كما عبر ابن تيمية في فتاويه المشهورة(الفتاوي:ج11/ص18).
أما النوع الثاني فمتصوفة مدسوسون ومفضوحون بمقالاتهم وسلوكاتهم وأحوالهم، يرجع أمرُهم إلى الإلحاد في الدين، والطعن على الشريعة، فهم أهلُ كفر وضلال، لم تزلْ سهامُ علماء الأمة، على اختلاف طبقاتهم وتخصصاتهم، ترميهم من كل جانب، تفضحُهم وتردّ على ضلالاتهم وشبهاتهم، وتحذّر من شيطنتهم، وتحرض على مُزايلتهم، حتى تكشَّفت غوايتُهم وظهر للناس فسادُ عقائدهم، فأصبحوا في هامش المجتمع والتاريخ الإسلامي، مُفرَدين كالبعير المُعبَّد، كما عبّر الشاعر طرفة بن العبد. والبعير المعبّد هو المعزول عن الإبل لإصابته بداء العَبَد وهو الجَرَب الذي لا ينفعه دواء.
هذا هو الرأي المشهور في مقالات العلماء ومصادر المتصوفة الموثوق بها.
 أما أدونيس، وعلى طريقتِه اللاعلمية واللاموضوعية في التعامل مع المصادر والمراجع، فيكتفي من فتاوي الإمام ابن تيمية بما يوافق نظريَّته ويسير وفق منظوره، أي الفتوى المتعلقة بمتصوفة النوع الثاني، متصوفة الزندقة والإلحاد و"الأحوال الشيطانية"[يُراجع كتاب أدونيس حول "الصوفية والسوريالية"، ص17 و18]، ولا ينتبه، بل يسكت سكوتا مطلقا عن كون مذهب ابن تيمية في هذا الباب هو التمييز بين متصوفة السلوك على طريق الشرع، الذين يقر مذهبهم ويعظم مشايخهم ويستشهد بأقوالهم، ومتصوفةِ الزندقة والإلحاد، الذين ينعَى عليهم ضلالَهم وابتداعَهم، ولا يني ينتقدهم، وينقُض مقالاتهم، ويفضح عوراتِهم، ويشنّع عليهم، ويعُدّهم في أهل الأهواء والنحل الضالة.
والإمام ابن تيمية الذي رأى فيه أدونيس، حسب منظوره الخاص، ما أراد هو أن يرى فيه، لا كما هو في الحقيقة من كتاباته وفتاويه، ووصفَ فهمَه للصوفية-طبعا من خلال الفتوى التي انتقاها، والتي يطعن فيها ابن تيمية على المتصوفة الملاحدة- بأنه نموذج "للفهم التقليدي"(الصوفية والسوريالية،18)، أي "الفهم الظاهري التقليدي للنص القرآني"(نفسه)-
الإمامُ ابن تيمية هذا هو الذي يقول مميزا الصوفيةَ الصادقين ممّن انتسب إليهم من أهل الأهواء: "وقد انتسب إليهم[أي الصوفية الذين يُقرّ مذهبهم] طوائفُ من أهل البدع والزندقة. ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم…"(الفتاوي: ج11/18.)
لاحظ التقابلَ والتضاد، في عبارة الإمام ابن تيمية، بين "المحققين من الصوفية" وبين "المنتسبين إليهم" من أهل البدع والزندقة.
وفي سياق آخر ينبه الإمامُ ابن تيمية المؤمنَ إلى ضرورة التفرقة بين الزنادقة "الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل "الحلول والاتحاد"…وبين العالمين بالله والمحبين له، أولياءِ الله…فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء…والله قد جعل آياتٍ وعلامات وبراهين، "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.""(نفسه: ج11/77.)
وقبل الإمام ابن تيمية، ها هو الأستاذ عبد الكريم القشيري، الذي رجع إليه أدونيس كثيرا في بعض المسائل، التي تُعَضِّد دعاويه، في كتابه "الصوفية والسوريالية"، وليس لمعرفة حقيقةِ التصوف وحقيقة أهله الصادقين-ها هو هذا الفقيه الشافعيّ الأصوليّ الأديب، كما يصفه مترجموه، في مقدمة رسالته المشهورة، يذكر أنه لم يبق في زمانه -تُحدد بعض الروايات عمره بين 386هـ و465هـ-من الصوفية إلا أثرُهم، ثم ينشد متمثلا(الرسالة القشيرية، ص36):
"أما الخيامُ فإنها كخيامـهم***وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائها"


ثم يصف الحالَ الذي آل إليه التصوف حيث فشا رفضُ التمييز بين الحلال والحرام، والاستخفافُ بأداء العبادات، والاستهانةُ بالصوم والصلاة، ومضى الناس "في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق[أي الاستعانة]بما يأخذونه من السُّوقَة والنساء وذوي السلطات…"(نفسه)
وهذا الإمام ابن قيم الجوزية، الفقيه الحنبلي المشهور، نجده في أكثر من موضع من كتاباته، وخاصة في "مدارج السالكين" و"إغاثة اللهفان"، يسوق كلامَ الصوفية من أهل الصدق والاستقامة مساقَ الحجة والدليل على تهافت أمر الزنادقة المبتدعة.
فهو يذكر، مثلا، أن من كيد الشيطان "أنه يُحسِّن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العملَ بهاجسهم وواقعهم دون تحكيم أمرِ الشارع، ويقولون: القلبُ إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسُه وخواطرُه معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيدِ العدو فيهم."(إغاثة اللهفان: 1/143.)
ومما ردّ به ابن القيم على هؤلاء الجهال الذين يحكمون بهواجسهم وخواطرهم على الكتاب والسنة، ويزعمون أنهم إنما يأخذون بالحقائق، وغيرهم يتبع الرسوم-مما ردّ به على هؤلاء المدّعين: "أن أهل الاستقامة منهم[يريد الصوفية الصادقين]سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليه شاهدان."(نفسه،1/145)
وقوله "حتى يقوم عليه شاهدان" يشير إلى قول أبي سليمان الداراني: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم، أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة."

(2)
ولا شك أن أدونيس، الذي رجع إلى رسالة الأستاذ القشيري أكثر من مرة، قد قرأ أن الأستاذ القشيري قد جعل المدخلَ إلى كتابه الحديثَ عن "أصول التوحيد عند الصوفية"، من معرفة الله، وصفاته، والإيمان، والأرزاق، والكفر، والعرش، والحق سبحانه.(تُراجع "الرسالة القشيرية"، ص39 وما بعدها.)
ولعل كتابَ "التعرف لمذهب التصوف"، للإمام أبي بكر محمد ابن إسحق الكلاباذي، المتوفَّى سنة 380هـ، من أشهر التصانيف الأولى التي تصدّت للدفاع عن التصوف والصوفية، وإظهارِ براءة طريق القوم مما دسّه المبتدعةُ والبطّالون من خرافات واعتقادات منحرفة وسلوكات باطلة، ومما شابها من جرّاء ضلالات الزنادقة والفلاسفة الملحدين من أفكار وتأويلات ومقالات لا تمتّ بسبب إلى أصول الشرع في كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.
ونظرا لأهمية مسألة الاعتقاد، وخاصة وأنها كانت على عهد زمان المؤلف مسألةً حساسة بين طوائف المسلمين وغيرهم من أهل الأهواء والزندقة، فقد خصص لها الإمام (الكلاباذي) في كتابه أبوابا كثيرة، بدأها في الباب الخامس بِـ"شرح قولهم في التوحيد"، وفي الباب السادس بِـ"شرح قولهم في الصفات"، إلى آخر مباحث ما اصطلح عليه بعلم الكلام، وما يتعلق به من موضوعات كانت دائما مدار خلاف واسع بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف، كاختلافهم في الأسماء والصفات، واختلافهم حول القرآن، أقديم هو أم مخلوق، واختلافهم حول الرؤية، والقدر، والوعد والوعيد، والشفاعة، والروح، والملائكة.
وهذا الكتابُ، ومعه كتب أخرى، ألّفَها أصحابُها لجلاء حقيقة الاعتقاد في أصول التصوف، مُفحِمٌ لأدونيس وأمثاله الذين لا يرون في التصوف إلا نقيضَ الإسلام والإيمان "التقليدي"، وأنه تجربة قائمةٌ على مخالفة أصول العقيدة وأحكام الشريعة.
وملخص الكلام في هذا الموضوع أن أصول عقيدة المتصوفة، وكذلك أدلتهم القطعية والظنية فيما ذهبوا إليه في مقالاتهم وسلوكاتهم، وكذلك احتجاجاتهم وتفسيراتهم لما اجتهدوا فيه من مسائل الخلاف، كلّ ذلك نجده مدونا ومبسوطا في مظانه الموثوقة المعتمدة لدى طلاب الحق والإنصاف، كالرسالة القشيرية، و"التعرف لمذهب التصوف"، و"إحياء علوم الدين"، و"اللمع في التصوف"، و"عوارف المعارف"، و"مدارج السالكين"…
وكذلك رقائقهم ومواعظهم وما كانوا يتداولونه في مجالس النصيحة والتذكير التي كانوا يعقدونها، فهي محفوظة في كتب مثل "الفتح الرباني والفيض الرحماني"، للشيخ عبد القادر الجيلاني(توفي سنة 561هـ)، و"البرهان المؤيد"، للعارف بالله الشيخ أحمد الرفاعي الحسيني(توفي سنة 578هـ).
هذه هي المصادر الموثوقة والمظان المطلوبة، فضلا عن كتب التراجم والوفيات والطبقات والتواريخ، للتعرف على حقيقة التصوف، وليس كتب المتفلسفة وأشباهها من مجمّعات الغث والسمين، المعتمدة لدى طلاّب المثالب والتجريح والتشنيع، أو طلاب التمويه والتلفيق والتلبيس والتنميس.

(3)
لقد كان المشايخُ من الصوفية الصادقين من أشد المسلمين حرصا على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تتلبّسَ بهما البدعُ، أو تنالهما تحريفاتُ الغالين الجهال، وعقائدُ الزنادقة الكفار.
يقول ابنُ رجب الحنبلي في ترجمة الشيخ عبد القادر الجيلاني الصوفي المشهور: "ظهر الشيخُ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة، وحصل له القبولُ التام من الناس، واعتقدوا ديانتَه وصلاحَه، وانتفعوا به وبكلامه ووعظه، وانتصر أهلُ السنة بظهوره، واشتهرت أحوالُه وأقواله وكراماته ومكاشفاتُه، وهابه الملوكُ فمن دونهم."(كتاب الذيل على طبقات الحنابلة: 1/291-292.)
السُّنّةُ تنتصر بالتصوف ! وكيف يتفق هذا إن لم تكن السنةُ هي لبّ هذا التصوف وعمادَه وقوامَه؟
هذه مقالةٌ مردودةٌ عند من ليس معه من الشواهد إلا ما شذَّ وكان استثناء، أو ما كان مدسوسا مفترىً، معدنُه الأهواءُ والزندقة والضلال، أو ما كان مُنتخَبا حسب المطلوب ولحاجة في نفس المُنتَخِبين.
يكفينا في هذا الموضوع ما نقله ابنُ قيم الجوزية من إجماع الشيوخ العارفين على ضرورة ملازمة السالك للعلم.
قال في مطلع حديثه عن منزلة "العلم": "وهذه المنزلة إن لم تصحب السالكَ من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكُه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريقُ الوصول، مسدودٌ عليه سبلُ الهدى والفلاح، مغلقةٌ عنه أبوابُها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين. ولم ينه عن العلم إلا قطّاعُ الطريق منهم، ونوابُ إبليس وشُرَطُه."(مدارج السالكين: 2/464) وهو يقصد بِـ"قطّاع الطريق" و"نواب إبليس وشرطه" الأدعياءَ من أهل الزندقة والأهواء، المدسوسين على الصوفية زورا وبهتانا.
ويَذكُر في مكان آخر وصيةَ القوم بالعلم، ثم يقول: "…وعامةُ من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيْره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب. فهذا فتنة، والفتنة به شديدة."(نفسه: 1/158)

(4)
وأختم تعليقاتي على المنظور الأدونيسي بأقوال مختارة لبعض المشايخ تناسب هذا المقام، راعيت فيها التمثيلَ والاختصار.
"قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيدُ بن محمد، رحمه الله: الطرق كلُّها مسدودةٌ على الخلق إلا من اقتفى آثارَ الرسول، صلى الله عليه وسلم."(مدارج السالكين: 2/464) وزيد في رواية: "واتبع سنتَه ولزم طريقتَه، فإن طرقَ الخيرات كلها مفتوحة عليه."(طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، ص159)
"وقال: من لم يحفظ القرآنَ ويكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمَنا مقيّدٌ بالكتاب والسنة.
"وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة."(مدارج السالكين: 2/464)
"وقال ابن عطاء: كل ما سألت عنه فاطلبْه في مفازة العلم، فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة. فإن لم تجده فزنْه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجهَ الشيطان."(نفسه: 2/466)
"وقال أبو الحسن النوري: من رأيته يدّعي مع الله حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربْه. ومن رأيته يدعي حالةً لا يشهد لها حفظُ ظاهرِه فاتهمْه على دينه…
"وقال أبو حفص الكبير الشان: من لم يزن أحوالَه وأفعاله بالكتاب والسنة، ولم يتهمْ خواطرَه فلا تعدوه في ديوان الرجال."(نفسه: 1/146)
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني في بعض مجالسه: "…الروح هو الإخلاص والتوحيدُ والثبات على كتاب الله وسنة رسوله. لا تغفلوا، اعكسوا تصيبوا، امتثلوا الأمرَ وانتهُوا عن النهي ووافقوا القدر…"(الفتح الرباني، ص71)
"إنما أريدكم لكم، في حبالكم أفتل. تبتدعُ وتُحدث في دين الله، عز وجل، شيئا لم يكن. اتبع الشاهدين العدلين الكتابَ والسّنة، فإنهما يوصلانك إلى ربك، عز وجل. وأما إن كنت مبتدعا فشاهداك عقلُك وهواك."(نفسه، ص152)
"إن الله، عز وجل، لا يقبل قولا بلا عمل، ولا عملا بلا إخلاص، ولا يقبل شيئا في الجملة غيرَ موافق لكتابه وسنّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم…"(نفسه، ص159)
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي: "أي سادة، إياكم والدّجّاليةَ، إياكم والشيطانيّةَ، إياكم والطرقَ التي تقود إلى كلا الوصفين. أخْجِلوا الشيطان بخالص الإيمان. خرّبوا بيْع الدّجل بيد الصدق.
"الطريق واضح: صلاة، وصوم، وحج، وزكاة. والتوحيد والشهادة برسالة الرسول، عليه الصلاة والسلام، أول الأركان. واجتناب المحرّمات حال المؤمن مع الله، وهذا هو الطريق."(البرهان المؤيد، ص69-70)
"أي سادة، كونوا مع الشرع في آدابكم كلِّها، ظاهرا وباطنا. فإن من كان مع الشرع ظاهرا وباطنا كان الله حظه ونصيبه. ومن كان الله حظه ونصيبه كان من أهل مقعد صدق عند مليك مقتدر."(نفسه، ص75)
وبعد، فهل هناك، في شأن عقائد الصوفية الصادقين، بيانٌ بعد هذا البيان؟
في المقالة القادمة، إن شاء الله، ملمحٌ جديد من ملامح الوجه الآخر لأدونيس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 12 غشت 2011